شهد شهر إبريل الجاري ثلاثة أحداث فارقة في الصراع الذي يدور بين إسرائيل وإيران بشكل غير مباشر منذ العقد الأول من هذا القرن. وقع الحدث الأول في بداية إبريل من العام الجاري، عندما دمرت غارة جوية إسرائيلية المبنى الملحق بالقنصلية الإيرانية في دمشق؛ مما أسفر عن مقتل 16 شخصاً، من بينهم القائد الكبير في فيلق القدس التابع للحرس الثوري، العميد محمد رضا زاهدي، وسبعة ضباط آخرين في الحرس الثوري.
بينما وقع الحدث الثاني في 14 إبريل، عندما شنت إيران لأول مرة هجوماً بالطائرات المسيرة والصواريخ البالستية ضد إسرائيل، لم يسفر سوى عن أضرار بسيطة في قاعدة جوية إسرائيلية بالنقب. وتمثل الحدث الثالث في الهجوم على الأراضي الإيرانية في 19 إبريل –لم تعلن إسرائيل مسؤوليتها عنه- والذي استهدف مواقع عسكرية إيرانية في مدينة أصفهان، ولا تزال الآثار التي خلفها ذلك الهجوم غير معروفة بدقة.
وبعيداً عن الرسائل المتبادلة بين البلدين التي حملتها تلك المواجهات، يبدو السؤال الأكثر أهمية هل يمكن أن تتجدد هذه المواجهات مستقبلاً، وهل ستبقى في حدود الردود المتبادلة حتى لو تصاعدت من حيث الحجم والقدرات المستخدمة، أم يمكن أن تتحول إلى حرب شاملة بين البلدين تؤدي إلى حرب إقليمية واسعة؟
ترتبط الإجابة عن هذا السؤال بثلاثة عناصر أساسية ستحكم إمكانية تكرار المواجهة بين البلدين بشتى درجاتها المحتملة وهي:
1- الانطباع الذي خلفته مواجهات شهر إبريل في الجانبين.
2- مدى تحكم إسرائيل في سياستها الثابته فيما يتعلق بحرب الظلال التي تشنها ضد إيران منذ العقد الأول من هذا القرن.
3- تطورات الحرب الدائرة في غزة حالياً بين إسرائيل وحماس وانعكاساتها على ما تسميه إيران بـ"محور المقاومة"، وموقف أطرافه من سياسة إيران حيال إسرائيل.
فاعلية محدودة للمواجهات:
لم يحقق الرد الانتقامي الذي قامت به إيران ضد إسرائيل في 13 إبريل، النتائج التي أرادتها إيران، فقد اعتبر الهجوم فاشلاً بسبب هزالة الخسائر التي أسفر عنها في الجانب الإسرائيلي، كما أنه شكك في مدى قوة وقدرات إيران التسليحية، ولا يُعرف على وجه التحديد الكيفية التي استقبل بها الرأي العام الإيراني نتائج الهجوم، وإن كان من المؤكد أنها احتوت على قدر كبير من خيبة الأمل في ظل الأوهام التي خلفها خطاب النظام عن قدرات البلاد العسكرية على مدى عقود.
كذلك، على الجانب الإسرائيلي كانت هناك انطباعات سلبية عن الهجوم الذي وقع في مدينة أصفهان الإيرانية، فمن جهة لم تتبن إسرائيل الهجوم رسمياً، وهو ما جعله مجرد امتداد للهجمات التي تشنها ضد حزب الله والحرس الثوري الإيراني في لبنان وسوريا منذ سنوات، ومثلما لم ترتدع أذرع إيران جراء الهجمات الإسرائيلية السابقة ولم تكف عن أنشطتها المعادية، فما قيمة الهجمة الأخيرة على أصفهان في تحقيق الهدف الرئيسي المتمثل في ردع إيران ومنعها من تكرار هجماتها المباشرة على إسرائيل مستقبلاً؟ ومن جهة أخرى، لماذا اختار نتنياهو الرد بهذا الهجوم المتواضع أو الضعيف كما وصفه وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير؟ وذلك على الرغم من إعلان نتنياهو سابقاً أن الرد الإسرائيلي على إيران لن يخضع لتأثيرات الضغوط الخارجية، بينما يشير الهجوم المحدود وعدم تبنيه علانية من قبل إسرائيل إلى عكس ما قاله تماماً، وأن الرد جاء في إطار الموقف الأمريكي الذي دعا إسرائيل لرد محدود ضد إيران.
بمعنى أكثر وضوحاً، هناك نوع من عدم القناعة بين الرأي العام والمحللين لدى الجانبين الإسرائيلي والإيراني، بأن الضربات المتبادلة بينهما لم تؤثر فعلياً في معادلة الردع الهش الذي يحكم الوضع بين البلدين منذ سنوات؛ وبالتالي يمكن لهذا الوضع أن ينهار في أي لحظة مستقبلاً خاصة بعد أن تخلص من "رمزية" عدم وجود سابقة للاشتباك المباشر بين البلدين من قبل.
