قدرت نسب مشاهدة حفل الأوسكار الـ95، الذي أقيم منذ أيام، بحوالي أكثر من 18 مليون مشاهدة للحفل المباشر- بخلاف عدد مشاهدات الإنترنت - وذلك بزيادة تقدر بحوالي 12% عن عدد مشاهدات العام الماضي. فلا زالت الأوسكار الجائزة الأهم والحدث السينمائي الأكثر جذباً للانتباه حول العالم، وتُعبر عن نجاح الولايات المتحدة الأمريكية في تفعيل دور السينما كأداة للقوة الناعمة.
وكان الحدث الأبرز لهذا العام هو فوز فيلم "كل شيء كل الأماكن دفعة واحدة" "Everything Everywhere All At Once" بسبع جوائز أوسكار، أحسن فيلم، أحسن مخرج، أحسن ممثلة، أحسن سيناريو أصلي، أحسن مونتاج، أحسن ممثل مساعد وأحسن ممثلة مساعدة. وبالرغم من أن هذا الفوز كان متوقعاً إلا أنه جدد الجدال الدائر على مدار الأعوام الأخيرة حول مدى أحقية الأفلام الفائزة، خاصة في فئة أحسن فيلم. فبينما يرى البعض أن الاختيارات منحازة لمعايير الصوابية السياسية أكثر من المعايير الفنية، يرى البعض الآخر أن الفوز مستحق وأن مايحدث هو إعادة لتصحيح المسار باتجاه مزيد من التعدديه والانفتاح. (وتعني الصوابية السياسية اللغة أو السياسات أو الإجراءات التي تهدف إلى تجنب الإساءة أو الحرمان لأفراد مجموعات معينة في المجتمع).
وبعيداً عن هذا الجدال المستمر، لا يمكن قراءة صناعة السينما العالمية، وجائزة الأوسكار بعيداً عن التغيرات الدولية. فقد تعرض العالم خلال السنوات القليلة الماضية لأحداث كبرى تركت آثاراً عميقة داخل وخارج الولايات المتحدة: بدأت بحقبة رئاسة ترامب، وما ترتب عليها من حالة الاستقطاب الداخلي الحاد في الولايات المتحدة، تلتها جائحة "كورونا"، ثم مقتل جورج فلويد الذي أشعل حركة "حياة السود مهمة"، ثم الحرب الأوكرانية وبعدها الأزمة الاقتصادية، كل هذه العوامل نتجت عنها حالة عامة من الارتباك والتشويش وكسر للأنماط التقليدية، بل وحلحلة لثوابت العالم كما كنا نعرفه إيذاناً ببدء تغيير عالمي محوري. وجاء فوز فيلم كل شيء كل الأماكن دفعة واحدة معبراً عن هذا الوضع، وذلك على مستويين، الأول هو طريقة صنع الفيلم حيث قام صناعه بكسر كثير من القواعد التقليدية في طريقة السرد والتصوير.والثاني هو فوز الفيلم نفسه بكل هذا العدد من الجوائز الذي عده البعض خطوة كبيرة تجاه كسر المعايير التقليدية باتجاه جعل الجائزة أكثر عالمية وانفتاحاً، وقد وصل هذا الانفتاح إلى تشكيل اللجنة ذاتها، فقد ارتفعت نسبة أعضاء الأكاديمية، البالغ عددهم عام 2020 حوالي 9921 عضواً، من الأعضاء من خارج الولايات المتحدة من 12% عام 2015 إلى 20-25% حالياً وهو بالطبع ما ينعكس على ما نلحظه من التنوع والاختيارت غير الاعتيادية.
إحياء الحلم الأمريكي!
يُعد الفوز الساحق لفيلم "كل شيء كل الأماكن دفعة واحدة" انتصاراً غير مسبوق للسينما الآسيوية. ويتناول الفيلم قصة عائلة صينية مهاجرة تعيش بالولايات المتحدة، ويعكس الفيلم ما تواجهه الأسرة المهاجرة يومياً من ضغوط في إطار يجمع بين الرسوم المتحركة والفانتازيا والخيال العلمي، أعطى للبطلة قدرة على التواصل مع نسخ مختلفة من ذاتها، في أكوان متعددة، مما يمكنها من اكتساب مهارات من أجل حماية نفسها وعائلتها.
