في الزمن السياسي للأزمة اليمنية، هناك متوالية أيام، كان يمكن أن يكون أي منها هو “اليوم التالي”، ويُفترض أن يكون هذا “اليوم التالي” ما بعد التوافق على عملية سياسية شاملة في البلاد، وهو ما كان ممكنا في أكثر من مرة منذ طرح مبادرة السلم والشراكة قبيل الانقلاب الحوثي على الشرعية في سبتمبر 2014، ومفاوضات الكويت عام 2016، والتي انسحب منها الحوثيون عند مرحلة التوقيع على الاتفاق، ثم اتفاق ستوكهولم عام 2019.
ويرى الباحث أحمد عليبة، رئيس وحدة الاتجاهات الأمنية في مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أن أكثر الفرص الضائعة لليوم التالي في اليمن كانت في أبريل 2022، عندما تم التوصل إلى اتفاق هدنة برعاية أممية، ثم جاء يوم تال آخر بحسب المبعوث الأممي إلى اليمن هانز غروندبيرغ، من خلال مسودة “خارطة طريق” في سبتمبر 2023، إلا أن أحداث ما بعد السابع من أكتوبر 2023 والحرب على غزة ربما قطعت الطريق على هذا المسار في ضوء دور الجماعة الحوثية فيها.
وتقاطع “اليوم التالي” في اليمن مع “اليوم التالي” في حرب غزة، عندما انخرطت الجماعة الحوثية في معركة بحرية في جنوب البحر الأحمر بدعوى إسناد الفلسطينيين في غزة، وربطها بتوقف الحرب في القطاع. لكن “اليوم التالي” في غزة هو يوم إشكالي في ظل احتمالات تحول المعركة بين إسرائيل وحزب الله اللبناني إلى حرب واسعة، وبالتبعية قد يكون للحوثيين دور فيها.
وبشكل عام، تعهد الحوثيون بدعم إيران في أي مواجهة إقليمية، وهو ما أكدته الجماعة أكثر من مرة. ففي أعقاب تلويح قائد الحرس الثوري الإيراني حسين سلامي، في السابع من مايو 2024، بنقل التهديد إلى شرق المتوسط، أعلن الحوثيون إمكانية تطوير هجماتهم لاستهداف السفن في البحر المتوسط.
وسبق أن دعت الجماعة الحوثية، في مارس الماضي، السعودية إلى استئناف “عملية السلام” في اليمن، وهو ما يبدو معه ظاهريا أن الجماعة تراجعت خطوة إلى الوراء أو أنها بصدد فصل الملفات، لكن عمليا كانت هناك دوافع لذلك، منها أن تلك الدعوة جاءت عقب دخول التصنيف الأميركي للحوثيين “ككيان إرهابي عالمي مصنف بشكل خاص”، حيز التنفيذ، وزيادة العقوبات والقيود الاقتصادية على الجماعة. وأعقب ذلك متغير الموقف الإيراني كمحرك رئيسي للسلوك الحوثي في ظل إجراء واشنطن وطهران جولة تفاوض جديدة في مايو الماضي في سلطنة عُمان، ومن المتوقع انعكاس تأثيرها في الملفات الإقليمية، ومنها الهجمات الحوثية على الملاحة في جنوب البحر الأحمر.
وخلال الحرب في غزة، كانت “وحدة الساحات” مظلة لأدوار الوكلاء الإقليميين لإيران، ومع ذلك فإن التطورات اللاحقة تشير إلى فصل الأدوار عن الأهداف الفعلية لكل ساحة من الساحات، إذ يتم التفاوض في كل ساحة على قضايا مختلفة للتوصل إلى صفقات بالقطعة ليس لها علاقة بالحرب في غزة.
وبشكل عام، توظف إيران كل هذه الصفقات لإبرام صفقة أكبر، فقد اتجهت طهران بعد استهداف إسرائيل لأصفهان في التاسع عشر من أبريل الماضي، إلى إعادة ترتيب أوراقها، والاهتمام بقدراتها النووية. وفي هذا الإطار، كشفت تقارير أميركية عن أن السفير الإيراني لدى الأمم المتحدة أمير سعيد إيرواني، بدأ مساعي المفاوضات مع واشنطن، ثم تحولت المحادثات بين البلدين إلى عُمان.
وفي إحاطته الأخيرة حول اليمن في مجلس الأمن يوم الثالث عشر من مايو الماضي، أدلى نائب السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة روبرت وود، بشهادة لافتة تُلخص نتائج المواجهة مع الحوثيين في البحر الأحمر. فقد كشف وود عن أن عمليات تهريب الأسلحة الإيرانية إلى اليمن متواصلة بشكل غير مسبوق، مع أن أحد أهداف تحالف “حارس الازدهار” في البحر الأحمر هو وقف عمليات تهريب السلاح.
وفي الواقع كانت السفن الإيرانية تتحرك من بندر عباس إلى الصومال ثم الساحل الغربي في اليمن من دون قيود، بزعم أن العديد منها تحمل مواد بناء، وهي حمولات لا تخضع للتفتيش لعدة اعتبارات، منها أن اتفاق التهدئة يتضمن تخفيف القيود على ميناء الحديدة الذي تسيطر عليه الجماعة الحوثية، ولا تخضع مواد البناء للعقوبات الأميركية، فضلا عن الحذر الأميركي من استهداف سفن إيرانية، إذ لا تريد واشنطن التصعيد مع طهران.