مستقبل حروب الظل:
تُعد حروب الظل (العمليات الاستخباراتية، والعمليات النوعية مثل التخريب واغتيال شخصيات سياسية وعسكرية وعلميّة في دول معادية) أحد أركان العقيدة الأمنية الإسرائيلية؛ إذ مارستها الدولة العبرية منذ نشأتها المبكرة عام 1948، ولكن هذا النوع من الحروب اتخذ مكانة أكبر في منظومة الدفاع عن الأمن الإسرائيلي منذ عام 2002، مع وصول مائير داغان إلى رئاسة الموساد، والذي ظل حتى خروجه من منصبه، عام 2011، معارضاً قوياً للاتجاه الذي ساد في إسرائيل خلال فترة ولايته، بضرورة شن حرب مباشرة ضد إيران لمنعها من امتلاك السلاح النووي. على العكس من ذلك أراد داغان؛ تحقيق نفس الهدف عبر زيادة الاستثمار في حرب الظل الموجهه لإيران، وتحت قيادته نفذ الموساد بالفعل العشرات من عمليات الاغتيال لعلماء نوويين إيرانيين، وعمليات التخريب في منشآت نووية إيرانية.
ورغم استمرار حرب الظل الإسرائيلية بوتيرة متصاعدة منذ ذلك الوقت، لم تكن إيران ترد عليها بنفس الاستراتيجية، واتبعت بدلاً من ذلك سياسة دعم التنظيمات المسلحة المعادية لإسرائيل خاصة حزب الله اللبناني، وجماعتي حماس والجهاد الفلسطينيتين في غزة والضفة الغربية، بالإضافة لسعيها الدؤوب لزرع الحرس الثوري الإيراني في سوريا. وقد حملت تلك السياسة سلبيات عديدة على رأسها تآكل الحاضنة الشعبية لأذرع إيران في لبنان وسوريا؛ إذ تحملت لبنان وسوريا التكلفة الأمنية والاقتصادية والسياسية للهجمات الإسرائيلية المنتمية لحرب الظل ضد إيران، بينما استفادت إيران من تلك السياسة دون تحمل أي تكلفة مباشرة.
وهو الأمر الذي أجبر إيران خاصة مع استمرار حرب غزة والاشتباكات من جانب حزب الله مع إسرائيل بصورة شبه يومية، على التخلي عن سياسة عدم الاشتباك المباشر، واتخذت من مقتل عدد كبير من قادة الحرس الثوري في سوريا في مطلع إبريل مبرراً لشن هجوم مباشر على إسرائيل من الأراضي الإيرانية في الثالث عشر من نفس الشهر.
ولأن حرب الظل الإسرائيلية ضد إيران لن تتوقف، بل يمكن أن تزداد كثافتها في الفترة المقبلة، فإن تذرع إيران بتغيير سياستها تجاه إسرائيل بسبب مقتل عدد من قادة الحرس الثوري في سوريا، سيفرض عليها تكرار الهجوم المباشر على إسرائيل إذا وقعت أحداث مشابهه، وهو ما أكده وزير الخارجية الإيراني، أمير عبداللهيان بقوله: "إذا أرادت إسرائيل القيام بمغامرة أخرى وعملت ضد مصالح إيران فإن ردنا التالي سيكون فورياً وعلى أعلى مستوى".
