تصاعدت مبادرات ومشروعات "أنسنة المدن" أو المدن الإنسانية Human Cities في عدد من الدول العربية، وبصفة خاصة في السعودية والإمارات العربية المتحدة والأردن والمغرب ومصر، والتي يشارك في صياغة ملامحها قادة الإدارات المحلية في القطاع الحكومي، والمنظمات غير الربحية، ومؤسسات القطاع الخاص، والجامعات، ومراكز الأبحاث المتخصصة، بالإطلاع على بعض التجارب الدولية والخبرات العالمية، دون محاولة استيرادها واستنساخها، وذلك لجعل المدن صديقة للإنسان، عن طريق رفع القدرات البشرية وتعزيز الأبعاد التراثية والثقافية وتقوية العلاقات الاجتماعية والإنسانية وتقليص المشكلات البيئية والاقتصادية لقاطني تلك المدن، وتفعيل الاتصال وآليات الحوار مع السكان، والاستفادة من المرافق البلدية الممثلة في الحدائق والمتنزهات والساحات العامة وممرات المشاة لإقامة المهرجانات الترويجية.
لا يوجد تعريف متفق عليه بشأن مفهوم أنسنة المدن في أدبيات علم الاجتماع أو التخطيط العمراني، وإن كان التيار الرئيسي يركز على أنه يقوم على أهمية مراعاة توفير مساحات واسعة للبشر، للتنزه والاستمتاع بالأماكن وسلاسة المرور، وإزالة العوائق والعشوائيات عن الأرصفة، مع شراكة المواطن في تحسين البيئة العمرانية، بما يخلق الراحة الحسية والبصرية والطبيعية للمواطن الذي يقطن في المدينة أو المنطقة أو الحى.
قيم الأنسنة:
وقد بدأت بعض الحكومات العربية منذ سنوات في التعامل مع المدن كآليات لرفاهية الإنسان وجودة الحياة بعدم التركيز على الهيكل البنائي للمدينة فقط القائم على تخطيط المباني وتوفير الخدمات وطرق التنقل وإنما بتعزيز بعض القيم المحورية ما بين الحكومة والمواطن مثل الترفيه والاستدامة والخيال والتعاطف، على نحو يخدم مختلف فئات المجتمع الكبير والصغير، ومن صحيح البدن إلى ذوي الاحتياجات الخاصة.
كما أن المدن التي يتشارك في تخطيطها وإعادة تشكيلها المعماريون وعلماء الاجتماع والفلاسفة والسكان تكون أكثر استدامة. علاوة على ذلك، فإن أنسنة المدن ترتبط بإيجاد المساحات العامة سواء الحدائق أو ساحة للعب الأطفال أو المواقع الأثرية بل وحتى الساحات التي تجمع موظفي الشركات المتجاورة. فالغرض من الأنسنة هو تزايد الترابط والتواصل بين البشر.
وفي هذا السياق، افتتح أمير المدينة المنورة الأمير فيصل بن سلمان، في 7 مايو الجاري، المؤتمر الدولي الأول لأنسنة المدن، الذي تنظمه هيئة تطوير المدينة المنورة، بمركز المؤتمرات في جامعة طيبة، لمدة أربع أيام، بمشاركة 50 من الخبراء والمتخصصين من 13 دولة في العالم (السعودية والإمارات والبحرين ومصر والأردن والولايات المتحدة وكندا وهولندا والسويد وألمانيا واليونان وسنغافورة وإندونيسيا) لاستخلاص الدروس المساعدة في المساعي المستقبلية نحو مدن أكثر ملاءمة للعيش بها والتعرف على الإمكانيات المتاحة لتطويرها.
وتناولت 20 جلسة في ذلك المؤتمر 8 محاور رئيسية، هى: المدن الإنسانية-المبادئ والممارسات، إدارة المدن الإنسانية ودور السلطات المحلية، تخطيط وتصميم المدن الإنسانية ودور الفراغات العامة، تمويل المدن الإنسانية، أنسنة المدينة المنورة-الفرص والتحديات، التحول نحو مدن ملائمة للجميع، دمج الاستدامة البيئية مع برامج الأنسنة، دور الثقافة والتعليم في أنسنة المدن. فالهدف ليس التخطيط الذي تقوم به أمانات المناطق وبلديات المدن من أجل البناء وإنما توفير بيئة صحية ومريحة للإنسان.
كما دعا مؤتمر عجمان الدولي للتخطيط العمراني في ختام دورته الثامنة التي انطلقت تحت شعار "نحو مدن سعيدة لشعوب متسامحة"، في 26 إبريل 2017، إلى تحديد القضايا الملحة التي تمس أنسنة المدن كون السعادة والتسامح قضايا إنسانية مباشرة ترتبط بتحول القيم، طبقًا لاختلاف الزمن والجغرافيا، وهو ما يعكس اهتمام الإمارات باقتصاديات السعادة، وكيف يعزز التخطيط العمراني التسامح الفكري والتحفيز الإيجابي، بما يقود لرؤية مدن سعيدة لشعوب متسامحة.
