عرض: منى أسامة
في مفهومها التقليدي، تعني "السيادة" السلطة العامة لسن القوانين وإنفاذها بغرض الحفاظ على القانون والنظام داخل المجتمع، أي أن ممارسة السيادة من قِبَل السلطة ترتبط بحدود وعوامل مجتمعية وجغرافية معينة. في المقابل، لا يبدو أن للفضاء الإلكتروني حدود يمكن من خلالها ممارسة السيادة، كما أنها تتعارض مع حرية الإنترنت كصفة أصيلة للفضاء الإلكتروني.
مع ذلك، ففي ظل التطورات التكنولوجية أصبح الفضاء الإلكتروني جزءاً لا يتجزأ من حياة الإنسان، إذ يتم إنشاء كمية هائلة من البيانات باستخدام التطبيقات السيبرانية. ومن جانبها، تقوم الحكومات والمؤسسات الخاصة بمعالجة هذه البيانات للحصول على معلومات استخباراتية قابلة للتنفيذ، مما يساعدها في تحقيق أهداف محددة. وعليه، بات من الضروري الحديث عن السيادة السيبرانية Cyber Sovereignty.
في هذا الإطار، تناقش الباحثة مادهوفانتي بالانيابان، مفهوم "السيادة السيبرانية" وإشكالياته، في ورقة بحثية منشورة على مؤسسة Observer Research Foundation في ديسمبر 2022، إذ تطرح التعريفات وتستكشف التدابير التي تتبناها الدول لممارسة سيادتها على الفضاء الإلكتروني، علاوةً على تأثير أصحاب المصلحة المتعددين والطابع اللامحدود للعالم الافتراضي على ممارسة السيادة السيبرانية.
تعقيدات سيبرانية:
يختلف الفضاء السيبراني عن العوالم الأخرى التي تمارس فيها السلطة سيادتها بطريقة أقل تعقيداً، حيث يتسم هذا الفضاء بكونه في توسع مستمر، مما يجعل من الصعب تحديد ما يمكن تضمينه تحت سلطة "السيادة"، هذا بالإضافة إلى أن العديد من أصحاب المصلحة شاركوا في إنشاء "الفضاء السيبراني" منذ بدايته، بما في ذلك الحكومات والقطاع الخاص والمجتمع المدني. وعلى النقيض من العوالم الأخرى، فإن التكنولوجيا هي من يحدد القرارات السياسية. فعلى سبيل المثال، تم إنشاء القيادة السيبرانية الأمريكية في أعقاب عملية Buckshot Yankee والتي استهدفت الأنظمة العسكرية الأمريكية في 2008.
وأدت طبيعة الفضاء السيبراني إلى جعل حوكمته أمر معقد تتداخل فيه أولويات حكومات الدول وأصحاب المصلحة الآخرين، ففي البداية لم تكن هناك مشكلة بشأن التحكم في الإنترنت، لاسيما أن جميع الأجهزة والبرمجيات تم ابتكارها وتطويرها في الغرب لسنوات طويلة؛ ما يعني أن القيود المفروضة على التدفق الحر للمعلومات عبر الإنترنت كانت قليلة أو معدومة. وعلى الرغم من قبول الدول غير الغربية، كالصين وروسيا لمثل هذا التدفق الحر في البداية، فقد أدركت حكومتا الدولتين فيما بعد أن هذا قد يؤثر سلباً عليهما. بالتالي، عارضت كلاهما التصميم المفتوح للإنترنت وحاولتا فرض السيادة على الفضاء الإلكتروني.
علاوة على ما سبق، ساهم توسع الفوائد العسكرية والسياسية والاقتصادية المحتملة للإنترنت لدى الحكومات في زيادة الرغبة في ممارسة السيطرة على الفضاء الإلكتروني خاصة داخل حدود الدولة باستخدام القنوات السياسية والاقتصادية والثقافية والتكنولوجية. كما استغل البعض نقاط الضعف في الفضاء الإلكتروني لتحقيق أهداف سياسية عن طريق استخدام أكواد خبيثة مثل Stuxneta أو تقنيات التجسس مثل برنامج PRISM.
السيادة والمسؤولية:
يعود مفهوم السيادة إلى حرب الثلاثين عاماً (1618-1648)، والتي انتهت بصلح وستفاليا والذي قضى بحقوق الدول السيادية على أراضيها الجغرافية وعدم التدخل في شؤونها الداخلية من قبل الدول الأخرى، وكان مفهوم السيادة قاصراً على الحدود المادية للدولة. لكن مع زيادة الهجمات الإلكترونية وتنظيم الاحتجاجات المناهضة للحكومات عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي، أصرت العديد من الدول على توسيع مفهوم السيادة ليشمل التحكم في المعلومات التي تعبر حدودهما.
وبدأت الدول تنظر إلى الفضاء الإلكتروني كمكافئ للأراضي المادية، وتقوم ببناء جدران افتراضية لحماية "أراضيها الإلكترونية" بمساعدة تقنيات مختلفة. وتعتبر الثغرات الأمنية في الفضاء الإلكتروني أحد الأسباب الرئيسية لهذا التغيير الجذري، لكن تكمن المشكلة في غموض مفهوم السيادة ذاته، ذلك الغموض الذي تستغله بعض الدول لنشر التفسير الخاص بها والملائم لمصالحها.
