تغيرت نماذج قيادة النظام العالمي في القرن الماضي وما مر حتى الآن من القرن الحادي والعشرين، فمن نموذج تعددي قبل الحرب العالمية الثانية انتهى بنهايتها إلى نموذج ثنائي القطبية تبلور في النصف الثاني من الخمسينيات حول قيادة أميركية- سوفييتية للنظام العالمي. وبوصول ميخائيل جورباتشوف إلى رأس السلطة في الاتحاد السوفييتي بدأ عملية إصلاح سرعان ما انتهت بتفككه لتنفرد الولايات المتحدة، إلى حين، بقيادة أحادية للعالم تجلت في قرار غزو العراق الذي تحدت به العالم بما فيه مجلس الأمن الذي رفض أن يعطيها رخصة للغزو. وكانت المفارقة التاريخية أن هذا الغزو ذاته، وما أفضى إليه من مقاومة ضارية من قِبَل الشعب العراقي، مثل اللبنة الأولى في صرح تعددية جديدة ناشئة سرعان ما تعززت بنجاح القيصر الجديد في روسيا في عملية إعادة البناء التي أعادت ظهور هذه القوة الكبرى مجدداً على مسرح التأثير الدولي، ناهيك بقطار الصين السريع باتجاه الوصول إلى محطة القوى العظمى، وتطور الاتحاد الأوروبي وعدد من القوى الكبرى الأخرى كاليابان والهند وغيرهما. وهكذا بدا أن الولايات المتحدة، وإن احتفظت بمكانتها كأقوى دولة في العالم، قد فقدت الاحتكار الذي تمتعت به بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، وربما كان أقوى دليل على ذلك هو ساحة الصراع في سوريا حيث انسحبت الولايات المتحدة تحت حكم أوباما منها بينما ألقت روسيا بثقلها العسكري من خلف النظام السوري حتى باتت تتمتع باليد العليا في إدارة الصراع.
وبوصول ترامب إلى سدة الرئاسة في مطلع العام الجاري بدا وكأنه يريد أن يُحدث تغييراً جذرياً فيما جرى قبله بحيث يعيد أميركا «عظيمة» كما كانت، وبدأ يتخذ سلسلة من المبادرات غير المألوفة تجاه خصومه وحلفائه، فيمنع مواطني دول إسلامية من دخول الولايات المتحدة بدعوى حمايتها من الإرهاب، ويهدد بتدمير كوريا الشمالية، وإنهاء الاتفاق النووي مع إيران. ويبدي امتعاضه من أعضاء حلف الأطلسي الذين لا يدفعون تكاليف الحماية الأميركية لهم، ومعهم عدد من الدول الحليفة الأخرى، ويهدد بإلغاء اتفاقيات التجارة الحرة الجماعية، وتوج هذا كله باعترافه رسمياً بالقدس عاصمة لإسرائيل في اختبار حقيقي للقيادة الأميركية للعالم. والقدس ليست كأي قضية أخرى فهي تعني الأديان السماوية الثلاثة، وهي محمية بسياج من مبادئ القانون الدولي وقرارات المنظومة الدولية بدءاً بمبدأ عدم جواز اكتساب الأراضي بالقوة المسلحة وانتهاء بسلسلة من القرارات الدولية التي تتنافى مع أن تكون القدس عاصمة لإسرائيل. فقرار تقسيم فلسطين في 1947 يجعل منها كياناً دولياً، وقرار مجلس الأمن في 1967 يؤكد على عدم جواز اكتساب الأرض بالقوة المسلحة ويدعو إسرائيل إلى الانسحاب من الأراضي التي احتلتها في حرب 1967، وكذلك قراره 1980 بدعوة الدول التي لها سفارات في القدس إلى سحبها. ولا يستطيع المرء أن يجزم بما إذا كان ترامب ورجال إدارته قد توقعوا رد الفعل الدولي على النحو الذي جاء عليه أم لا، ولكن المؤكد أن ردود الفعل الدولية جاءت أقوى من المتوقع بكثير، وبالذات من الدول الأوروبية وبصفة خاصة بريطانيا، وهكذا وجد ترامب أن جميع أعضاء مجلس الأمن سوى بلده قد وافقوا على مشروع القرار المصري الذي ينسف قراره، وهو أمر لاشك أقلقه كثيراً على العكس مما يدعيه البعض من أن هذه المواجهات الدبلوماسية بلا جدوى. ولذلك أوعز إلى مندوبته في الأمم المتحدة بأن تُحذر الدول رسمياً من مغبة التصويت بالموافقة على مشروع القرار المخالف لإرادة ترامب في الجمعية العامة، وتهدد بقطع المساعدات عن أي دولة تجرؤ على الموافقة، وهي المرة الأولى في تقديري التي تتم فيها ممارسة للقوة بهذه الفجاجة. وللمرة الثانية تجيء نتيجة التصويت صادمة للمكانة الأميركية، فلم يعترض على مشروع القرار سوى سبع دول غير الولايات المتحدة وإسرائيل بعضها سمع الناس عنه للمرة الأولى كميكرونيزيا وناورو وبالاو.
ومن بديهيات القيادة في العلاقات الدولية أنها لا تُبنى على المقومات المادية وحدها، وهي في حالتنا الأموال الأميركية، وإنما للقيادة أيضاً مقوماتها المعنوية وهي طبيعة المشروع السياسي الذي تتبناه الدولة الراغبة في القيادة، ومن الواضح تماماً أن المشروع الأميركي لقيادة العالم لا يؤهل لهذه المهمة مهما بلغت قوتها المادية.
*نقلا عن صحيفة الاتحاد