أنسنة التقنية:
فضلاً عن ذلك، قال وسام لوتاه المدير التنفيذي لمؤسسة حكومة دبى الذكية، في تصريح لصحيفة البيان في 23 أكتوبر 2017: "التطور التقني ليس غايتنا بل هو جزء من أدواتنا، فأى جهة قادرة على امتلاك التقنية بالتمويل المناسب لكن ما نسعى له هو توظيف التقنية لخدمة الإنسان بأنسنتها وخلق أفضل تجارب معيشية لتحقيق سعادة الإنسان"، وأضاف: "حرصنا بصفتنا الذراع التقنية لدبى الذكية على أمرين منذ بداية انطلاقنا، هما: السير بخطى واثقة لتحقيق رؤية دبى الذكية بأنسنة التقنية وتوظيفها لتكون دبى الأسعد، وفي الوقت ذاته العمل جنبًا إلى جنب مع شركائنا من المؤسسات الحكومية والخاصة المحلية والاتحادية لتعميم التجربة والمساهمة في تبادل أفضل التجارب لتعميم الأثر على مستوى الدولة".
إن هناك مجموعة من العوامل التي تفسر تصاعد الاهتمام بمبادرات "أنسنة المدن" في بعض الدول العربية، يمكن تناولها على النحو التالي:
أهداف استراتيجية:
1- التماهي مع الرؤى الوطنية/ الحكومية: يتماشى مشروع أنسنة المدينة المنورة مع الرؤية السعودية 2030، التي تهدف إلى الارتقاء بالمواطن السعودي بشكل عام، وخدمة الأنسنة في منطقتى مكة المكرمة والمدينة المنورة. فقد تزامن تنظيم المؤتمر مع إطلاق برنامج "جودة الحياة 2020" الذي يرسم خريطة طريق شاملة ومتكاملة للارتقاء بمدن السعودية إلى مصافي المدن العالمية الجاذبة للسكان وتحسين أنماط حياة المواطنين والمقيمين مع تحسين البنية التحتية التي تخدم الإنسان وليس المركبة، ومراعاة الاختلافات الاجتماعية.
وقد حددت رؤية السعودية 2030 حوالي 12 برنامجًا لأنسنة المدن، تركز على الارتقاء بجودة الخدمات، وإيصال صوت المناطق في برامج الرؤية وإبراز ميزتها التنافسية، وستظهر آثار هذه الرؤية في المناطق، وللتأكد من تحقيق الأهداف تم تخصيص مقعد دائم لممثل وزارة الاقتصاد والتخطيط في هذه البرامج جميعها لمواءمة الخطط القطاعية والمناطقية ذات العلاقة لكل برنامج، مع ترشيد الإنفاق على الخدمات والمشاريع وتوحيد ميزانيات المناطق التي تدخل في مبادرات أنسنة المدن.
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى ما كشفه أمين المنطقة الشرقية المهندس فهد بن محمد الجبير، في حوار مع وسائل الإعلام المحلية السعودية في 31 مارس الماضي، عن البدء بتطبيق مبادرة رائدة لتنفيذ متطلبات الوصول الشامل لذوي الإعاقة، والتي تهدف لتحويل مدن الحاضرة إلى مدن صديقة لذوي الإعاقة، بحيث تم توفير الاعتمادات المالية المطلوبة، تماشيًا مع رؤية 2030، وستشمل هذه المشاريع على تنفيذ الممرات والأرصفة ومواقف السيارات ومعابر المشاة والإشارات المرورية للمعابر بما يتوافق مع احتياجات ذوي الإعاقة.
الشراكة المجتمعية:
2- إشراك القوى المجتمعية في التنمية المحلية: لم يعد دور وزارات ومؤسسات الحكومة المعنية بالتخطيط والموارد البشرية كما كان في عقود سابقة منصبًا على الاهتمام بالمركز دون الأطراف بل صار معنيًا بالتركيز على الميزة النسبية التي تحظى بها كل المناطق في المدن السعودية، مثلاً، والاستفادة منها في المجالات السياحية والزراعية والصناعية، والمدن الذكية وغيرها. وهنا، لابد من استطلاع أداء مختلف فئات المجتمع ومشاركة الأفكار حول التخطيط العمراني والبيئي لأهمية ذلك في ربط البشر بالمدن والمناطق التي يقطنون فيها.
