صك البروفيسور والكاتب البريطانى جون هوكينز مصطلح «الاقتصاد الإبداعى» (Creative Economy) وأضحى الأب الروحى له، ويرتكز هذا المفهوم على حقيقة أن الإمكانات الإبداعية البشرية لا حدود لها، على نقيض الموارد التقليدية المادية الأخرى – مثل: الأرض والموارد الطبيعية ورأس المال - التى تتسم بمحدوديتها، وسيتم استنزافها فى وقت ما لا محالة؛ إنه ذلك الاقتصاد الذى يعتمد على مساهمة الأصول الإبداعية وإمكاناتها للمساهمة فى تعزيز النمو والتنمية الاقتصادية. لذلك، خلص هوكنيز إلى أن الدمج بين المواهب الإبداعية والقيم الثقافية الفريدة سيقود التقدم والازدهار العالمى فى القرن الحادى والعشرين.
فى مؤلفه «الاقتصاد الإبداعى: كيف يُحول المُبدعون الأفكار إلى أموال؟» – الصادر عام 2001 – حدد هوكينز خمسة عشر قطاعا تنتمى إلى الاقتصاد الإبداعى. تتمثَّل هذه القطاعات فى: الإعلان، والهندسة المعمارية، والفنون البصرية، والحرف اليدوية، والتصميم، والأزياء، والأفلام، والموسيقى، والفنون الأدائية، والنشر، والبحث والتطوير، والبرمجيات، ولعب الأطفال والألعاب، والراديو والتلفاز، وألعاب الفيديو. ومنذ عام 2004، عكفت منظمة «الأونكتاد» على تعزيز الوعى العالمى المؤيد للاقتصاد الإبداعى؛ لتحسين جهود التنمية من خلال الإبداع. ومن جانبها، قامت المُنظمة بتصنيف الاقتصاد البرتقالى إلى أربع مجموعات تنطوى كل منها على عدد من الأنشطة الاقتصادية: وهى التراث، والفنون، والإعلان، والإبداعات الوظيفية؛ الأمر الذى يُسلط الضوء على أهمية التفاعل بين الإبداع والثقافة؛ على النحو التالى:
• منطق الإبداع: يصف عالم الفيزياء الأشهر ألبرت آينشتاين الإبداع بأنه «رؤية ما يراه الآخرون، والتفكير بما لم يُفكر فيه أحد من قبل». بعبارة أخرى، يرى المُبدع شيئا ما يُلهمه ويقوده لصُنع توليفة أو مزيج مُبتكر من العناصر التى لا يتوقعها الآخرون.
• نسج الروابط المؤيدة بالمعرفة: حتى يتسنى للمُبدع تأسيس هذه الروابط بين أمور عدة مُختلفة، فإنه يحتاج إلى امتلاك رصيد كبير من الخبرات والمعارف وأن يقوم بالتفكير فيها بشكل أعمق من الآخرين. إنه يقوم بتحرى أمور عدة واستكشافها، حتى لو بدت عديمة الأهمية فى بادئ الأمر. وهكذا، تتحول هذه الخبرات والمعارف إلى مجموعة كبيرة من نقاط المعرفة التى غالبا ما تستمد روافدها من تخصصات علمية وممارسات متعددة؛ ما يفتح المجال لمسارات غير مطروقة لم يتصورها أحد من قبل.
• الثقافة وقود الإبداع: تُعد الثقافة رافدا لا ينضب للخبرات والمعارف الإنسانية؛ ومن ثم العملية الإبداعية. إنها بمثابة المُحفز الذى يُنمى الخيال ويُطلق العنان للأفكار. وهنا تجدر الإشارة إلى أهمية تبنى مفهوم أكثر رحابة للثقافة؛ لأنها لا تقتصر فقط على الفنون والآداب، بل تتسع لتشمل أنماط الحياة المُعاشة، وأنظمة القيم والتقاليد والمعتقدات والسلوكيات والطموحات.
