لماذا هذا الصمت العربي أمام ما يحدث في حق السوريين من جرائم حرب، وتهجير ممنهج؟ «أيام حماة» كان بإمكان الجميع الصمت على المجزرة، المجازر الآن تتنقل من جسر الشغور إلى حمص، إلى إدلب، ومن درعا وحلب إلى الغوطة، المختلف ليس ثورة الاتصالات التي جعلت ما يحدث منذ 2011 على مرأى من الجميع، هناك مختلف آخر: الموقف العربي من التدخلات الأجنبية بشكل معلن، ومن منطلقات طائفية سافرة، تراجع الخطاب القومي وحل محله خطاب طائفي يبرر هذه التدخلات الأجنبية، قارن هذا بمرحلة الاستعمار، وأعقاب ما كان يعرف بحركات التحرر الوطني، إذا كان الموقف الدولي مما يحدث في سورية ليس مفاجئاً، فإن الموقف العربي مفاجئ ومدهش.
يبدو العرب عاجزون أمام تفشي الطائفية، والتدخلات الأجنبية، بل يبدو أحياناً وكأنهم غير معنيين، يقال إن هذا زمن الوهن السني، وهذا صحيح، والأصح أنه زمن الوهن العربي بسنته وشيعته ومسيحييه وغيرهم، صحيح أن الطائفية أبرز مصادر الوهن الآن، لكن هذا عارض لشيء آخر، اسأل نفسك: لماذا لم تكن الطائفية كذلك قبل الغزو الأميركي للعراق، وقبل الربيع العربي، وخاصة في سورية؟ ثم تنبّهْ إلى أن السؤال لا يعني أن أميركا أو روسيا مسؤولة عن تفجير الطائفية، قد تستفيد إحداهما أو كلتاهما من الطائفية ومترتباتها، وقد تتضرر أيضاً، لكن عناصر وصواعق التفجير محلية وإقليمية. روسيا مثلاً تستفيد من الميليشيات الإيرانية في سورية، وأميركا تفعل الشيء ذاته في العراق.
المدهش هذا الحضور الأجنبي والغياب العربي، هل هناك تواطؤ بين أميركا وروسيا وإيران؟ الأرجح لا، السؤال الأهم في مثل هذه الحالة: لماذا قبلت الحكومة العراقية بعد الاحتلال الأميركي بأن يتحول البلد إلى ساحة صراع طائفي، وسمحت لإيران بأن تكون طرفاً في هذا الصراع؟ في حالة سورية أيضاً استدعى النظام تدخل إيران بكل ميليشياتها العربية وغير العربية، لاحظ أن هذا يتم تحت ظلال «حزب البعث»، في كلتا الحالتين التدخل الأجنبي (الطائفي) يتم بغطاء رسمي معلن، كيف يستقيم للبعض، والحال كذلك، القول إن الغرب هو الذي يوظف الطائفية لتمزيق العالم العربي؟ هذا قول ينم عن سذاجة سياسية باذخة، توفر غطاء ثقافياً، من حيث لا تحتسب لتدخلات تستدعيها مصالح وسياسات محلية، وتتسبب بتمزيق النسيج الاجتماعي لتلك الدول.