وتتماشى شهادة وود مع محصلة البيانات الحوثية حول الهجمات في البحر الأحمر منذ نوفمبر 2023 عندما احتجز الحوثيون السفينة “غلاكسي ليدر”، وحتى منتصف مايو الماضي عندما استهدفت الجماعة المدمرة الأميركية “ميسون” والسفينة “ديستني”، وذلك بإجمالي أكثر من 100 هجوم حوثي اُستخدم فيها أكثر من 300 صاروخ ومسيرات جوية وبحرية.
وفي المقابل، يعكس مؤشر أداء المهام البحرية الدولية في البحر الأحمر تراجعا في العمليات الهجومية والاستباقية، بل يمكن القول إن تحالف “حارس الازدهار” تحول إلى عملية روتينية تقتصر على الدفاع. والتطور اللافت في هذا الصدد هو ما أشار إليه المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية (IISS) في أبريل الماضي، إذ كشف من خلال تحليل صور الأقمار الاصطناعية عن قيام الحوثيين بعمليات حفر وتوسيع أنفاق وكهوف في الجبال، بهدف تأمين مخازن للأسلحة.
وخلال العمليات الهجومية الأميركية والبريطانية لاستهداف المنظومات العسكرية الحوثية، كان بإمكان القوات المشاركة في “حارس الازدهار” استهدافها على قمم وسفوح الجبال، لكن وجود هذه المخازن يسمح للحوثيين بالمناورة السريعة وإعادة الأسلحة مرة أخرى إلى المخازن. وبطبيعة الحال، ستكون لهذه المخازن أهميتها في تأمين الأسلحة الحوثية في مواقع مختلفة من اليمن حاليا ومستقبلا.
وكدرس مستفاد من هذه التطورات، من المُتصور أن إخضاع البنية الأمنية والعسكرية في المنطقة لصفقات سياسية دون إظهار القدرة على الردع النشط ضد العدائيات التي تهدد المنطقة البحرية، يشكل فجوة في الأهداف الفعلية للانتشار الأميركي في الإقليم، وربما تتعين إعادة تقييم هيكل هذه البنية في مقابل التهديدات والمخاطر في ضوء ما يجري منذ اندلاع حرب غزة.
وتشير الجماعة الحوثية إلى “عملية سلام” وليس “خارطة طريق” في اليمن، وهنا ثمة فارق بين الحالتين، فالأولى قد تتعلق بالمفاوضات الحوثية على المستوى الثنائي مع الرياض، بينما تشير الثانية إلى عملية تسوية سياسية شاملة مع مختلف القوى اليمنية، وهي نقطة لا تزال بعيدة نسبيا في المرحلة الحالية، وفقا لإحاطة المبعوث الأممي غروندبيرغ في مجلس الأمن يوم الثالث عشر من مايو الماضي.
وعلى الأرجح، لا تريد الجماعة الحوثية الالتزام بترتيبات داخلية في المرحلة الحالية، ومؤخرا شنت هجمات على العديد من الجبهات في اليمن (مأرب وشبوه والجوف)، وبالتالي قد تعود إلى تحويل فائض استخدام القوة من البحر الأحمر إلى الداخل لإعادة صياغة موازين القوى قبل الانخراط في عملية تسوية سياسية تكون لها استحقاقات مختلفة.
وتتطلب استحقاقات التسوية الشاملة وجود سلطة موحدة، وهو تحد كبير في ظل أزمة الهوية مع تكريس المشروع الأيديولوجي الحوثي، وهذا أمر ضروري من الناحية الإجرائية بالنظر إلى أن وحدة السلطة تعني احتكار الدولة لأدوات القوة، ومن ثم القرار السيادي، فلا يمكن استمرار الحوثيين في الانفراد بقرار الحرب. ومن هنا تأتي إشكالية رئيسية أخرى تتعلق بالتعامل مع السلاح الحوثي، ويصعب من الناحية العملية أن تشاركه الجماعة مع باقي الأطراف.
وعندما كان التفاوض جاريا على أساس التوصل إلى “خارطة طريق”، قبل اندلاع حرب غزة، أقامت الجماعة الحوثية عرضا عسكريا هو الأكبر من نوعه منذ استيلائها على السلطة، وكان الهدف من ذلك واضحا، وهو أن الجماعة لن تفاوض على سلاحها، بل توظفه كورقة في عملية التفاوض ووفق رغباتها المستقبلية دون إخضاعه لمؤسسات الدولة الشرعية، وقد يعني ذلك أن من حق باقي القوى والتيارات الأخرى الاحتكام إلى سلاحها.
وفي الأخير، يبدو أن التحدي الفعلي في الأزمة اليمنية يتمثل في إجراء عملية تسوية سياسية شاملة، ولكن في ظل الوضع الحالي لا يزال وجود مشروع وطني جامع للقوى السياسية غائبا، وحتى لو تم الاتفاق على إطار سياسي برعاية الأمم المتحدة وفي سياق الحل الإقليمي، فإن فرص تنفيذه على أرض الواقع ستظل غير ممكنة على الأقل في المدى المتوسط.
*أحمد عليبة
رئيس وحدة الاتجاهات الأمنية - مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة