اعتقلت الشرطة البوليفية، يوم 26 يونيو 2024، قائد الجيش السابق الجنرال خوان خوسيه زونيغا، وثلاثة قادة عسكريين من مُعاونيه؛ إثر تنفيذه محاولة انقلاب فاشلة سعى من خلالها إلى إعادة هيكلة الديمقراطية في البلاد وتغيير الحكومة.
وقبل يوم واحد من المحاولة الانقلابية الفاشلة، أُقيل زونيغا من منصبه؛ بسبب ما قيل إنه تجاوز لصلاحياته، وإعلانه معارضة ترشح الرئيس السابق إيفو موراليس للانتخابات الرئاسية المقرر عقدها في 2025، وتوجيه سلسلة تهديدات ضده.
تفسيرات مُتعددة:
ثمّة دوافع مُختلفة للمحاولة الانقلابية بقيادة زونيغا، وهو ما يمكن استعراضه على النحو التالي:
1. تفاقم الأزمات الاقتصادية والمعيشية: فسّرت بعض الآراء المحاولة الانقلابية بتدهور الداخل البوليفي، وهو ما تجلى في عدد من المظاهر أبرزها: "الركود الاقتصادي الحاد" في البلاد. فبعد توليه الرئاسة، وصف الرئيس البوليفي لويس آرسي الركود الذي تشهده بلاده بأنه الأسوأ منذ 40 عاماً، مُضيفاً أن إنتاج البنزين والديزل لم يعد يكفي الاستهلاك الوطني، وأن البلاد اضطرت إلى استيراد 86% من احتياجاتها من الديزل، و56% من البنزين؛ بسبب نقص الاستكشاف والإنتاج، كما شهدت أسعار المواد الغذائية ارتفاعاً كبيراً.
أضف إلى ذلك، أن بوليفيا واحدة من البلدان التي تعاني من أعلى مستويات التفاوت في الدخل؛ إذ إنه من بين 12.5 مليون شخص يعيشون في بوليفيا، يعيش نحو 40% منهم في فقر مُدقع، بينما يحصل أغنى 10% من السكان على 44% من إجمالي الدخل، في حين يحصل أفقر 10% من السكان على 0.5% من إجمالي الدخل، ناهيك عن بيئة الأعمال غير المشجعة للاستثمار، وانعدام الأمن، وتجارة المخدرات، والفساد في القطاع العام المُتجلي بتوظيف 60% من الأسر فيه، بالإضافة إلى الاعتماد الكبير على الاستيراد؛ هذه الأمور كلها، أفرزت أزمة نقص الدولار وتفاقمت بعد رفع أسعار الفائدة في العام الماضي؛ إذ أصبح من الصعب على بوليفيا تحمل الديون الخارجية؛ مما أسهم في إضعاف اقتصاد البلاد.
كل هذا بالتزامن مع قرب الانتخابات الرئاسية المقررة في 2025؛ إذ يخطط الرئيس اليساري السابق إيفو موراليس لخوض الانتخابات ضد حليفه السابق آرسي؛ مما خلق تصدعاً كبيراً في الحزب الاشتراكي الحاكم، وقاد لحالة من عدم اليقين السياسي، تزامناً مع استمرار تداعيات التوترات الاجتماعية الناجمة عن رحيل موراليس عام 2019 بعد احتجاجات في الشوارع وضغوط شديدة من الجيش.
2. تُهم بكون الانقلاب مُدبّراً: بدأت بعض التحليلات في التشكيك في مصداقية هذا الانقلاب، مُشيرة إلى أنه انقلاب ذاتي وخدعة مُدبّرة بين زونيغا والرئيس آرسي؛ لرفع مستوى شعبية الأخير وخروجه بمظهر البطل الذي أفشل الانقلاب استعداداً للانتخابات الرئاسية عام 2025. والدليل على ذلك أنه لم تكن هناك حركة للجيش في جميع الأقسام أو في المناطق الأخرى من لاباز؛ ومن ثم فإن ذلك لم يكن تحركاً مؤسساتياً للقوات المسلحة، ناهيك عن حدوث الانقلاب في وضح النهار، وبحركة بطيئة وخالية من وحشية الأداء العسكري الذي عُهِدَ في الانقلابات العسكرية التي حدثت من قبل في القارة اللاتينية.
