بالإضافة إلى الخسائر الاقتصادية الجسيمة لعملية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي «بريكست» والتي أشرنا إليها الأسبوع الماضي، فإن حدة الخلافات تجاوزت كل الحدود لتصل إلى عمق فقهاء القانون والقضاء في المملكة المتحدة، فبعد تعليق مجلس العموم «البرلمان» لأكثر من شهر من قبل رئيس الوزراء «بوريس جونسون» واحتجاج المعارضة رفعت القضية للقضاء، حيث أكدت المحكمة العليا في إنجلترا وويلز على قانونية قرار رئيس الوزراء، في حين اعتبرت المحكمة العليا في اسكتلندا أن هذا القرار غير قانوني، أما الطرف الرابع المكون للمملكة المتحدة، أي أيرلندا الشمالية، فقد قررت المحكمة العليا هناك استبعاد الموضوع وعدم اتخاذ قرار للمحافظة على السلم الاجتماعي وتجنب المزيد من الانقسامات وفق قول المحكمة.
والمواقف القضائية السابقة تتوافق نوعاً ما مع المواقف السياسية لهذه الأطراف، فالإسكتلنديون على سبيل المثال يعارضون الخروج من الاتحاد الأوروبي، كما أن الإيرلنديين الشماليين والذين وحدهم يملكون حدوداً برية مع الاتحاد الأوروبي من خلال حدودهم مع جمهورية إيرلندا، وهي إحدى القضايا الشائكة التي تعرقل خروج بريطانيا من الاتحاد، فإنهم يحاولون النأي بالنفس لتجنب المزيد من الخسائر، فالحدود المفتوحة حالياً توفر لهم الكثير من الفرص من خلال التبادل التجاري مع دول الاتحاد، حيث تبلغ الصادرات من خلال هذه الحدود 4 مليارات دولار سنوياً.
لذلك رفعت القضية للمحكمة العليا الاتحادية لتقرر صحة القرار أو بطلانه، ومن ثم دعوة البرلمان للانعقاد قبل 14 أكتوبر القادم، مما يعني اشتداد الخلافات قبل عملية الخروج المقررة في 31 أكتوبر، حيث نشرت مؤخرا وثيقة مهمة تعالج تداعيات الخروج والتي يأتي في مقدمتها ارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة ونقص الأدوية وارتفاع أسعارها وتراجع قطاع الأعمال وتصفية بعض الأنشطة التجارية، وهو ما سينعكس على المستويات المعيشية ويرفع من معدلات التضخم ويزيد من تدهور الجنيه.
تزامن ذلك مع اتهام المعارضة لرئيس الوزراء بالكذب على الملكة عندما طلب منها تعليق عمل البرلمان، وهو ما نفاه «جونسون». أما الملكة، فإنها تلتزم الصمت حول كل هذا الجدل، وذلك على الرغم من أنها عبرت عن رأيها دون أن تنطق بكلمة واحدة وعلى طريقة الملوك وبأسلوب راق للغاية عندما حضرت إحدى المناسبات التي لها علاقة بهذه القضية مرتدية فستاناً أزرق جميلاً ومرصعاً بعدد من النجوم الصفراء، وهو شكل قريب من علم الاتحاد الأوروبي!
وفي الوقت الذي وافقت فيه على طلب رئيس الوزراء بتعليق عمل البرلمان، فإنها صادقت أيضاً على قرار مجلس العموم بعدم الخروج دون اتفاق كما يريد رئيس الوزراء، أي أن موقفها العلني محايد تماما لينسجم مع موقعها، كرأس للدولة، وذلك على الرغم من أن الدستور يمنحها الكثير من الصلاحيات القانونية التي تتيح لها التدخل، كإقالة الحكومة وحل البرلمان، بل وحتى إعلان الحرب.
لذلك تسير الأمور حالياً في اتجاهين متناقضين، فالحكومة وفق الوزراء المستقيلين تعمل بكل جهد وتخصص وقتها لعملية الخروج بغض النظر عن أية اعتبارات أو قرارات معرقلة، أما المعارضة فتعمل على وقف ذلك بكافة الوسائل والضغوط السياسية والقانونية. وسواء استمر تعليق البرلمان أو ألغي هذا التعليق في الأيام القادمة، فإن الفترة المتبقية من هذا الشهر وشهر أكتوبر القادم ستشتد فبها الخلافات بين مختلف الأطراف وستتعمق أزمة «بريسكت»، مما قد يستدعي، إما تنظيم انتخابات جديدة كما يرغب رئيس الوزراء الذي يرى أن الوقت لصالحه، خصوصا أن معظم المواطنين سئموا ويريدون الخروج بسرعة من لعبة «الروليت» الروسية هذه بغض النظر عن أي شيء آخر، مما قد يؤدي إلى منحه أصواتهم لإغلاق هذا الملف. الخيار الآخر والذي تؤيده المعارضة يكمن في تنظيم استفتاء جديد للتصويت ضد عملية الخروج، وما بين التنظيمين، أي تنظيم انتخابات جديدة أو استفتاء جديد وكذلك الخروج وعدم الخروج ستستمر عماية الاستنزاف الاقتصادي حتى إشعار آخر.
*نقلا عن صحيفة الاتحاد