تحدث داروين في نظريته عن التطور البيولوجي للإنسان، وأثارت هذه النظرية جدلاً كبيراً سواء بين العلماء أنفسهم أم بين البشر العاديين؛ نظراً لأنها تخالف ما جاء في جميع الكتب السماوية. لكن هل فعلاً يمكن أن يتطور البشر، ليس على الطريقة الداروينية البيولوجية ولكن على طريقة الآلة والذكاء الاصطناعي؟ وما الحدود التي يمكن أن يصل إليها ذلك الإنسان المُطور؟ وهل هو فعلاً قادر على استعمار الفضاء؟
لم يعد التساؤل عن تطور البشر من قبيل الخيال العلمي، فقد اقتربت مرحلة الإنسان السايبورغ (نصفه إنسان ونصفه الآخر آلة) أكثر من أي وقت مضى. فهل يمكن أن تكون حدود هذا السايبورغ هي الفضاء، وأن نكتشف في يوم ما في المستقبل أن الكائنات الفضائية التي تحدثت عنها أفلام الخيال العلمي ما هي إلا نحن البشر المطورون سايبورغياً؛ إذ قد يغادر بعض البشر الأرض في المستقبل ويبنون حضارة لهم في الفضاء مثلما يحلم كثيرون أمثال إيلون ماسك وجيف بيزوس ثم يعودون إلى الأرض مرة أخرى، فنعتبرهم نحن البشر العاديون الضعفاء حينها كائنات فضائية؟
كل شيء مسخر للإنسان:
سخر الله سبحانه وتعالى كل شيء للإنسان سواء في السماء أم في الأرض، وكرمه بالعقل وأعطاه من القدرات ما مكّنه من تغيير مظاهر الحياة على وجه الأرض. ولم يكتف الإنسان بعمارة الأرض فقط، بل وعمّر ما بين الأرض والقمر، فامتلأ الفضاء بآلاف من القطع الفضائية والأقمار، حتى لامست أقدام البشر سطح القمر، بل وأصبح حلم الإنسان هو بناء مستعمرة للعيش فيها على كواكب أخرى واستغلال الفضاء الذي سخره الله له.
لكن المشكلة هي أن طاقته الجسدية الحالية ضعيفة والزمن يسابقه دائماً، فيستغرق السفر إلى أقرب الكواكب حالياً وهو المريخ تسعة أشهر بسرعة مركبات الفضاء الحالية. فما بالك بالسفر إلى الفضاء البعيد، فأقرب ثقب أسود (Black hole) يبتعد عن الأرض بحوالي 1560 سنة ضوئية (الثانية الضوئية تعادل تقريباً 300 ألف كيلومتر).
وبحسابات المنطق الحالية، من المستحيل أن يستعمر البشر الفضاء مهما بلغ الإنسان من قوة، فهو لن يستطيع مقاومة انعدام الجاذبية وتحمل فروق الضغط، فضلاً عن مشكلة عدم توافر الأكسجين والمياه. لكن بنفس المنطق العقلي، فقد كان من المستحيل أيضاً أن يتحدث إنسان في شرق الأرض إلى آخر في غربها ويراه ويسمعه في نفس الوقت، أو أن يسخر الريح ليجوب بها الأرض في ساعات قليلة، أو أن يقي نفسه الأمراض بأن يحقن نفسه بالفيروسات، أو أن يستخرج من الذرة التي لا تُرى بالعين طاقة لا تنتهي. إذن فمن يعلم، قد يستطيع الإنسان يوماً ما السفر إلى داخل ثقب أسود، حتى وإن لم يبلغه فهو على الأقل قد قطع شوطاً طويلاً في سيطرته على الفضاء المُسخر له من البداية.
وتناولت أفلام الخيال، سواء أكان علمياً أم غير علمي، مسألة الفضائيين الذي يبنون حضارة أعظم من حضارة البشر ويسعون لفرض سيطرتهم على الأرض. وبين قتال البشر للفضائيين أو استسلامهم لهم، تدور سيناريوهات الأفلام، ويُبدع المخرجون في تصور شكل هؤلاء الفضائيين ما بين وحوش تأكل البشر أو تتشبه بشكلهم وتعيش بينهم.
السايبورغ المُطور:
استمراراً لهذه الخيالات، التي قد تتحقق في يوم ما بالفعل، قد يستطيع الإنسان ترقية نفسه وتطوير قدراته الجسدية كي يكون صالحاً بجسده المُطور للعيش في الفضاء. فالمحاولات لبناء السايبورغ جدية وتسير بخطى سريعة، رغبةً في تعظيم قدرات الإنسان من خلال زرع شرائح ذكية في دماغه وجسده وتطوير أعضائه بنظم ذكية حتى يتحول إلى سايبورغ.
فيقوم بدمج تقنيات الذكاء الاصطناعي في جسده لكي يصبح مثل الآلات أو أكثر تقدماً، ويمتلك أطرافاً من الصلب، ويستبدل أعضاءه التي انتهى عمرها الافتراضي بأخرى مصنوعة من الألياف الحية والسيليكون عبر الطباعة ثلاثية الأبعاد، ويستبدل جلده بآخر لا يتأثر بالعوامل الخارجية. فيتحول تدريجياً إلى إنسان السايبورغ، ساعياً نحو تعظيم قوته وقدراته.