وقد تجلى ذلك في تصريحات الجنرال زونيغا حينما أشار إلى أن "الجيش هو من أخرج مسرحية التدخل بطلب من الرئيس لويس آرسي، المُتورط في صراع فكري مع أحد أسلافه أوصل الحكومة البوليفية إلى طريق مسدود"؛ وهو ما أدّى إلى إثارة موجة من التكهنات حول ما حدث بالفعل، وردد أعضاء مجلس الشيوخ المعارضون ومنتقدو الحكومة هذه التُّهم، ووصفوا التمرد بأنه "انقلاب ذاتي"، أتاح للرئيس الظهور بمظهر المدافع عن الديمقراطية ومنحه دفعة في شعبيته كان بأمس الحاجة إليها؛ بسبب المستنقع الاقتصادي والاضطرابات السياسية في البلاد.
3. مزاعم بوقوف واشنطن وراء الانقلاب: جادلت أغلب التحليلات بأن محاولة الانقلاب الفاشلة في بوليفيا، ربما تكون مدفوعة من الخارج من أجل نهب ثروات البلاد الطبيعية، ومن هنا أُثيرت الشكوك حول دور الولايات المتحدة في هذا الانقلاب، ولاسيما أنها ليست المرة الأولى التي تتجه فيها أصابع الاتهام إليها؛ إذ شهدت بوليفيا انقلاباً في عام 2019، عندما أجبر الجيش الرئيس إيفو موراليس، المناهض للسياسات الخارجية الأمريكية، على الاستقالة، رغبة في الوصول إلى أغنى الرواسب المعدنية في بوليفيا، ولاسيما الليثيوم؛ وهو أمر لم يكن ممكناً في عهد الرئيس موراليس؛ لهذا السبب، صرّح دونالد ترامب -الرئيس الأمريكي حينها- أن ما حدث "أمر مهم بالنسبة لنصف الكرة الغربية".
من هنا، ظهرت بعض الاستراتيجيات التي ربطت بين انقلاب خوان خوسيه زونيغا، واعتباره جاء بدعم أمريكي أو دعم مادي من الشركات الكبرى في مجال السيارات الكهربائية وغيرها؛ وهو ما يتماشى مع السبب الرئيسي لقيادة زوينغا للانقلاب؛ إذ إنه تم عزله من منصبه بسبب تهديده بالقبض على إيفو موراليس؛ إذا سُمِح له بالترشح للمنصب الرئاسي في الانتخابات القادمة.
جدير بالذكر هنا، أن بوليفيا تمتلك ما بين 50 إلى 70% من احتياطيات معدن الليثيوم الثمين، الأساسي في تصنيع البطاريات سواء للهواتف أم الإلكترونيات أم السيارات الكهربائية، وهو أكبر احتياطي في العالم؛ الأمر الذي لطالما راهنت عليه حكومة الرئيس لويس آرسي، خصوصاً بعد إبرام صفقة بمليار دولار مع الصين لتكثيف الإنتاج وتعزيز التنمية الاقتصادية.
علاوة على ما سبق، هنالك مخاوف أمريكية بسبب التقارب البوليفي الروسي، فيما يتعلق بتقدم المشاورات بينهما حول مشروعات استغلال الليثيوم، كان آخرها توقيع شركة "روساتوم" الروسية مع شركة الليثيوم البوليفية "واي أل بي" عام 2023، عقداً بشأن إنشاء مجمع صناعي لاستخراج وإنتاج كربونات الليثيوم في مقاطعة بوتوسي في بوليفيا.
وقد تعززت هذه المخاوف أيضاً بعد زيارة الرئيس البوليفي آرسي، إلى روسيا في أوائل يونيو 2024 للمشاركة في المنتدى الاقتصادي الدولي في مدينة سانت بطرسبورغ الروسية، والتي ناقش خلالها مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خيار انضمام بلاده إلى مجموعة "بريكس"، كما أدلى بتصريحات مهمة عن تعزيز وتطوير العلاقات الاقتصادية بين بوليفيا وروسيا، على خلفية طرد شركات ألمانية من إنتاج الليثيوم، وعدم التفاوض مع شركات أمريكية بهذا الشأن.
4. دعم الرئيس البوليفي لغزة: أشار البعض إلى أن الدافع الحقيقي وراء الانقلاب في بوليفيا هو دعم الرئيس البوليفي لغزة وموقفه المناهض لإسرائيل، بدءاً من تجريم إسرائيل، مروراً بقطع العلاقات معها، وصولاً إلى تأييد الدعوى التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل لدى محكمة العدل الدولية؛ إذ أعلنت الرئاسة البوليفية في نوفمبر 2023 قطع علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل عقب أحداث 7 أكتوبر؛ وهو ما أجّج الانقسام بين القطب الحاكم والمعارضة التي تفضل البقاء على وفاق مع الولايات المتحدة وحلفائها.
