باتت الموانئ البحرية إحدى محاور الصراعات المسلحة في بعض دول منطقة الشرق الأوسط، مثل ليبيا واليمن وسوريا والصومال، خلال السنوات الماضية، وذلك للدور البارز الذي تقوم به هذه الموانئ على المستويات السياسية والاستراتيجية والاقتصادية، وبما جعلها عنصرًا مؤثرًا في مسارات الصراعات ذاتها. فخلال الفترة الماضية، شهدت الدول السابقة مواجهات عسكرية متصاعدة بين القوات الحكومية من جهة والتنظيمات الإرهابية والمسلحة من جهة أخرى، في إطار محاولات الطرفين بسط نفوذهما على هذه الموانئ لتحقيق مكاسب استراتيجية واقتصادية عديدة.
وفي حالتى اليمن والصومال، تمكنت القوات الشرعية من السيطرة على الموانئ الرئيسية بما ساهم في قطع خطوط الإمدادات ومصادر التمويل للتنظيمات المسلحة. بينما في حالة ليبيا كانت سيطرة الجيش الليبي على عدة موانئ نفطية منذ سبتمبر 2016، إيذانًا بمضاعفة إنتاج البلاد من النفط تدريجيًا. أما في حالة سوريا، فقد بسط الحليفان الروسي والإيراني للنظام السوري نفوذهما على عدد من الموانئ في إشارة إلى سعيهما نحو الحصول على مكاسب اقتصادية وسياسية لكل منهما. وعلى ما يبدو فإن أمد الصراع للسيطرة على الموانئ في الشرق الأوسط سوف يطول، في ظل صعوبة الوصول إلى تسويات قريبة لتلك الأزمات.
نماذج مختلفة:
تعددت نماذج صراع الفواعل المختلفة بمنطقة الشرق الأوسط من أجل إحكام السيطرة على الموانئ الرئيسية بالبلاد، ويتمثل أبرزها فيما يلي:
1- سيطرة متبادلة: تعد الموانئ البحرية في الصومال إحدى المحاور الديناميكية الرئيسية للنزاع الدائر منذ سنوات بين قوات الجيش الصومالي وقوات الاتحاد الأفريقي من جهة، وحركة "شباب المجاهدين" من جهة أخرى. وفي غضون الفترة الماضية، تمكن الطرف الأول من هزيمة حركة "شباب المجاهدين" في معارك عسكرية عديدة، استعاد من خلالها معظم الموانئ الرئيسية في البلاد ومن أهمها ميناء باراوي في أكتوبر 2014 والذي يقع على مسافة 200 كيلومتر جنوب غرب مقديشيو.
ولكن مع استعادة "شباب المجاهدين" لتوازنها العسكري، تمكنت من السيطرة مجددًا على بعض الموانئ في البلاد ومنها ميناء جرعد في ولاية بونت لاند شبه المستقلة بشمال شرق الصومال وذلك في مارس 2016.
2- مسارات موازية: مع تزايد الانقسام السياسي الليبي منذ عام 2014، تم تشكيل حكومتين إحداهما في الشرق وأخرى في الغرب، بالإضافة إلى حكومة التوافق الوطني، والتي تأتي في إطار اتفاق الصخيرات بالمغرب 2015، ومن ثم باتت المنشآت النفطية ومن بينها موانئ التصدير هدفًا استراتيجيًا يحكم التحركات العسكرية للقوات الموالية للحكومتين. وفي هذا السياق، حاول كل طرف السيطرة منفردًا على الموانئ النفطية من أجل تغيير توازن القوى السياسية والاقتصادية لصالحه.
إذ تحركت قوات الجيش الليبي الموالية لحكومة الشرق، في غضون سبتمبر 2016، للسيطرة على موانئ التصدير بمنطقة الهلال النفطي. ففي إطار معركة "البرق الخاطف"، تمكنت القوات من إحكام السيطرة على 4 موانئ استراتيجية شرق البلاد وتضم موانئ رأس لانوف والسدرة والبريقة، بالإضافة إلى ميناء الزويتينة. كما سلمت القوات إدارة هذه الموانئ إلى المؤسسة الوطنية للنفط في خطوة تهدف، على ما يبدو، إلى تبديد المخاوف المحلية والغربية من انتهاك الجيش الليبي لاتفاق الصخيرات وتأكيد مبدأ حيادية المؤسسات الاقتصادية الليبية، الذي ظل نافذًا خلال الفترة الماضية، في رؤية اتجاهات عديدة، على الرغم من تزايد الانقسام السياسي بالبلاد.
3- تكريس الشرعية: سعت قوات الشرعية اليمنية إلى استعادة الموانئ اليمنية من حركة الحوثيين منذ سيطرتها على العاصمة صنعاء في سبتمبر 2014. وخلال الفترة الماضية، تمكنت قوات الشرعية، بمساندة قوات التحالف العربي، من استعادة موانئ عدن والبريقة وميدي، ومؤخرًا ميناء المخا في محافظة تعز. كما تمكنت من السيطرة على ميناء المكلا وميناء الضبة النفطي من تنظيم "القاعدة" في مدينة المكلا.