لما كان الاقتصاد الإبداعى نِتاجا للتفاعل بين الإبداع والثقافة والاقتصاد والتكنولوجيا، فإن المُكون الاقتصادى يؤدى دورا رئيسا فى ازدهاره، بوصفه المسئول عن تحويل الأفكار الإبداعية إلى مُنتجات وخدمات ذات قيمة وقابلة للتداول عبر أنشطة ريادية، ويُعرف الاتحاد الأوروبى ريادة الأعمال بأنها أسلوب تفكير وعملية إنتاجية تجمع بين تحمل المُخاطرة والإبداع مع الإدارة الحصيفة، وهو ما يتماشى مع تفسير الاقتصادى جوزيف شومبيتر، حين أوضح خمسة أنماط لريادة الأعمال، وهى: تقديم منتج جديد إلى السوق، وتنفيذ أسلوب جديد لعملية إنتاجية، وفتح سوق جديدة، واستخدام مصدر جديد لإمدادات المواد الخام، وإنشاء منظمة/ منشأة جديدة فى صناعة ما. وفى هذا السياق، يُمكن الإشارة إلى ما يلى:
• قاعدة الارتكاز: يستند الاقتصاد الإبداعى إلى نظرية «الفرصة وريادة الأعمال» التى طرحها أستاذ الإدارة والاقتصادى بيتر دراكر؛ إذ يخوض رائد الأعمال المخاطر لإحداث تغيير ما، أو استغلال فرصة ناشئة عن تغيير ما.
• المساهمة الاقتصادية والأثر الاجتماعى: يؤدى الاقتصاد الإبداعى دورا مهما فى تعزيز الاقتصادات وازدهارها، فضلاً عن معالجة عدم المساواة والتفاوتات فى الدخول فى كل من الاقتصادات المتقدمة والنامية على حد سواء؛ إذ:
وفقا لتقديرات الأمم المُتحدة، يُسهم هذا الاقتصاد بما يتراوح بين 2 إلى 7% من الناتج المحلى الإجمالى العالمى، وتتوقع مجموعة العشرين أن ترتفع النسبة إلى 10% بحلول عام 2030.
يُوفر الاقتصاد الإبداعى ما يقرب من 50 مليون وظيفة فى جميع أنحاء العالم، نصفها تقريبا للنساء، كما أن غالبية العاملين به ينتمون للفئة العمرية (15 إلى 29 عاما).
أسهمت التكنولوجيات الحديثة فى «التحول اللامادى» لبعض المنتجات الإبداعية لتصبح فى هيئة خدمات إبداعية؛ مما أدى إلى زيادة قيمة الصادرات العالمية من الخدمات الإبداعية من 487 مليار دولار أمريكى عام 2010 إلى ما يقرب من 1.1 تريليون دولار أمريكى عام 2020، وفى الفترة نفسها، ارتفعت فيمة الصادرات العالمية من المنتجات الإبداعية من 419 مليار دولار إلى 524 مليار دولار أمريكى، وذلك وفقا لإحصاءات منظمة «الأونكتاد»، واللافت للانتباه أن منتجات التصميم (Design products) تُهيمن على صادرات المُنتجات الإبداعية؛ إذ تُمثِّل 62.9% من الإجمالى العالمى فى عام 2020، تليها منتجات الوسائط المتعددة بنسبة 13.4% من الإجمالى.
تُعد التكنولوجيا العنصر الرابع فى مزيج الاقتصاد الإبداعى – إلى جانب الإبداع والثقافة والاقتصاد – إذ تعمل كمحفز للابتكار وتنمية المهارات وصقل المواهب. لقد كان يُنظر غالبا إلى الإبداع بوصفه سمة إنسانية فريدة وهبة استثنائية حصرية للبشر، وهكذا، كانت الثورات التكنولوجية السابقة بمثابة أداة سمحت للبشر بإطلاق العنان لمزيد من الإبداعات، ودفع النمو الاقتصادى والتنمية والابتكار إلى مستويات غير مسبوقة. ولا شك فى أن الذكاء الاصطناعى يؤدى الآن دورا رئيسا فى تحويل الاقتصاد الإبداعى من خلال مهام عدة مثل: أتمتة المهام المتكررة وتوفير رؤى وتحليل يعتمد على البيانات وتوليد محتوى إبداعى. ورغم أن هذه التكنولوجيات قد أتاحت فرصُا هائلة؛ فإنها فى الوقت نفسه فرضت تحديات عدة فى ظل ثورة الذكاء الاصطناعى التوليدي؛ إذ:
• النمو السوقى: وفقا لتقديرات شركة (Allied Market Research) المنشورة فى فبراير 2024، بلغت قيمة السوق العالمية للذكاء الاصطناعى التوليدى المُستخدم فى الصناعات الإبداعية 1.7 مليار دولار أمريكى فى عام 2022، ومن المتوقع أن تصل إلى 21.6 مليار دولار أمريكى بحلول عام 2032، بمعدل نمو سنوى مركب يبلغ 29.6% خلال الفترة من 2023 إلى 2032.
