تبنّى الرئيس "ترامب" قبل وبعد وصوله للبيت الأبيض، في يناير عام 2017، موقفًا عدائيًّا من الاتفاق النووي الذي وقّعته إدارة "أوباما" مع إيران، وانطلاقًا من هذا الموقف اتخذ قرارًا بالانسحاب من الاتفاق في مايو من عام 2018. لكنّ التطورات الحادثة في ملف العلاقات الأمريكية الإيرانية خلال الأسابيع الماضية تُنبئ بأن تغييرًا من المحتمل أن يطرأ على موقف "ترامب"، من حالة عداء للاتفاق إلى إمكانية البدء في مفاوضات مع الإيرانيين حول اتفاق جديد، الأمر الذي يطرح عدة تساؤلات حول دوافع هذا التحول، وما الذي سوف يجري بين واشنطن وطهران في الفترة المقبلة.
الخروج من الاتفاق:
أعلن الرئيس "ترامب"، في 8 مايو 2018، انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي مع إيران أو "خطة العمل الشاملة المشتركة" Joint Comprehensive Plan of Action المعروفة اختصارًا بـ JCPOA الذي وقّعته إدارة "أوباما" مع الجانب الإيراني في أبريل 2015 من أجل وضع تسوية للبرنامج النووي الإيراني، وإلغاء جميع العقوبات المفروضة على إيران.
وكان أحد الأسباب الأساسية للخروج من الاتفاق هو رؤية الرئيس "ترامب" الشخصية للاتفاق، حيث يرى أنه اتفاق سيئ، وكان يجب ألا يحدث، وأنه لم يجلب السلام ولا الحل للملف النووي الإيراني، خاصة وأن هذا الاتفاق لم يتضمن -من وجهة نظره- القضايا الأخرى ذات الصلة بملف إيران بشكل عام، مثل: البرنامج الصاروخي، وأنشطة إيران لزعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط، ودعمها للإرهاب.
وعقب الخروج من الاتفاق اتّبعت الولايات المتحدة استراتيجية "الضغوط القصوى" التي تضمنت فرض عقوبات اقتصادية مشددة على إيران بهدف تضييق الخناق على النظام الإيراني، وذلك لإجباره على تغيير سياسته النووية والإقليمية. كما تبنّى الرئيس "ترامب" خطابًا مراوغًا؛ فمرة يتحدث عن أقصى العقوبات وعن المواجهة مع إيران إذا لزم الأمر، وفي أخرى يتحدث عن إمكانية التفاوض إذا أراد الجانب الإيراني الجلوس لطاولة المفاوضات.
مؤشرات ودوافع تغيير موقف "ترامب":
أظهر الرئيس "ترامب" خلال الأسابيع الماضية مؤشرات حول تغيير موقفه تجاه إيران، واحتمالات الانتقال من الموقف العدائي للاتفاق النووي إلى العودة للتفاوض على اتفاق جديد 2 JCPOA، وتتمثل مؤشرات هذا التغيير ودوافعه في الجوانب التالية:
1- الانخراط غير المباشر: تبنى الرئيس "ترامب" استراتيجية مزدوجة في تعامله مع الملف الإيراني خلال الفترة الماضية، فقد تبنّى خطابًا يعكس رسائل متضاربة عن استمرار العقوبات والضغوط، وأيضًا إمكانية التفاوض، وفي الوقت نفسه الانفتاح غير المعلن على المشاورات التي يُجريها الأوروبيون -خاصة الفرنسيين- مع الجانب الإيراني، وتعمد الهجوم على الرئيس الفرنسي، وذلك للوصول إلى أفضل عرض أو اقتراح يتم طرحه على الإيرانيين، ويمكن أن يقبله الرئيس "ترامب". ولاحقًا كشفت وسائل الإعلام الأمريكية، خاصة موقع "ديلي بيست"، أن هناك مقترحًا فرنسيًّا يتضمن تقديم 15 مليار دولار لإيران مقابل عودتها للالتزام بالاتفاق النووي، وأن الرئيس "ترامب" منفتح على هذا الاقتراح.
2- تقليص المعارضة الداخلية: مثّل موقف "جون بولتون" (مستشار الأمن القومي) من التواصل والحوار غير المباشر مع إيران، أحد أوجه المعارضة داخل الإدارة لموقف "ترامب" الراغب في الانفتاح على الإيرانيين. وبسبب اتساع الفجوة بين "ترامب" و"بولتون"، بعد أن اقترب الجانب الفرنسي من طرح مبادرة يمكن البناء عليها، أو بداية من الانطلاق منها في المفاوضات؛ قام الرئيس ترامب بإقالة بولتون يوم الثلاثاء 10 سبتمبر.