إذ يسود دول العالم ما يسمى بالتصميم التشاركي Participatory Design، القائم على إشراك سكان المدن في صنع مدنهم، على نحو ما حدث بالنسبة لمشروع أنسنة منطقة البيضاء في جنوب مكة المكرمة، حيث كان السكان مشاركين بأيديهم في بناء مساكنهم. وفي هذا السياق، أشار الأمير فيصل بن سلمان إلى "أهمية تطوير بعض الأحياء والشوارع بما يحافظ على النسيج الاجتماعي لتلك الأحياء والذي تشكل عبر الزمن، كما يعطي تطوير تلك الأماكن بعدًا اقتصاديًا يكمن في إشراك أصحاب الأملاك الصغيرة في منظومة التنمية والتطوير، وذلك باستثمارها بشكل منفرد يتيح لهم المساهمة في التنمية الاقتصادية وخلق فرص العمل".
كما تحرص المجالس البلدية في الإمارات، بالتعاون مع بعض المجالس المتخصصة، سواء على المستوى الاتحادي أو المحلي، على الاستفادة من آراء المواطنين في توفير المتطلبات التي يقترحونها، على نحو ما تعكسه الحدائق والمساحات الخضراء وبصفة خاصة في المناطق السكنية عالية الكثافة بما يضمن للمواطن والوافد متنفسًا طبيعيًا، ويهدف إلى تحسين مستوى المعيشة الحضرية. وتسمح الحكومة الأردنية لطلاب وطالبات المدارس بتصميم حدائق "الندرة المائية" تشجيعًا للمسئولية المجتمعية، على نحو دعم مشاريع الأنسنة بعمان.
الفراغ المفتوح:
3- ملء الفراغات العامة: تهتم السعودية، مثلاً، بتنظيم محاضرات متخصصة عن "الفراغات في مدن المستقبل"، يلقيها ممارسون للتخطيط العمراني من بعض دول العالم، بحيث يتم معالجة المناطق الفارغة والمناطق الممتلئة داخل المدينة الواحدة، بما يعطي انطباعًا بأنها مدينتان داخل المدينة الواحدة. فعلى سبيل المثال، هناك مواقع مؤنسنة بشكل عالٍ في المدينة المنورة كالمنطقة المركزية المحيطة بالمسجد النبوي، في حين أن مناطق أخرى تحتاج للأنسنة بشكل كبير.
وهنا تجدر الإشارة إلى قيام هيئة تطوير المدينة المنورة، في 5 مارس 2018، بتنظيم مجموعة محاضرات تهدف إلى توفير جميع المتطلبات الرئيسية في الشارع مثل الساحات والتجمعات العامة، مع وضع التصورات بشأن الوضع الذي تعانيه المدن التي تحتضن المصانع بداخلها. فللأنسنة تأثير إيجابي على الموارد الطبيعية، إذ أن توفير أماكن عامة للمشى يخفض من استهلاك وقود السيارات ويؤثر طرديًا على الاقتصاد والبيئة والصحة، وهو ما يطلق عليه الفوائد الخضراء للأنسنة.
عصرنة الأصالة:
4- التوازن بين الأصالة والمعاصرة: فالحفاظ على الهوية لا يعني الجمود والانحصار في مفردات عمرانية محدودة، وهو ما عبر عنه الأمير فيصل بن سلمان في كلمته خلال افتتاح مؤتمر أنسنة المدن حينما قال: "إن المدينة المنورة امتدت اتساعًا في جميع الاتجاهات وتضاعفت مساحتها وعدد سكانها لتضم الجديد من أحيائها مدنًا في المدينة، إذ حرصت الدولة وهى تسعى لتقيم مدنًا جديدة وتتوسع في العمران في مختلف مناطق المملكة، على المحافظة على الهوية العمرانية لكل منطقة، وهذا ما زال هدفًا يطمح له الجميع وخصوصًا المدينة المنورة عاصمة الإسلام الأولى، فلا تناقض بين تطوير المدن والأحياء القديمة وبين البناء الجديد مع المحافظة على الهوية وتعزيزها".
وأضاف الأمير فيصل: "الحفاظ على الهوية لا يعني الجمود والانحصار في مفردات عمرانية محدودة، بل تتطلب الحفاظ على ما يمكن من موروث والتعامل بمرونة والتكيف مع مستجدات الحياة. فالتحدي يكمن في فهم مضامين الهوية والسماح بالتطوير ضمن ثوابتنا بحيث تستوعب المستجدات وتستكمل مسيرة التطور التي بدأت منذ أكثر من 1400 عام، ولأن الإنسان يمثل المحور الأساسي للمدن والقرى طورت هيئة تطوير المدينة برنامجًا ثريًا متعدد الجوانب ظهرت من خلال مشروعات ذات ملامح عمرانية واجتماعية وبيئية وثقافية تجاوزت فيها المدينة المنورة الجانب النظري للواقع الملموس".
