أخفقت الوساطات الدولية ومحاولات التهدئة وضغوط القوى الكبرى في إثناء تركيا عن عزمها التدخل العسكري في عفرين، حيث أعلن الجيش التركي في 20 يناير 2018 تطوير العملية العسكرية في عفرين التي أطلق عليها "غصن الزيتون". وبهذا الإعلان، يبدأ فصلٌ جديدٌ للتدخل العسكري التركي في سوريا والذي بدأ منذ أغسطس 2016 بإطلاق عملية "درع الفرات" بهدف طرد تنظيم "داعش" من مدينة "جرابلس"، ودفعه بعيدًا عن الحدود التركية باتجاه الجنوب، ومنع الميليشيات الكردية من تحقيق تواصل جغرافي بين الأراضي التي تسيطر عليها في شمال سوريا، ثم انتشار قوة عسكرية تركية في أكتوبر 2017 في محافظة إدلب في إطار اتفاق "مناطق خفض التصعيد" في سوريا الذي تقرر خلال محادثات أستانة التي تجري برعاية تركيا وإيران وروسيا.
مؤشرات التصعيد:
أعلن الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" في يناير الجاري، خلال كلمته أمام المؤتمر الاعتيادي السادس لحزب العدالة والتنمية، بدء عملية عسكرية في مدينة "عفرين" بشمال سوريا ضد مقاتلي "حزب الاتحاد الديمقراطي" الكردي المتمركزين في المدينة، والذي تصنّفه تركيا وذراعه العسكرية "وحدات حماية الشعب" منظمة إرهابية باعتباره الفرع السوري لـ"حزب العمال الكردستاني".
وبدأت العملية العسكرية التركية في "عفرين" بقيام القوات التركية المتمركزة قرب الحدود السورية ظهر يوم 13 يناير بقصف مدفعي مكثف ضد مواقع مقاتلي "وحدات حماية الشعب" الكردية، وذلك بالتزامن مع مواصلة الجيش التركي تعزيز حصاره لمدينة "عفرين" من أربع جهات استعدادًا لشن هجوم بري ضد المدينة لطرد المقاتلين الأكراد منها. فمن جهتي الشمال والغرب تتمركز القوات التركية داخل الأراضي التركية على طول الحدود المحاذية للمدينة، ومن الجنوب تتمركز القوات التركية في إدلب التي توجد بها ثلاث قواعد عسكرية أقامتها تركيا تطل على مدينة "عفرين".
كما قام الجيش التركي بإرسال مزيدٍ من التعزيزات العسكرية إلى الحدود مع سوريا، وأرسلت تركيا تجهيزات عسكرية لقواعدها في الداخل السوري شملت دبابات وناقلات جند وعربات مدرعة إضافة إلى رشاشات متوسطة وثقيلة. بينما من الشرق تتمركز قوات المعارضة السورية المدعومة من تركيا في مدينة "أعزاز" الملاصقة "لعفرين"، ومن المتوقع مشاركة نحو 3 آلاف عنصر من الجيش السوري الحر في الهجوم البري المحتمل ضد المدينة.
وفي 20 يناير 2018، كثّفت القوات الجوية التركية غاراتها الجوية ضد مناطق تمركز الفصائل الكردية، كما نشبت اشتباكات عنيفة على حدود عفرين الشمالية، ونشرت أنقرة أيضًا منظومات كورال التركية القادرة على تشويش الرادارات على الحدود السورية - التركية، وهو ما أدى إلى وقف تحليق الطائرات الأمريكية والروسية ليلًا بسبب قدرة المنظومة على التشويش على الطائرات الحربية وعلى منظومات الدفاع الجوي، بما فيها منظومة إس-400 الروسية.
وفي المقابل، بدأت القوات الكردية استعداداتها لمواجهة أي هجوم بري محتمل ضدها من قبل تركيا وقوات المعارضة السورية المدعومة منها، حيث أعلنت "وحدات حماية الشعب" الكردية استعدادها لصد أي هجوم تركي، وانتشر المقاتلون الأكراد شرق المدينة لمواجهة أي هجوم من قبل قوات المعارضة السورية المتمركزة شرق المدينة، كما قاموا بإقامة تحصينات وحفر خنادق وأنفاق استعدادًا لمواجهات طويلة ضد القوات المهاجمة، وإجبارها على خوض حرب استنزاف.