ولا يمكن عزل نجاح الفيلم عن السياق التاريخي للأقلية الآسيوية التي من المعروف أنها من أكثر الأقليات التي عانت من التهميش لعقود طويلة داخل الولايات المتحدة، وهو ما عبرت عنه ميشيل يوه Michelle Yeoh بطلة الفيلم، التي فازت بجائزة أحسن ممثلة وأصبحت أول آسيوية تفوز بهذه الجائزة، حينما قالت أثناء تسلمها الجائزة: "إلى كل الأولاد والبنات الصغار الذين يشبهونني شكلاً، هذه الجائزة هي منارة تنير الطريق بالأمل والفرص" في إشارة إلى أن ما كان بالأمس مستحيلاً الوصول إليه لهذه الفئة من الشعب بات اليوم ممكنناً.
"هذا هو الحلم الأمريكى" هكذا صرخ الممثل كي هوي تشيوانKe Huy Quan بطل الفيلم حينما حصل على جائزة أفضل ممثل مساعد واستطرد وهو يبكي موضحاً قصته كلاجئ هارب من فيتنام وصولاً إلى الولايات المتحدة، إلى أن انتهى به المطاف حائزاً على الأوسكار. وهو ما لا يمكن أن يحدث في أي مكان سوى في الولايات المتحدة على حد قوله.
عبر عقود ظلت جائزة الاوسكار معنية بتسليط الضوء على الأفلام الأمريكية التى تركز بالأحرى على قصص الرجل الأبيض. مع تغيير معطيات العصر اصبحت السينما الأمريكية والقائمين عليها أكثر إنفتاحا على الآخر مما ساهم فى تعضيد فكرة " الحلم الأمريكى" التى اصبحت أكثر قربا من اى وقت مضى للملايين حول العالم فى ظل عالم الثورة الرقمية التى باتت الحدود فيه أمر سهل تجاوزه
في هذا الإطار، يمكننا القول إن الفائز الأكبر بهذه الجائزة كان فكرة "الحلم الأمريكي"، التي تم تكريسها وأشعلت قلوب الملايين الحالمة حول العالم.
تصاعد تأثير المشاهد
أبرز ما يلاحظ هذا العام هو بروز أفلام "البلوك بوستر Blockbuster" "الأفلام التي تنتجها شركات إنتاج هوليوود الكبرى بميزانيات ضخمة والتي تحقق إيرادات كبيرة في شباك التذاكر" في ترشيحات الأوسكار. حيث تنافست 3 أفلام منها في فئة أحسن فيلم وهي فيلم أفتار الجزء الثاني "Avatar: The way of water" الذي تجاوزت إيراداته 2 مليار دولار عالمياً، وفيلم "توب غون مافريكTop Gun Maverick " الجزء الثاني الذي قدرت إيراداته بحوالي 1.5 مليار دولار عالمياً، وفيلم "إيلفيس Elvis " الذي حقق حوالي 287 مليون دولار عالمياً. وعلى الرغم من الميزانية الضخمة التي أنتجت بها هذه الأفلام، إلا أن فيلم كل شيء كل الأماكن دفعة واحدة استطاع أن يحقق إيرادات تجاوزت 104 ملايين دولار عالمياً، بالرغم من عدم امتلاكه لعناصر الجذب التي تمتلكها الأفلام السابقة، وعلى رأسها عدم وجود ممثلين على نفس القدر من الشهرة، ولا ميزانية الإنتاج الضخمة. وقد تمكن أيضاً من الحصول على أكبر عدد من ترشيحات الأوسكار التي بلغت 11 ترشيحاً في فئات مختلفة، حصد منها 7 جوائز.