إن المعادلة الجديدة التي خلقتها الهجمات المتبادلة بين إسرائيل وإيران مؤخراً، ستختبر حقيقة قوة الردع للطرفين، فإذا ما واصلت إسرائيل العمليات التي تستهدف قادة الحرس الثوري الإيراني، ولم تقم إيران بتنفيذ الوعد الذي أطلقه وزير خارجيتها، فإن مصداقية ردعها لإسرائيل ستكون على المحك، وفي المقابل إذا ما تفادت إسرائيل توجيه ضرباتها لقادة الحرس الثوري مستقبلاً فإن إيران يمكنها أن تزعم أن هجماتها على إسرائيل أثبتت نجاحها وأفلحت في ردع إسرائيل بالفعل. ويشكل هذا الوضع الافتراضي قوة ضغط على الطرفين، يجعل من السهل تجدد المواجهات المباشرة بينهما مستقبلاً، ويبقى السؤال: هل سيتمكن الطرفان من لجم تلك المواجهات، وعدم تحولها لحرب شاملة بينهما؟ أم ستتدهور الأمور لما هو أسوأ؟
تأثيرات حرب غزة:
قبل قيام الهجوم الذي شنّته إسرائيل على أصفهان، تحدثت عدة تقارير دولية وعربية عن أن الولايات المتحدة قد وافقت لإسرائيل على شن عمليتها العسكرية المؤجلة في رفح مقابل تعهد إسرائيل بعدم شن هجوم كبير ضد إيران يمكن أن يقود إلى حرب إقليمية شاملة لا تريدها واشنطن. تضع مثل هذه التقارير -بغض النظر عن مدى صحتها– إيران تحت ضغط مضاعف حال شنت إسرائيل هجومها في رفح، فمثلما لم يكن بوسع النظام الإيراني الاستمرار في سياسة الابتعاد عن المواجهه مع إسرائيل بعد تعرض قادة الحرس الثوري للاغتيال في سوريا ولبنان، فسيكون من الأصعب ترك انطباع لدى الرأي العام في البلدين، وفي البلدان العربية بأن إيران تخلت عن حليفيها (حماس والجهاد) مقابل ضمان عدم تعرضها لهجمات إسرائيلية مباشرة. فمن شأن سيادة هذا الانطباع أن تؤدي إلى تقويض ما تسميه إيران بـ"محور المقاومة" والإعلان صراحة عن خواء شعار "وحدة الساحات" الذي تتبناه.
مفترق طرق:
شكلت المواجهات المباشرة بين إسرائيل وإيران عسكرياً مفترق طرق، سواء على صعيد ميزان الردع المتبادل بينهما، أم على صعيد سياسة إيران المسماة بـ"محور المقاومة"، ويمكن توضيح ذلك على النحو التالي:
يبدو أن إيران قد أخطأت عندما شنت هجوماً وصف بأنه ضخم (احتوى على قرابة 350 طائرة مسيرة وصواريخ بالستية)؛ إذ كان من المؤكد كشفه والتعامل معه من الجانب الإسرائيلي (بسبب بعد المسافة بين البلدين) خاصة وأن الأخيرة تلقت مساعدات فاعلة من الولايات المتحدة وبريطانيا. وبسبب هزالة الخسائر التي أحدثها الهجوم في الجانب الإسرائيلي؛ فإنه تسبب في إضعاف مصداقية الردع الإيراني بدلاً من العكس، وشكك في القدرات العسكرية الإيرانية إجمالاً.
تسبب مرور المسيرات والصواريخ الإيرانية في أراضي دول عربية، أو بالقرب من حدودها في رفع درجة الشعور بخطر الطموحات الإيرانية الإقليمية، وقربت إسرائيل من تحقيق هدفها بإقامة محور إقليمي مع هذه الدول من أجل لجم التطلعات الإيرانية.
في إطار هزالة الخسائر التي ألحقتها الضربة الإيرانية بإسرائيل، وتفسير ذلك بعدم صلاحية المسيرات والصواريخ الإيرانية لإحداث تأثير كبير بسبب بعد المسافة بين البلدين، ستضطر إيران إلى التعويل بشكل أكبر على أذرعها في المنطقة، وخاصة في لبنان وسوريا؛ إذ يتيح قصر المسافة بينهما وبين إسرائيل تشكيل مخاطر أكبر على الدولة العبرية حال انطلقت الصواريخ والمسيرات من جهتهما؛ وبذلك تتغير المعادلة الحاكمة للقيادة الإيرانية لما يسمى بمحور المقاومة، من كونه أذرعاً إيرانية تحقق قوة توازن مع إسرائيل، إلى استخدامه بشكل أكبر للدفاع عن نفسها.
ستكون معركة إسرائيل المحتملة في رفح بمثابة اختبار صعب لإسرائيل وإيران على حد سواء، فالمزاعم الإسرائيلية حول أنها معركة حاسمة في تحديد نتائج الحرب، تتجاهل حقيقة احتمال تحولها لحرب استنزاف طويلة؛ وهو ما سيخدم إيران ويعفيها من الاضطرار لتوجيه ضربات لإسرائيل للحفاظ على وحدة ما تسميه بـ"محور المقاومة"، أما إذا ما تمكنت إسرائيل من القضاء على ما تبقى لحماس من قوات، وأعلنت إقامة حكم عسكري مؤقت في القطاع –كما بينت الخطة التي طرحها نتنياهو في فبراير الماضي- دون تدخل من جانب إيران لإنقاذ حليفتها؛ فسيؤدي هذا الوضع إلى تراجع مكانة إيران الإقليمية وسيشكك في إمكانية استمرار "محور المقاومة" خاصة إذا ما رفض حزب الله (لأسباب خاصة بالداخل اللبناني الذي يعيش في ظل أزمة اقتصادية وسياسية خانقة) زيادة حجم ومستوى قوة اشتباكه مع إسرائيل، للتخفيف عن حماس أثناء معركة رفح المنتظرة.