الفكرة الأساسية في تغيير النظم السياسية بإرادة خارجية أن ثمة نظماً تمثل في رأي نخب حاكمة ما تهديداً للسلم والأمن الدوليين، سواءً لسلوكها العدواني تجاه محيطها الخارجي أو لاحتضانها تنظيمات إرهابية تسبب الضرر نفسه، وفيما بعد تطورت الفكرة، حيث امتدت لمحاسبة النظم على سلوكها تجاه شعوبها فيما يعرف بالتدخل الإنساني، واستخدمت لتبرير التدخل الخارجي بحجة إعادة بناء هذه النظم، وفقاً للقيم والمؤسسات السياسية الديمقراطية.
ولا تخفى مخاطر توظيف هذه الفكرة لخدمة مصالح الدول المتدخلة، ويمكن اعتبار التدخل الأمريكي لتأسيس نظامين وفقاً لقيم الديمقراطية الغربية في اليابان وألمانيا الغربية عقب الحرب العالمية الثانية على أنقاض النظامين اللذين روعا شعبيهما والعالم هو الحالة المعاصرة الأولى، وقد استُخدِم نجاحه لتبرير محاولات فاشلة لتأسيس نظم سياسية بإرادة خارجية من دون تبصر في الظروف الخاصة للتجربة، وأولها أن التدخل حدث بعد هزيمة كاملة في حرب امتدت لسنوات وخلفت وراءها دماراً وخسائر بشرية هائلة، فيما جرت عمليات التدخل اللاحقة ضد نظم قائمة ولها قاعدة قوتها الداخلية، ناهيك عن اعتبار هذه العمليات عدواناً خارجياً على نحو استنفر مقاومة وطنية لها.
ذريعة الإرهاب:
وقد كان تفاقم خطر الإرهاب في مطلع هذا القرن مناسبة لإحياء هذه الفكرة مع أنها لم تغب أبداً عن مخيلة نخبة صنع القرار الأمريكي كلما ظهر نظام اعتبرته خطراً على مصالحها، كما في حالة الثورة الكوبية في خمسينيات القرن الماضي. أو برز تهديد لنظام يدور في فلكها كنظام ڤيتنام الجنوبية الذي هدده "الڤيت كونج" المدعومون من ڤيتنام الشمالية والصين والاتحاد السوڤييتي في ستينيات القرن الماضي وسبعيناته.
ومع أن محاولتي التدخل في الحالتين قد منيتا بالفشل الذريع، كما في عملية "خليج الخنازيز" في كوبا 1961، التي جندت فيها المخابرات المركزية الأمريكية عناصر كوبية معارضة، والتدخل الأمريكي في ڤيتنام بحوالي ربع مليون جندي مسلحين بأشد الأسلحة التقليدية فتكاً، إلا أنه يبدو أن نخبة صنع القرار الأمريكي لم تستوعب الدرس رغم التكلفة المادية والبشرية الهائلة بالذات في الحالة الڤيتنامية.
وقد يكون لنجاح الرئيس جورج بوش في دحر الغزو العراقي 1991 دور في إعادة الاعتبار لفكرة التدخل الخارجي مع أن السياق كان شديد الاختلاف، فقد كانت عملية الكويت موجهة ضد عدوان خارجي ومتمتعة بشرعية كويتية وعربية ودولية.
وجاء تفاقم خطر الإرهاب في مطلع القرن مع أحداث سبتمبر 2001 ليعطي الذريعة لنخبة صنع القرار الأمريكي للعودة إلى الفكرة الفاشلة، وهكذا تم الغزو الأمريكي لأفغانستان في 2001 للقضاء على نظام "طالبان" المحتضن لتنظيم القاعدة، وللعراق في 2003، بحجج كثيرة ثبت زيف معظمها كان من بينها دعم الإرهاب.
فشل أمريكي:
لم تختلف النتيجة مطلقاً عن سوابق الخبرة الماضية وهي الفشل الذريع، ففي العراق أدت سياسات الاحتلال الأمريكي إلى تفكيك مؤسسات الدولة والمجتمع، وعانى النظام السياسي الجديد الذي ابتكره خبراء أمريكيون من تشرذم وعدم استقرار هائل مازال العراق غير قادر على التخلص منه تماماً، ناهيك عما أضافه الغزو من أوجاع النفوذ الإيراني الذي تمدد على نحو غير مسبوق، مستفيداً من خلخلة الدولة والمجتمع، ومن مزيد من توحش الإرهاب كما بدا في تأسيس أول دولة للإرهاب في الخبرة المعاصرة.
أما الخبرة الأفغانية فلابد أن تمثل الدرس الأخير في عمليات التدخل الخارجي لفرض النظم بإرادة خارجية، فبعد عشرين عاماً من الغزو الأمريكي للقضاء على "طالبان" تتفق إدارة ترامب معها وتلتزم إدارة بايدن بعدها بالاتفاق على انسحاب القوات الأمريكية مقابل مجرد تعهد "طالبان" بألا تجعل أفغانستان قاعدة لتنظيمات إرهابية تلحق الضرر بالولايات المتحدة التي اعتبرت هذا الاتفاق نصراً مع أنه هزيمة ساحقة عسكرية وسياسية، فأنت تضع يدك في يد من هاجمته أصلاً للقضاء عليه وأسقطت نظامه بالفعل لكنه قاوم وأجبرك على الانسحاب واستولى على السلطة قبل إتمام انسحابك، وليس صحيحاً أنك قضيت على "القاعدة" ناهيك عن التلاشي الفوري للنظام الذي أسسته ورعيته لعقدين من الزمان، وينبغي أن تكون هذه الخبرة الدرس الأخير في فساد فكرة تأسيس النظم السياسية بإرادة خارجية نظراً لاختلاف منظومة القيم والبنى الاجتماعية بين القوى المتدخلة والبلدان المستهدفة بالتدخل، فهل يستوعب الدرس من يعنيهم الأمر؟