لم نر هذا في الأعوام السابقة، فقد وضع القائمون على الجائزة هذا العام الأفلام التي أقبل عليها الجمهور في قلب الترشيحات، وذلك في محاولة لإعادة جذب اهتمام الجماهير مرة أخرى بالحدث الأهم سنيمائياً، بعد أن فقد عدداً كبيراً من المشاهدات خلال الأعوام السابقة، خاصة مع حقيقة أن عدد المشاهدات يترجم لمكاسب إعلانية ومادية، وتعكس المشاهدات اهتمام الجمهور بالأفلام المرشحة من عدمه. فعلى سبيل المثال كان حفل الأوسكار السبعين عام 1998 الأكثر مشاهدة على الإطلاق نظراً للشعبية الكاسحة لفيلم "تيتانيك" آنذاك، حيث بلغت عدد مشاهدات الحفل ذلك العام 57 مليون مشاهدة. ومن غير المتوقع الاقتراب من تلك الأرقام حالياً. خاصة في عصر الإنترنت ووسائط المشاهدة المتعددة فلن تتحقق تلك النسب العالية من المشاهدات.
وهذا يثير تساؤلات حول كيفية رؤية القائمين على الصناعة لدور المشاهد، وعن كيفية رؤية المشاهد نفسه لدوره كعنصر أساسى في هذه الصناعة. بالقطع، مكانة المشاهد وأهمية جذبه كانت دائماً عنصراً محورياً في صناعة السينما، لكن هناك متغيرات أعادت صياغة تلك العلاقة. من أبرزها الثورة الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي، ونظام الإنتاج الذي طرحته المنصات الإلكترونية، والذي غير القواعد التقليدية التي كانت حاكمة للصناعة وسمح بنظام إنتاج مختلف، يشجع على التعددية ويعطي صوتاً ومكاناً لفئات وثقافات ظلت مهمشة لعقود.
فنجد أن المشاهد اليوم أصبحت لديه اختيارات واسعة من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن امتلاكه لأدوات تواصل اجتماعي أعطى له فرصة ليكون له صوت مسموع حتى خارج حدوده الجغرافية ومن ثم قوة أكبر. وعملت جائحة "كورونا" على ترسيخ هذه المنظومة الجديدة، وسمحت هذه الفترة وما بعدها بمراجعات عديدة انعكست على كافة مناحي الحياة ومنها صناعة السينما، وشركات الإنتاج، وعلى معايير الجوائز وأبرزها الأوسكار.
وكان أهم الأسئلة التي أعادت صياغة نفسها هو عن مدى وكيفية تأثير المشاهد في الصناعة بخلفياته وثقافاته المتنوعة؟ وهل ما يحبه الأغلبية يجب أن يتصدر الجوائز؟ باعتبار أن صناعة السينما هي صناعة ذات شق اقتصادي بالأساس، أم أن احترام المشاهد يكمن في وجود نوعيات متعددة من الأفلام تخدم أذواق متعددة، قد لا تنجح جماهيرياً، ولكن من حقها أيضاً أن تتصدر الجوائز إذا أهلها مستواها الفني لذلك. وهو ما دفع أعضاء أكاديمية الأوسكار هذا العام لمحاولة تحقيق هذا التوازن.
حملات إلكترونية للمرشحين
أثار ترشيح الممثلة أندريا ريسبورو Andrea Riseborough عن دورها في فيلم "إلى ليزليTo Leslie "، جدالاً واسعاً وردود فعل متباينة، ما طرح تساؤلات عن مدى عدالة ونزاهة عملية الترشيح. حيث جاء ترشيحها بشكل مفاجئ خاصة وأن الفيلم الذي ترشحت لأفضل ممثلة فيه لم يحظ بكثير من المشاهدة. وأثار البعض تساؤلات حول إذا ما كانت حملة قوية لصالح ريسبورو قد انتهكت القواعد التي وضعتها الأكاديمية. وهو الأمر الذي دفع القائمين على الأوسكار إلى إصدار بيان، دون الإشارة إلى اسم الممثلة، يؤكد أنه تتم عملية مراجعة معايير وإجراءات الحملات الخاصة بالأفلام المرشحة وبالمرشحين في ظل عصر الثورة الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي.