في منظومة الموقف العربي مما يحدث في سورية، يبرز موقف الجزائر والمغرب ومصر، ثلاث من أكبر الدول العربية، تبدو فرادى ومجتمعة خارج اللعبة، وخاصة الجزائر والمغرب، صمت هذه الدول أمام هول ما يحدث للسوريين يصم الآذان، وهو صمت لا يطاول الموقف من النظام وحسب، بل يمتد ليشمل الوجود الإيراني والروسي ودوره في ما يحدث، لا يعني الصمت هنا قبول بالمجازر التي يتعرض لها السوريون، لكنه يعني عدم اكتراث بخطورة ما يحدث، ويستند إلى واقعية مشوهة، وربما مزيفة، هي خليط من العجز والانتهازية وضعف الحيلة في الوقت ذاته، هي واقعية مغلفة، وخاصة في حالة مصر، بخطاب أجوف عن العروبة ورفض الطائفية، لكنه رفض لطيف طائفي معين يشكل تهديداً مباشراً، وليس رفضاً للطائفية بكل تجلياتها. ومن منظور استراتيجي، سيقال إن السعودية أيضاً لم يعد لها صوت مرتفع عن سورية أخيراً، وهذا صحيح، لكن يمكن القول إننا في هذه الحالة أمام واقعية حقيقية تفرض نفسها، فمع الانكفاء الأميركي، وانكفاء العرب، وخاصة الدول الثلاث، وعجز أوروبا، والوضع في اليمن، يضاف إلى ذلك أزمة قطر، وتقلّب مواقف تركيا من الأزمة السورية، ماذا يمكن السعودية وحدها أن تفعل؟ على الأقل لم يتغير موقف السعودية من النظام، وفي الوقت ذاته لا يسعها إلا التفاهم وتعطيل مفاعيل الصدام مع روسيا، وذلك في ضوء خصومتها مع إيران، وارتباك علاقتها مع تركيا. هاتان الدولتان تشكلان الآن مع روسيا محوراً داخل سورية، وهو محور فرضته حاجة مباشرة لكل واحدة من هذه الدول وليس مصالح استراتيجية تجمع بينها.
بدوره، يعبر الموقف المغربي عن عزلة اختيارية عن مشكلات المشرق، كأن الرباط ترى أن هذه المشكلات مزمنة، وإمكان حلها وتجاوزها لا تبدو في الأفق. وبالتالي فالموقف الأسلم في هذه الحال هو الالتزام بمبدأ «النأي بالنفس» عن الجميع، أما الموقف الجزائري فقد يكون الأكثر مثاراً للدهشة، فهو لا يكتفي بالصمت على جرائم النظام، ولا على الوجود العسكري الإيراني والروسي والميليشيات داخل سورية لدعم النظام، بل هو مع ذلك مستمر في التقارب مع إيران وتعزيز علاقاته معها، ومثار الدهشة هنا أن الأسد كرئيس دولة هو الحليف الوحيد لطهران في العالم العربي، ما يجعل من إيران بأمس الحاجة لحليف عربي آخر بجانب الأسد يخفف من عزلتها الرسمية عربياً، تدرك إيران أن تحالفاتها في العالم العربي من لون مذهبي واحد يعزز ويؤكد الطبيعة الطائفية لدورها في المنطقة، وتحالفها مع الأسد، وهو العلوي، لا يخرج عن ذلك، وبالتالي هي في أمس الحاجة لحليف سني يموه صورة هذا التحالف، وفي نظر إيران الجزائر هي مثل هذا الحليف، بالنسبة إليها هذا بلد عربي كبير أغلبية سكانه من السنة، ويحتل في الذاكرة الجمعية العربية أنه بلد المليون شهيد على خلفية ثورته ضد الاستعمار الفرنسي، لكن موقف الحكومة الجزائرية يوحي وكأن الأمر على العكس من ذلك، كأن الجزائر هي الأكثر حاجة لمثل هذا التحالف، وهو موقف، ومعه الموقف المصري، لا يمكن تفسيره بالطائفية، كل منهما يرفض الطائفية من حيث المبدأ، لكن يجمع كل منهما مع النظام السوري عصبية أخرى، هي عصبية حكم العسكر، ما يعني أن المصلحة السياسية المباشرة للنظام تغلبت على المبدأ، وهو ما ينطوي على تناقض قاتل، من حيث إنه يعتبر بقاء النظام حاجزاً في وجه الميليشيات، مع أنه نظام عصبيته وتحالفاته النهائية طائفية، ويعتمد على الميليشيات أيضاً. بعبارة أخرى، يوفر موقف كل من الجزائر ومصر غطاء للطائفية من حيث يريد كل منهما محاربتها.
غابت الرؤية الاستراتيجية في الصراع مع إسرائيل، وهي تغيب الآن أمام طائفية تتهدد الجميع، وتدخلات أجنبية من دول وميليشيات تتحدى بنية الدول العربية وشرعيتها، وهذه الدول تبدو ليست في عجلة من أمرها، كأن التاريخ يعيد نفسه.
*نقلا عن صحيفة الحياة