دوافع متعددة:
يستهدف إعلان الرئيس التركي أردوغان شن عملية عسكرية ضد المقاتلين الأكراد في عفرين تحقيق ثلاثة أهداف أساسية:
1- تحجيم الاتجاهات الانفصالية: تستهدف تركيا من خلال العملية العسكرية في عفرين منع إقامة دولة كردية أو منطقة حكم ذاتي للأكراد بموازاة الحدود التركية في شمال سوريا، وهو أحد الأهداف التي شنت من أجلها تركيا عملية "درع الفرات" في أغسطس 2016؛ فتركيا ترى أن إقامة هذه الدولة تُشكل تهديدًا لأمنها القومي ولتماسك الدولة التركية، حيث تخوض الدولة التركية صراعًا مسلحًا منذ الثمانينيات ضد "حزب العمال الكردستاني" الذي يهدف لإقامة منطقة حكم ذاتي للأكراد في مناطق تواجدهم في شرق وجنوب شرق تركيا.
2- تفكيك قوات حرس الحدود: تأتي العملية العسكرية التركية ردًّا على اعتزام التحالف الدولي ضد "داعش" الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية تأسيس "قوة أمن الحدود السورية" في شمال سوريا وشرقها بهدف حماية الحدود مع تركيا والعراق، وتتألف هذه القوة من 30 ألف جندي نصفهم من مقاتلي "قوات سوريا الديمقراطية" التي يُهيمن عليها المقاتلون الأكراد، حيث هدد أردوغان بـ"وأد هذه القوة في مهدها"، متهمًا الولايات المتحدة بتأسيس "جيش إرهابي" على حدود تركيا، وتعهد أردوغان بتوسيع نطاق العملية العسكرية التركية الجديدة لتشمل مدينة منبج وباقي المناطق السورية الواقعة شرق نهر الفرات والتي تخضع لسيطرة المقاتلين الأكراد، وهو ما يُعد بمثابة إعلان تركي للحرب ضد أكراد سوريا.
3- تعزيز النزعة القومية: ويتمثل في التوظيف السياسي للعملية العسكرية في عفرين لصالح أردوغان وحزبه "العدالة والتنمية" في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقرر إجراؤها العام المقبل، وذلك بكسب مزيد من أصوات الناخبين الأتراك من خلال إثارة النزعة القومية لديهم، خاصة وأن هذه الانتخابات على درجة كبيرة من الأهمية بالنسبة لأردوغان وحزبه، فهي أول انتخابات يتم إجراؤها بعد إقرار التعديلات الدستورية في أبريل 2017 التي حولت تركيا إلى النظام الرئاسي.
ترتيبات مسبقة:
اقتصرت العملية العسكرية التركية في عفرين منذ إعلانها في 13 يناير 2018 على عمليات القصف المدفعي دون تدخل بري أو شن ضربات جوية إلى أن تم الإعلان عن انطلاق عملية "غصن الزيتون"، ويرجع هذا التأخير إلى غياب التفاهمات بين تركيا وروسيا في البداية حول العملية العسكرية التي ترغب تركيا في شنها، فالتفاهمات الروسية التركية في سوريا لا تسري على الملف الكردي، فروسيا لا تصنف حزب العمال الكردستاني كمنظمة إرهابية، وتستضيف مكتبًا لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري على أراضيها، وترغب في إشراكه في جلسات الحوار السوري بمدينة سوتشي. هذا فضلًا عن رفض إيران والنظام السوري لهجوم بري أو جوي تركي في مدينة عفرين السورية، وذلك رغم تبني كل من تركيا وروسيا وإيران والنظام السوري مواقف واحدة ضد الإعلان الأمريكي بتشكيل "قوة أمن الحدود".
وسعت تركيا خلال هذه الفترة إلى الحصول على ضوء أخضر روسي للبدء في هجومها الجوي والبري على عفرين، ففي 18 يناير عقد رئيس أركان الجيش التركي "خلوصي آكار" ورئيس الاستخبارات التركية "هاكان فيدان" اجتماعًا مع كلٍّ من رئيس الأركان الروسي "فاليري جيراسموف" ووزير الدفاع الروسي "سيرجي شويجو" بالعاصمة الروسية "موسكو" لبحث العملية العسكرية التركية في مدينة عفرين، كما طلبت تركيا من روسيا إغلاق أنظمة الدفاع الجوي "إس 400" المنشورة في قاعدتي "حميميم" و"اللاذقية" بما يسمح لطائراتها الحربية بالتحليق فوق عفرين.
وقد نجحت الجهود التي قامت بها تركيا في الحصول على الموافقة الروسية، حيث أعلنت وزارة الدفاع الروسية في 20 يناير سحب قواتها من منطقة عفرين إلى منطقة تل رفعت لمنع الاستفزازات المحتملة، واستبعاد الخطر الذي قد يُهدد حياة الجنود الروس. وحمَّلت روسيا -في الوقت نفسه- الولايات المتحدة الأمريكية المسئولية عن العملية العسكرية التي أطلقتها تركيا في عفرين لأنها جاءت نتيجة الخطوات الاستفزازية التي اتخذتها بهدف عزل المناطق التي يسكنها الأكراد بإنشائها "قوة أمن الحدود" في المناطق المجاورة لتركيا.