في هذا الإطار، تثير مسألة السيادة السيبرانية تساؤلاً عن مسؤولية الحكومات عن الهجمات الإلكترونية التي تنطلق من أراضيها، كونها تقع تحت سيادة الدولة. فالسيادة "تمنح حقوقاً للدول وتفرض عليها التزامات"، وفقاً إلى محكمة العدل الدولية. بالتالي، يُفترض أن تتحكم الدول في بنيتها التحتية الإلكترونية ومنع استخدامها عن قصد أو عن غير قصد لإلحاق الضرر بالجهات الحكومية وغير الحكومية خارج حدود الدولة. وبناءً عليه، تخضع الدولة ومواطنيها ممن شاركوا في الهجمات الإلكترونية لنطاق السيادة السيبرانية.
وتتنافس الدول في تعزيز قدراتها السيبرانية، انطلاقاً من أن الفضاء السيبراني هو الساحة الخامسة لخوض الحروب في القرن الواحد والعشرين، بعد الأرض، والجو، والماء، والفضاء الخارجي. كما أن الأضرار المترتبة على الهجوم السيبراني تشمل عادةً قطاعات حيوية للدولة المستهدفة، كالاتصالات السلكية واللاسلكية والنقل والدفاع والطاقة والبنوك. لذلك، هناك منافسة بين الدول للحصول على قدرات إلكترونية متقدمة، كما تعمل أي دولة تتعرض للهجوم على تحسين بنيتها التحتية السيبرانية من خلال إدخال أطر وسياسات جديدة لحمايتها وضمان سيادتها في الفضاء السيبراني. وعلى عكس الأبعاد الأربعة الأخرى للحرب، يمكن للدول الصغيرة نسبياً ذات الموارد المحدودة -مثل كوريا الشمالية على سبيل المثال- أن تشكل تهديداً كبيراً عبر التهديدات السيبرانية ضد الدول الأكبر منها.
تجزئة الإنترنت:
تسببت أحداث عالمية مثل "الربيع العربي" (الذي استخدم المتظاهرون خلاله وسائل التواصل الاجتماعي لحشد الاحتجاجات) وتسريبات ستوكسنت وإدوارد سنودن في الاعتقاد بأن الولايات المتحدة تستغل الفضاء الإلكتروني لتحقيق أهدافها الجيوستراتيجية؛ مما دفع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى اعتبار الإنترنت "مشروع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية"، بل وتبنت موسكو سياسات وطنية خاصة بها لحماية البيانات الروسية. وينتج عن قيام كل دولة بتبني نظام أو إنشاء فضاء إلكتروني خاص بها، إلى تفكك الإنترنت العالمي أو ما يُعرف بـ"تجزئة الإنترنت" والذي بدوره، يؤدي إلى تعرض الاتصال العالمي بالإنترنت للخطر من خلال الحد من التدفق الحر للمعلومات، والذي يعتبر من أساسيات الإنترنت.
كانت الولايات المتحدة قد استثمرت خلال الحرب الباردة في تطوير شبكة وكالة مشاريع الأبحاث المتقدمة (ARPANET)، وهي شبكة رائدة للإنترنت. وفي المقابل، حاول الاتحاد السوفييتي تطوير شبكة اتصالات عبر أجهزة الكمبيوتر، إذ عمل في أوائل ستينيات القرن العشرين، على تنفيذ مشروع "OGAZ" لبناء شبكة إنترنت على مستوى الاتحاد (النسخة السوفييتية من ARPANET). لكن لم يكتمل المشروع السوفييتي على الرغم من تحقيقه بعض التقدم في البداية الأولى؛ بسبب القيود المالية ومعارضة بعض المسؤولين.
وبالرغم من جهود حكومات القوى العالمية لاسيما الولايات المتحدة من أجل تطوير الإنترنت، فإنه تم إنشاؤه بشكلٍ أساسي من قبل مجتمع العلماء. فعلى سبيل المثال، يرجع الفضل إلى جون بوستل وتيم بيرنرز لي في تطوير نظام أسماء النطاقات (DNS) وشبكة الويب العالمية، واللتين بمنزلة ركيزة ثورة الإنترنت. ومع زيادة استخدام الإنترنت حول العالم، أصبح احتكار الولايات المتحدة للسيطرة على خوادم الجذر root servers مصدر لقلق الدول الأخرى، لاسيما روسيا والصين. ففي عام 1998، اقترحت روسيا مشروع قرار بعنوان "التطورات في مجال المعلومات والاتصالات السلكية واللاسلكية في سياق الأمن الدولي" أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. بعد ذلك، تم تشكيل مجموعة من الخبراء الحكوميين للتعامل مع القضايا المتعلقة بالأمن السيبراني، والتي شاركت فيها روسيا والصين لمعارضة الهيمنة الأمريكية.