• سيناريوهات المستقبل: يُواجه العالم ثلاثة سيناريوهات مستقبلية مُحتملة على الأقل لتأثير الذكاء الاصطناعى فى الاقتصاد الإبداعى، وفقا لما أوضحه ديفيد دى كريمير وآخرون، فى مقالهم الصادر فى إبريل 2023 بمجلة «هارفرد بيزنس ريفيو»؛ إذ:
السيناريو الأول: يدعم الذكاء الاصطناعى البشر فى أنشطتهم الإبداعية مما يتيح تدفقا هائلاً وغير مسبوق مع الإبداع والابتكار فى وقت أقل، مع موثوقية أعلى وتكلفة أقل؛ ومن ثم زيادة معدلات الإنتاجية.
السيناريو الثانى: يُزاحم الذكاء الاصطناعى الإبداع البشرى الأصيل؛ نتيجة المنافسة غير العادلة والحوكمة غير الكافية له؛ مما يؤدى إلى توارى المُبدعين الموهوبين وخروجهم من السوق وسط «تسونامى» من المُحتوى المُنشأ خوارزميا. ورغم تقليص دور الإنسان فى هذا السيناريو؛ فإنه سيُقدم توصيات فيما يتعلق بالمُحتوى الذى يُنشئه الذكاء الاصطناعى.
السيناريو الثالث: يعود التقدير المُتجدد للإبداعات «من صنع الإنسان»، ما يُعد تطورا طبيعيا للصراع الإبداعى بين الإنسان والآلة؛ إذ تدفع هيمنة الاقتصاد الإبداعى الاصطناعى البشر إلى تقدير الإبداع الأصيل مرة أخرى. وهكذا يحافظ البشر على قدرتهم التنافسية الإبداعية ضد الآلة.
• تحديات التزييف العميق والمعلومات المُضللة: يفرض الذكاء الاصطناعى تحديا آخر على الاقتصاد الإبداعى، يتمثل فى استخدام تقنية «التزييف العميق» (Deepfake) لإنشاء مُحتوى إبداعى مُزيف، بالإضافة إلى ذلك، فإن إنشاء واستخدام محتوى يعتمد على خوارزميات الذكاء الاصطناعى دون التحقق من دقته يمكن أن يؤدى إلى تسارع معدلات انتشار «المعلومات الخاطئة» و«المعلومات المُضللة»، والتى يُمكن أن تحجب الحقائق الموضوعية أو تُشوهها.
فى الختام، ولما كانت التنمية، كما عبر عنها الأستاذ أمارتيا سن، الاقتصادى الهندى الحاصل على جائزة نوبل فى الاقتصاد – تدور حول «توسيع نطاق الخيارات المتاحة لأفراد»-. يُمكن القول إن هذا المنظور يتوافق تماما مع جوهر الاقتصاد الإبداعى، الذى يزدهر بتضافر الإبداع والثقافة والتكنولوجيا عبر نسق اقتصادى مؤيد. فكل من التنمية والاقتصاد الإبداعى يصبو إلى تعزيز إمكانات البشرية ورفعة المجتمعات؛ ما يجعلهما وجهين لعملة واحدة.
وحتى يتسنى إطلاق إمكانات الاقتصاد الإبداعى بشكل كامل ومستدام، تظهر أهمية تعميقه وتطوير نظامه البيئى بشكل مستمر؛ ليصبح أكثر ذكاءً واستدامة، وأكثر شمولاً، ويتطلب ذلك أيضا تسخير القوى الإيجابية التى تدفع الإبداع والابتكار، مع إدارة المخاطر وتخفيفها بشكل فعَّال. وهكذا، يُمكن للاقتصاد البرتقالى أن يؤدى دورا محوريا فى تشكيل مستقبل زاخر أكثر ديناميكية ومرونة.
*رشا مصطفى عوض
*مستشار بمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء المصري