ومن دون شك، فإن ذلك سوف يدعم قدرة القوات الشرعية والتحالف العربي على السيطرة على المنافذ البحرية في اليمن، حيث يتبقى فقط تحرير ميناء الحديدة وميناء الصليف من أجل تكريس السيطرة على المنافذ البحرية بشكل كامل. ومن المؤكد أن إحكام قوات الشرعية والتحالف العربي على الموانئ اليمنية، يحظى بأهمية خاصة لتأمين الملاحة البحرية في خليج عدن وباب المندب، وذلك في ظل التهديدات المستمرة بالآونة الأخيرة من جانب جماعة الحوثيين.
4- دعم النفوذ: استثمرت كل من روسيا وإيران دعمهما للنظام السوري، في تحقيق بعض المكاسب الاستراتيجية والاقتصادية في الآونة الأخيرة. ومن بين أهم هذه المكاسب ما أعلن في يناير 2017، عن اتجاه إيران إلى إنشاء ميناء نفطي في سوريا ترجح تقارير عديدة أن يطل على البحر المتوسط، وذلك بموجب سلسة من الاتفاقات الاقتصادية وقعتها إيران مع سوريا في يناير 2017. ومن المقرر أيضًا أن تؤسس روسيا قاعدة بحرية عسكرية في ميناء طرطوس السوري لمدة 49 عامًا والتي تأتي في إطار الاتفاقية الموقعة بين الطرفين في هذا الصدد في الشهر ذاته.
تداعيات الصراع:
فرضت التطورات السابقة تداعيات عديدة على مسارات الصراع بمنطقة الشرق الأوسط، يمكن تناولها على النحو التالي:
1- عوائد اقتصادية: رغم أن معظم التداعيات الاقتصادية للصراع على الموانئ في الشرق الأوسط كانت سلبية في أغلب الأحوال، حيث أدت بشكل مباشر إلى عرقلة حركة التجارة مع العالم الخارجي وضعف الصادرات الرئيسية لمعظم دول الإقليم، إلا أن الحالة الليبية تبدو مختلفة، على ما يبدو، حيث ساهمت سيطرة الجيش الليبي على الموانئ النفطية الأربعة في تعافي إنتاج البلاد من النفط. وفي هذا الصدد، ارتفع إنتاج النفط من البلاد إلى 722 ألف برميل يوميًا وذلك في يناير 2017، وهو أعلى معدل منذ عام 2014. أما بالنسبة لليمن، فمن المنتظر مستقبلا أن تعزز سيطرة قوات الشرعية على المنافذ البحرية بالبلاد من سهولة حركة تجارة البلاد مع العالم الخارجي مجددًا ومن ثم دعم الصادرات النفطية عبر الموانئ الرئيسية في البلاد.
2- مكاسب سياسية: سعت الفواعل المختلفة إلى استثمار نفوذها على المنافذ البحرية من أجل تحقيق مكاسب سياسية. وفي هذا الإطار، رجحت بعض الاتجاهات الغربية أن يدعم التقدم العسكري لقوات الجيش الليبي وسيطرتها على موانئ النفط الليبية، من احتمالات إجراء تعديلات على اتفاق الصخيرات باتجاه تشكيل حكومة ائتلافية موحدة يكون فيها خليفة حفتر قائدًا عامًا للجيش الليبي.
3-أهمية استراتيجية: ينتظر أن يساهم نفوذ قوات الشرعية على المنافذ البحرية اليمنية في تقليص حدة التهديدات المستمرة من جانب الحوثيين وإيران لحركة الملاحة بخليج عدن وباب المندب، خاصة في ظل التصعيد الحالي بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية.
4- قطع التمويل: يبدو أيضًا أن سيطرة قوات الشرعية على الموانئ اليمنية سوف تمارس دورًا حاسمًا في قطع طرق الإمداد عن الحوثيين، التي اعتمدت في السابق على المنافذ البحرية بصفة أساسية في الحصول على الأسلحة والعتاد العسكري من إيران. ومن ثم فإن استعادة قوات الشرعية سيطرتها على باقي الموانئ اليمنية تمثل خطوة هامة نحو فرض مزيد من القيود على تمويل الحوثيين. وبالمثل، فإن استعادة الجيش الصومالي سيطرته على الموانئ البحرية بالبلاد قد تمثل نقطة بداية نحو الحد من مصادر تمويل حركة "شباب المجاهدين" التي تعتمد على تصدير الفحم عبر الموانئ بالبلاد.
مسارات محتملة:
من دون شك، فإن التطورات السابقة تشير إلى نجاح القوات الحكومية في استعادة الموانئ من سيطرة التنظيمات المسلحة، إلا أن ذلك لا يعني حسم المعركة نهائيًا لصالح الأولى، لا سيما في الحالة الصومالية، حيث لا تزال الموانئ تمثل أهدافًا رخوة لحركة "شباب المجاهدين"، في ظل ضعف القدرات العسكرية لقوات الجيش الصومالي. لكن على ما يبدو، فإن توازن القدرات العسكرية الذي يميل لصالح قوات الجيش الليبي في ليبيا، والقوات الشرعية في اليمن سيعزز من قدرة كل من الطرفين السابقين على الحفاظ ولو مرحليًا على المكاسب التي حققوها في السابق، بل والتقدم نحو استعادة باقي الموانئ التي تخضع لسيطرة التنظيمات المسلحة.
وختامًا، يمكن القول إذن إن موانئ الشرق الأوسط تحولت إلى أحد المحاور الرئيسية التي يعول عليها مختلف الفواعل في حسم الصراع في الدول المختلفة، وبما سيجعلها على الدوام هدفًا استراتيجيًا ينبغي الحفاظ عليه طيلة فترة الصراع.