فقد يكون ذلك السايبورغ قادراً في المستقبل القريب على إكساب جسد الإنسان قدرات غير مسبوقة؛ كأن يشعر بلمس الضوء مثلما يشعر بالهواء على جسده، وذلك عبر مجّسات حسية، أو أن يسمع أصوات الحيوانات الصامتة مثل: أصوات الأسماك والزرافة والخفاش عبر الموجات فوق الصوتية، أو أن يجعل الأعمى يرى عبر كاميرات تُزرع في عينيه أو تتصل بمراكز الإبصار في العقل، أو أن يجعل الأصم يسمع والأبكم يتحدث فقط من خلال التفكير عبر تكنولوجيا "التخاطر الذهني" (Telephathy)، أو حتى أن يتحمل فروق الضغط والجاذبية في الفضاء الخارجي.
استعمار الفضاء:
كل هذه القوى الخارقة وغيرها قد تتحقق بدرجات متفاوتة وفي أزمنة قد تكون بعيدة نسبياً عن وقتنا الحالي، لكن هناك محاولات جدية من البشر ما زالت تجري في هذا السياق، وتُبشر بأن العالم أصبح على أعتاب حضارة جديدة غير مسبوقة يمتزج فيها جسد الإنسان بالذكاء الاصطناعي فينتج عنه كائن جديد سايبورغي. وهذا السايبورغ قد يكون قادراً على إنشاء حضارة جديدة تخرج من الأرض لتغزو الفضاء وتستعمره، ومثلما نسافر من بلد إلى آخر عبر الطائرات قد يسافر ذلك السايبورغ من مجرة إلى أخرى عبر انتقال الطاقة.
فقد أثبت ثلاثة من العلماء الحاصلين على جائزة نوبل في الفيزياء عام 2022، هم: آلان أسبكت، وجون أف كلوزر، وأنتون زيلينغر أن هناك رابطة خفية وغامضة بين الجسيمات الذرية أسرع من الضوء تُسمى "التشابك الكمي" (Quantum Entanglement)؛ وهي تعني ببساطة أنك إذا أحضرت إلكترونين متشابكين ببعض كمياً ووضعت أحدهما على الأرض والآخر في الفضاء مثلاً، ثم قمت بالتأثير في الإلكترون الموجود في الأرض للدوران للأعلى، فإن الإلكترون الآخر الموجود في الفضاء سوف يتأثر ويدور في الاتجاه العكسي. فكيف حدث ذلك؟ ولماذا؟ وما هو نوع الرابطة بين هذين الإلكترونين حتى يحدث الانسجام التام بينهما بغض النظر عن البيئات المختلفة الموجودين فيها؟ قد لا يكون هناك تفسير واضح حتى الآن لهذه الرابطة، لكن من يعلم ما سوف يتوصل إليه العلماء في المستقبل، وما التطبيقات العملية التي يمكن من خلالها تطوير وسيلة للانتقال الآني من مكان إلى آخر. فملايين السنوات تفصل بين أول تفاحة سقطت على الأرض وبين اكتشاف إسحاق نيوتن لقوانين الجاذبية.
فهل يجد بشر السايبورغ موطئ قدم لهم في الفضاء السحيق، مدعمين في ذلك بتطور تقني فائق، فيستعمرون الفضاء ويطورونه، وتدريجياً ينعزلون عن حضارة الأرض المتأخرة وعن البشر الضعفاء المتأخرين جسدياً، فتستمر حضارة السايبورغ في التطور والاتساع واستكشاف الفضاء البعيد حتى تصبح معلوماتنا نحن البشر العاديون عن هؤلاء مثلما معلوماتنا الحالية عن الكائنات الفضائية؟
وفي لحظة ما قد يقرر هؤلاء السايبورغ العودة إلى وطنهم الأرض مرة أخرى، وحينها سيجدون فيها ذلك الإنسان الضعيف الذي ما زال قابعاً فيها، فيتفاجأ بما امتلكه السايبورغ من حضارة تفوق حضارته البشرية، فتتحقق بذلك نبوءات أفلام الخيال العلمي. بيد أن المفارقة ستكون أن تلك "الكائنات الفضائية" هم نحن البشر المُطورون والذين غادر بعضنا الأرض قبل مئات السنين ثم عادوا إليها مرة أخرى بحثاً عن جنة حقيقية بين أنهار الأمازون وغابات إفريقيا، فيستعبدون ذلك الإنسان الضعيف ويقتلونه مثلما مع فعل المهاجرون الجدد مع الهنود الحمر في أمريكا الشمالية.
فهل تنتهي عمليات الترقية هذه بسيطرة السايبورغ على ذلك الإنسان الضعيف؟ فيتحكم فيه ويصبح هو السيد في الأرض والفضاء، أم أن ذلك سوف يظل حبيس أفلام الخيال العلمي والروايات فقط؟