3- تأثير انتخابات الرئاسة 2020: يرجع السبب الرئيسي في تغيير موقف "ترامب" من العداء للاتفاق النووي إلى الانفتاح والسعي للتفاوض على اتفاق جديد مع الإيرانيين، إلى عامل الانتخابات الرئاسية 2020، فالرئيس "ترامب" يريد تحقيق انتصارٍ ما، حتى ولو كان شكليًّا، قبل نهاية العام يستطيع توظيفه في حملته الانتخابية. وفي هذا السياق، وفي حال حدث تقدم مع الجانب الإيراني، انتهى بلقاء أو صورة أو لقطة PHOTO UP مع الرئيس الإيراني "حسن روحاني"، يستطيع أن يقول أمام ناخبيه إنه نجح في إجبار الإيرانيين على العودة للتفاوض على تغيير الاتفاق النووي، أو نجح في دفعهم للقبول بتغيير هذا الاتفاق السيئ، حيث تشير التقديرات إلى أنه في حال استمرار التقدم غير المباشر الذي يجري وراء الكواليس بين الطرفين، يمكن أن يجري لقاء بين الرئيسين "ترامب" و"روحاني" قبل نهاية شهر سبتمبر على هامش اجتماعات الأمم المتحدة في نيويورك.
الاتفاق النووي "2":
هناك خمس قضايا رئيسية في الملف الإيراني على جدول الأعمال الأمريكي تشمل: برنامج إيران النووي، وبرنامج إيران الصاروخي، ودعم إيران لعملائها في المنطقة (مثل: حزب الله، والحوثيين)، ودور إيران في زعزعة الاستقرار في المنطقة بشكل عام، والحظر الاقتصادي على إيران، وأخيرًا قضية تغيير النظام الإيراني ذاته.
وفي حال استمرار المشاورات غير المباشرة بين واشنطن وطهران، والتي يقودها الأوروبيون خاصة الفرنسيين، ومع افتراض عدم حدوث تطورات سلبية تعرقل التقدم الذي يتم وراء الكواليس؛ فمن المحتمل أن ينتقل الطرفان لاحقًا إلى مناقشة فكرة المفاوضات المباشرة أو التفاوض على "اتفاق نووي جديد" JCPOA 2، والمفاوضات التي من المحتمل أو الوراد أن تتم على الاتفاق الجديد، ستكون في إطار مجموعة من الاعتبارات، تشمل:
1- جدول أعمال المفاوضات: من المحتمل أن تدور المفاوضات حول الـ12 عشرًا بندًا التي طرحها وزير الخارجية الأمريكي "مايك بومبيو" في مايو 2018، والتي تعالج ثلاث قضايا رئيسية هي: الخلل في الاتفاق النووي، والقدرات الصاروخية الإيرانية، وسلوك إيران الإقليمي. من جانبها، ستعمل إيران على ضرورة رفع أو تخفيف العقوبات، والحصول على ضمانات بعدم انسحاب الولايات المتحدة، وحوافز لاستمرارها في الاتفاق.
2- نتائج المفاوضات: في ظل فجوة المطالب بين الطرفين الأمريكي والإيراني، وتمسك كل طرف بمطالبه؛ فمن المحتمل أن يحقق الجانب الأمريكي نجاحًا في قضيتي الاتفاق النووي، والبرنامج الصاروخي. ففي هذا الإطار، ستتم إضافة بنود جديدة للاتفاق تتعلق بالبرنامج النووي، وإضافة بند جديد حول البرنامج الصاروخي من حيث المدى والقدرات، لكن من غير المحتمل تحقيق تقدم يذكر أو يمكن ضمان تنفيذه فعليًّا فيما يتعلق بسياسة إيران الإقليمية ودعمها لعملائها في المنطقة، مع قبول أمريكي بصيغة لتخفيف العقوبات أو وضع آلية معينة لرفعها.
3- حجم التغيير في الاتفاق الجديد: نجاح واشنطن وطهران في الوصول إلى اتفاق نووي جديد 2 JCPOA، لا يعني أن هذا الاتفاق سيكون مختلفًا كليًّا عن الاتفاق الذي عقدته إدارة "أوباما" مع إيران في عام 2015، لكن سيكون حجم التغيير محدودًا جدًّا، وربما لا يمثل إنجازًا حقيقيًّا لإدارة "ترامب"، فالمتوقع أن تكون مدة هذا الاتفاق أطول، من 15-20 عامًا بدلًا من 10 سنوات، وأن يتضمن بنودًا عن البرنامج الصاروخي ربما تكون شكلية، ومن المحتمل أن يطلب الجانب الإيراني ضمانات بشأن عدم انسحاب الجانب الأمريكي من الاتفاق.
ختاماً يمكن القول أن ثمة تغيير يلوح في الأفق بين واشنطن وطهران، وهذا التغيير الذي يجري الترتيب له حاليًّا وراء الكواليس عبر الوسطاء الأوروبيين وغيرهم، يركز على عقد لقاء بين الرئيس "ترامب" ونظيره الإيراني "حسن روحاني"، يستطيع من خلاله "ترامب" التأكيد على أنه حقق نجاحًا في الملف النووي الإيراني أفضل من "أوباما"، ويستتبع هذا اللقاء بدء مفاوضات مباشرة حول اتفاق نووي جديد 2 JCPOA، من المحتمل بشكل كبير أن يكون نسخة منقحة ومعدلة من الاتفاق النووي الذي وقعته إدارة "أوباما" مع إيران. ورغم وجود مؤشرات حول حدوث التطور السابق، يظل احتمال عدم حدوث تطور بين واشنطن وطهران واردًا أيضًا، إذا رفض الجانب الإيراني المقترحات التي تعرضها واشنطن.