فقد جاء هذا الترشيح بعد تركيز الممثلة وحملتها الترويجية على وسائل التواصل الاجتماعي بالأساس، إذ لم يكن لديهم الإمكانات المادية ولا المنافسات أو الكيانات الكبرى التي كانت تدعم منافسيها، وتم إدارة حملتها بالكامل على مواقع التواصل الاجتماعي من خلال الاستعانة بالفنانين والمؤثرين في مواقع التواصل والإعلاميين وطلبت منهم الإشادة بأداء الممثلة على حساباتهم فى حال نال أداؤها للدور إعجابهم. وبالفعل نجحت هذه الاستراتيجية ونالت الممثلة الترشيح فى النهاية.
في حقيقة الأمر لا يوجد أي خرق للقواعد في هذه الاستراتيجية التي تعتمد على الاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي، غير أنها لم تكن متماشية مع ما جرى عليه العرف من الاستعانة بحملات تتكلف ملايين من أجل الحصول على الترشيح. ويثير هذا التوظيف الجديد لوسائل التواصل الاجتماعي التساؤلات حول تكافؤ الفرص والعدالة، فقد يرى البعض أن وسائل التواصل الاجتماعي أعطت صوتاً وفرصة لمن لم يكن ليحظى بهما مسبقاً. فقد أثبت هذا الترشيح لممثلة من فيلم مستقل صغير الميزانية، أنه بإمكان أفلام ذات ميزانية متواضعة للدعاية أن تحصل على ترشيح دون أن يكون خلفها شركة إنتاج أو توزيع قادرة على ضخ ملايين لحملات الدعاية الأساسية للحصول على ترشيح الأوسكار.
في السياق ذاته بات وجود الأفلام التي انتجتها منصات جنباً إلى جنب مع الأفلام التي أنتجتها شركات الإنتاج التقليدية، أمراً اعتيادياً ليرسخ حضور المنصات الرقمية كفاعل رئيسي في الصناعة بعد سنوات من المقاومة من قبل الفاعلين التقليديين، في ظل عصر الثورة الرقمية.
أخيراً، يمكن القول إن قراءة تلك النتائج لا يمكن أن تحدث بمعزل عن السياق العالمي للحظة الآنية. وأن ترشيحات وجوائز هذا العام جاءت معبرة تماماً عن عصر جديد بدأت ملامحه في التشكل والتبلور. وبدا جلياً حرص الولايات المتحدة على التفاعل مع المتغيرات من أجل استمرار تفعيل استخدامها للسينما كأداة للقوة الناعمة وتكريس فكرة الحلم الأمريكي وجعلها حاضرة في قلوب الملايين حول العالم من خلال الوسيط السينمائي بقدرته الساحرة على الولوج لعمق النفوس والتأثير فيها بشكل لا مثيل له.
من ناحية أخرى فإن العصر الرقمي الذي نعيشه، بغض النظر عن أي أحكام حول سلبياته أو إيجابياته، قد أعطى مجالاً لبروز فئات كانت منسية. كما سمح بإعطاء صوت لمن لم يكن لهم صوت. وانعكس ذلك على كل مجالات الحياة. وأعاد هذا العصر الرقمي بشكل ثوري، ترتيب كل الحسابات التي كانت قائمة على توازنات القوى التقليدية. وهذا بالضبط ما رأيناه من أفلام وممثلين يصعدون إلى قلب المشهد السينمائي العالمي ويحصلون على الأوسكار وهو ما لم يكن أبداً ليحدث في السابق. والتساؤلات حول مدى الأحقية بالمعايير الفنية أو ما إذا كان ما يحدث يخضع لمعايير العدالة والنزاهة هي تساؤلات جدلية مشروعة ولايمكن حسمها ببساطة. أما الأكيد والذي بات محسوماً فهو الفرصة التي أصبحت أكثر إتاحة وقرباً في عصر الثورة الرقمية وكيفية استغلالها في جعل الأحلام المستحيلة ممكنة.