وفي سياق متصل، اعتبرت الصين وروسيا أن سيطرة الولايات المتحدة على وظائف هيئة الإنترنت للأرقام المخصصة (IANA) انتهاكا لسيادتهما. ومع الضغط الدولي المتزايد، اضطرت الولايات المتحدة في عام 2016 إلى نقل وظائف (IANA) إلى مؤسسة الإنترنت للأسماء والأرقام المُخصصة (ICANN)، حيث تعتبر الأخيرة منظمة غير ربحية متعددة أصحاب المصلحة من مختلف الجنسيات.
آليات الحماية:
اعتمدت معظم الدول قوانين وقواعد للإنترنت لمنع التدخل الخارجي وحماية سيادتها. مثلما فعلت الصين والتي فرضت سيطرتها على بنيتها التحتية الأساسية، والبرمجيات، وبياناتها باستخدام ما يُسمى "جدار الحماية العظيم للصين"، والذي يراقب نشاط مواطنيها في الفضاء الإلكتروني بمساعدة فاعلين من القطاع الخاص. ويعتمد جدار الحماية العظيم على تقنيات مثل حظر بروتوكول الإنترنت (IP)، والرقابة الذاتية.
وتوظف الحكومة الصينية ومالكو التطبيقات الآلاف لمراقبة المحتوى الذي يشاركه المستخدمون، بحيث يتم حظر الرسائل المسيئة للحكومة قبل أن تنتشر. ويعد محرك بحث جوجل والتطبيقات الأخرى المملوكة للشركات الغربية متعددة الجنسيات مثل تويتر، وفيس بوك، وواتس آب أحد أبرز التطبيقات المحظورة في الصين، والتي وفرت لمواطنيها نسخاً بديلة مثل محرك البحث "Baidu" ورسائل "WeChat". وبالرغم من أن هناك تطبيقات صينية عالمية مملوكة للقطاع الخاص مثل Alibaba تاجر التجزئة عبر الإنترنت وعملاق الترفيه وألعاب الفيديو Tencent، فإن الحزب الشيوعي الصيني لديه سيطرة فعَّالة عليه.
تُعزي الصين سياستها الخاصة بشأن التحكم في الإنترنت إلى اعتقادها بأن الغرب يستخدم الفضاء الإلكتروني كأداة لمراقبة السكان الصينيين أو إمكانية استغلال الكمية الكبيرة من البيانات التي ينتجها الصينيون، بخلاف الخوف من أي تهديد أيديولوجي أو سياسي من الغرب قد يؤدي إلى عدم الاستقرار وتهديد الأمن في الصين.
بالمثل، تمتلك روسيا "Mail.ru" (ما يعادل Gmail) ومحرك البحث "Yandex". وقد أدخلت آليات رقابية لتنظيم قطاع الاتصالات الخاص بها، علاوةً على إنشاء بنية تحتية للإنترنت خاصة بها تدعى "Runet". وفي عام 2019، دخل قانون "الإنترنت السيادي" الروسي حيز التنفيذ، حيث فصل هذا القانون الإنترنت في روسيا عن بقية العالم، وأرجعت موسكو هذه الإجراءات إلى أهمية حماية الفضاء السيبراني الخاص بها من الأعداء.
أما القوى الغربية مثل الولايات المتحدة، وفرنسا، والمملكة المتحدة فلديها قوانين حماية البيانات الخاصة، لكنها لا تقيد التدفق الحر للمعلومات إلا فيما يتعلق ببعض المحتويات، كالمواد الإباحية للأطفال. مع ذلك، تسببت مواقع التواصل الاجتماعي مثل فيس بوك، وتويتر في نشر دعاية كاذبة؛ مما شكل تحدياً أمام الدول الليبرالية.
على الجانب الآخر، فللسيادة السيبرانية تداعيات مختلفة، إذ يمكن للدول واللاعبين الخاصين انتهاك حقوق الإنسان من خلال مراقبة الفضاء الإلكتروني والتحكم في تدفق المعلومات، وفرض إغلاق الإنترنت. علاوةً على انتهاك الخصوصية، وحرية التعبير، والوصول إلى المعلومات، وحرية المعتقد، وحرية تكوين الجمعيات، وغيرها.
وتختم الباحثة الورقة بأن أهمية المجال السيبراني ستستمر لسنوات قادمة. مع ذلك، مازال هناك تحد في تحديد ماهية "السيادة السيبرانية" والتي تعمل في الاتجاه المعاكس لتعزيز التدفق الحر للمعلومات كصفة أصيلة لاستخدام الإنترنت. ويزيد التحدي مع تباين وجهات نظر بين الدول حول استخدام مواطنيها للإنترنت، حيث يواصل الغرب الترويج للإنترنت المفتوح، وفي المقابل تدعم دول مثل الصين، وروسيا النموذج المغلق.
المصدر:
Madhuvanthi Palaniappan, Cyber Sovereignty: In Search of Definitions: Exploring Implications, Observer Research Foundation (ORF), ISSUE NO. 602, DECEMBER 2022.