وقد جاءت الموافقة الروسية الضمنية مباشرة فور إعلان النظام السوري سيطرته الكاملة على مطار "أبو الظهور" العسكري الاستراتيجي، والذي كان النظام وحلفاؤه يسعون للسيطرة عليه منذ مطلع شهر يناير الجاري، غير أنهم فشلوا أكثر من مرة نتيجة مقاومة الفصائل المدعومة من تركيا. وهو ما يُشير إلى احتمالية حدوث صفقة بين تركيا من جهة وروسيا والنظام من جهة أخرى بالتنازل عن المطار مقابل السماح لها بدخول مدينة عفرين، وذلك على غرار صفقة "حلب مقابل الباب" في ديسمبر 2016 عندما تخلّت تركيا عن المعارضة السورية في مدينة حلب التي سيطر عليها النظام السوري وحلفاؤه مقابل السماح لقوات المعارضة السورية المدعومة من تركيا بالسيطرة على مدينة الباب. ويعزز من ذلك إعلان وزير الخارجية التركي "جاويش أوغلو" أن بلاده أبلغت النظام السوري بالعملية العسكرية في عفرين السورية، بيد أن مصدرًا رسميًّا بوزارة الخارجية السورية صرح لوكالة الأنباء السورية الرسمية "سانا" في 20 يناير "أن سوريا تنفي جملة وتفصيلًا ادعاءات النظام التركي بإبلاغها بهذه العملية العسكرية".
كما جاءت الموافقة الضمنية بعد تأكدها من أن الأكراد باتوا الأداة الرئيسية للولايات المتحدة الأمريكية في سوريا لاستعادة نفوذها هناك بعد فترة من الانفراد الروسي بالتحكم في مجريات الأمور في سوريا.
تخوفات تركيا:
في ضوء الإعلان التركي الرسمي عن انطلاق عملية "غصن الزيتون" والتي تبعها قصف جوي تركي لمدينة عفرين، من المرجح اقتصار العملية العسكرية التركية -في بدايتها- على توجيه ضربات مدفعية وصاروخية مكثفة مع قصف للطائرات الحربية التركية لمواقع المقاتلين الأكراد بهدف إجراء عملية استنزاف للقوات الكردية في المدينة، يتبعها بعد ذلك اجتياح بري لقوات المعارضة السورية للمدينة مدعومة بآليات وقوات خاصة تركية مع توفير غطاء جوي لها.
وبرغم الإصرار التركي على اجتياح المدينة، وطرد المقاتلين الأكراد منها، إلا أن هناك تخوفًا تركيًّا من التورط في حرب استنزاف طويلة في عفرين، وذلك في ظل تعقد تضاريس مدينة عفرين الجبلية التي يعرفها المقاتلون الأكراد جيدًا، والذين يتمتعون -في الوقت ذاته- بتسليح روسي وأمريكي متطور وخبرة كبيرة اكتسبوها من مواجهاتهم مع تنظيم "داعش"، فضلًا عن تخوف تركيا من تقلبات الموقفين الروسي والأمريكي على المدى البعيد من الأكراد، فالولايات المتحدة لا تزال رافضة للعملية العسكرية التركية، وطالبت تركيا بالتركيز على محاربة "داعش"، كما أن الخارجية الروسية أعلنت قلقها من بدء تركيا هجومها الجوي والبري في عفرين، ودعت كافة الأطراف إلى ضبط النفس.
ختامًا، من الواضح أن تركيا أصبحت عازمة على شن عملية عسكرية شاملة لإبعاد مسلحي "حزب الاتحاد الديمقراطي" الكردي عن حدودها مع سوريا، والقضاء على حلم إقامة دولة كردية في شمال سوريا، وهو ما تجسّد في إعلان الرئيس التركي أردوغان أن بلاده ستسعى لتطوير هذه العملية لتمتد بعد ذلك إلى منبج والحدود العراقية، وهو ما سيضع تركيا في مواجهة مع الولايات المتحدة الأمريكية التي تُعد الداعم الأساسي لأكراد سوريا، والتي ينتشر عددٌ من جنودها في مدينة "منبج"، وسيدفعها هذا لتقديم مزيدٍ من التنازلات للنظام السوري وحلفائه من الروس والإيرانيين للسماح لها بالسيطرة على مزيدٍ من الأراضي في شمال سوريا، وهو ما يعكس أن الأولوية التركية في سوريا باتت مواجهة الخطر الكردي وليس إسقاط النظام.