استيعاب السكان:
5- التخفيف من الضغط السكاني: إذ أن أحد الدوافع الرئيسية لأنسنة المدن في الدول العربية هو التخطيط بشكل أكثر فعالية، فيما يخص شبكات النقل وإمدادات المياه وآليات جمع النفايات وأنظمة الصرف الصحي وبناء الحدائق الحضرية، لأنها تمثل مصدر سعادة للمقيمين بالمدينة الداخلية، لاستيعاب عدد السكان في السنوات المقبلة، مع الأخذ في الاعتبار أن الضغوط السكانية قد تكون أكبر في بعض الدول مقارنة بغيرها. ولعل تجربة شركة سايتس الدولية في مصر مثالاً حيًا لتوفير الحدائق الحضرية في المناطق السكنية عالية الكثافة، حيث عملت الشركة على تصميم الحدائق التي تمنح المواطن متنفسًا طبيعيًا ومنها حديقة الأزهر.
الاستدامة البيئية:
6- التواكب مع ملاءمة الاعتبارات البيئية: وذلك عبر زيادة المساحات الخضراء وزراعة الأشجار، إذ بحثت وزارتا الشئون البلدية والقروية والبيئة والمياه والزراعة في السعودية، في مايو 2017، آلية لزراعة 10 ملايين شجرة من الأنواع المحلية، ضمن المشروع الوطني للتشجير والتنمية، الذي يأتي في إطار مبادرة أنسنة المدن التي أطلقتها وزارة الشئون البلدية، بهدف تعزيز البعد الإنساني، من خلال تهيئة المدن وجعلها صحية ومريحة وصديقة للبيئة أكثر من مجرد مكان يقيم فيه الإنسان. وفي هذا السياق، أطلقت شركة أرامكو، في 6 مايو 2018، مبادرة لزراعة مليون شجرة ضمن مناطق أعمالها بمختلف المدن السعودية، تضامنًا مع المبادرة السابقة.
أنسنة السجون:
7- تحسين ظروف نزلاء السجون: تشير بعض الكتابات إلى أن المغرب بدأت مع حكومة بن كيران في تطبيق مبدأ "أنسنة السجون" عبر افتتاح عدة مؤسسات سجنية جديدة لتقليص الاكتظاظ السجني، وتحسين وضعية الرعاية الاجتماعية والتغذية وتحسين ودعم الخدمات الصحية، بخلاف الدعم النفسي، وكذا برامج التأهيل وإعادة الإدماج، وهو ما كشفه الناطق الرسمي باسم الحكومة المغربية مصطفى الخلفي في تصريحات صحفية في 1 أغسطس 2017.
تجنب الاستنساخ:
8- الانفتاح على التجارب الدولية: يثري تداخل الخبرات تطوير المدن، لأن كل صاحب تجربة يرى الطريق إلى أنسنة مدينة ما من زاوية مختلفة عن المدن الأخرى، حتى لو كانوا من نفس تخصص عمارة المدن وتخصيص الأقاليم. وتحاول بعض الدول العربية استيعاب تطوير دول العالم لأشكال مدنها في إطار من المحلية، أو ما يمكن تسميته بـ"توطين التجارب"، وهو ما ينطبق على مجالات وتجارب مختلفة.
وهنا، قال الأمير فيصل بن سلمان، في كلمته في المؤتمر الدولي الأول لأنسنة المدن في 7 مايو الجاري: "جاءت فكرة عقد المؤتمر ضمن أنسنة المدينة المنورة من أجل التعرف على التجارب العالمية والأفكار المهنية التي يمكن الاستفادة من تطبيقها أو بعض جوانبها ومنصة للتعريف بما تم ويجري في تطوير مشروعات وبرامج مماثلة في مدننا، والاستفادة من أداء العلماء والباحثين والممارسات الدولية في هذا الجانب".
جودة الحياة:
خلاصة القول، إن بعض الدول العربية تتجه إلى بلورة مدن إبداعية، تخلط فيها أثر الثورة التقنية العصرية بموروث المدن، وتعني المحافظة على ذاكرة وهوية المكان، وتحتضن الجميع وتجمع بين العادي وغير العادي في آن واحد، أو ما يعرف بإعادة اختراع مفهوم الحياة في المدينة، ولا تطغى المشاريع على الهدف، أى لا تكون مجرد "كتل خرسانية"، وإنما تساعد في الارتقاء بحياة الإنسان وتمكينه من الاستمتاع بالمدينة التي يعيش فيها، إذ أن أحد عوامل نجاح الأنسنة يتمثل في موازنة التقنيات مع احتياجات الإنسان. فالاستثمار في الأماكن العامة هو استثمار في جودة الحياة، كما يقول مايكل ميهافي أحد أبرز علماء العالم في أنسنة المدن، بشرط وضع مقاييس للأنسنة تختلف من مدينة لأخرى طبقًا للسياق الذي توجد به.