دلالات مُهمّة:
كشفت المحاولة الانقلابية في بوليفيا عن مجموعة من المظاهر المهمة، وذلك على النحو التالي:
1. عدم تأييد الجيش للانقلاب: أشارت عدّة تحليلات إلى أن زونيغا فشل في تحقيق أهداف الانقلاب بسبب عدّة عوامل أبرزها؛ تأخر وصول الوحدات المُقاتلة؛ إذ لم تتمكن حشود القوات المسلحة والقوات الجوية من الوصول في الموعد المحدد، كذلك لم يستطع زونيغا إقناع سوى وحدات قليلة جداً من الجيش، و8 دبابات أن ترافقه في انقلابه بينما بقي الجيش كله يدين بالولاء للرئيس البوليفي، ناهيك عن دور الشرطة البوليفية التي حاصرت قادة الانقلاب، وطوّقت القصر الجمهوري ومقر الحكومة، وقامت بالقبض على المنقلبين تحت تعليمات وزير الداخلية الذي خرج لمقر الانقلاب ليباشر الأمر بنفسه، أضف على ذلك، غياب أية تحركات موازية في محيط البرلمان أو القنوات التلفزيونية الحكومية خلال المحاولة الانقلابية بمحيط القصر الرئاسي.
أخيراً، دور الشعب البوليفي الذي كان واحداً من أهم أسباب فشل الانقلاب؛ إذ أُجبرت القوات الانقلابية على الفرار، وسط مُطاردات بين المواطنين وعدد من جنود الجيش التابعين للجنرال خوان خوسيه زونيغا، وأجبروهم على الانسحاب من ساحة موريلو في العاصمة لاباز.
2. دعم فرص إيفو موراليس: أشارت بعض التحليلات إلى أن الانقلاب نجح في الكشف عن الموقف الواضح والحازم الذي اتخذه الرئيس السابق إيفو موراليس ضد الانقلاب. فلم يكتف موراليس بإدانة محاولة الانقلاب بشكل صريح فحسب، بل دعا إلى التعبئة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية ضد الانقلاب، وأعلن عن إضراب لأجل غير مسمى وإغلاق الطرق، واتخذ موقفاً مشتركاً مع الحكومة ضد الانقلاب، معلناً أنهم لن يسمحوا للقوات المسلحة بانتهاك الديمقراطية وترويع الشعب.
وفي هذا الإطار، توقع البعض تدعيم فرص إيفو للفوز بالانتخابات المقبلة –ما لم يتم تعليق ترشحه- ولاسيما وأنه مازال يحظى بدعم كبير من مزارعي الكوكا والنقابات العمالية في الوقت الذي يفتقر فيه آرسي إلى كاريزما إيفو ومهاراته السياسية وإرثه.
3. إدانات دولية وإقليمية: نجح الانقلاب الفاشل في بوليفيا في الكشف عن حجم الدعم الخارجي للرئيس آرسي، وهو ما تجلى في إدانة العديد من القادة الدوليين والإقليميين محاولة الانقلاب؛ إذ أعرب رئيس تشيلي جابرييل بوريك، عن دعمه للديمقراطية في بوليفيا وأيضاً لحكومة لويس آرسي الشرعية، كما دعا قادة كل من الإكوادور والبيرو والمكسيك وكولومبيا إلى احترام الديمقراطية في بوليفيا.
بدوره، أدان الأمين العام لمنظمة الدول الأمريكية لويس ألماجرو -عبر منصة إكس- عمليات التعبئة للجيش البوليفي، مُشيراً إلى أنه يجب على الجيش الخضوع للسلطة المدنية المنتخبة بشكل شرعي، كما دعا رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز إلى احترام الديمقراطية وحكم القانون في بوليفيا، أما الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش فقال إنه "يشعر بقلق عميق" إزاء تطورات الوضع في بوليفيا. أخيراً، أدان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف محاولة الانقلاب كما شدد على دعم روسيا الكامل والثابت لحكومة الرئيس لويس آرسي، مجدداً التضامن مع بوليفيا الشريك الاستراتيجي الموثوق به لروسيا.
وفي التقدير، يمكن القول إنه من السابق لأوانه معرفة تأثير محاولة الانقلاب في الوضع السياسي في بوليفيا؛ لأنه سيعتمد على كيفية استجابة آرسي وغيره من الجهات السياسية الفاعلة للأزمة، وكيفية إجراء التحقيق، وما إذا كانت ستتم مُعاقبة قادة الانقلاب وكيف. فمن ناحية، قد يؤدي الانقلاب الفاشل إلى تعزيز الدعم الشعبي والعسكري للمعايير المناهضة للانقلاب؛ وهو الدعم الذي يخشى بعض المراقبين أنه بدأ يضعف في السنوات الأخيرة. ومن ناحية أخرى، كثيراً ما تؤدي الانقلابات الفاشلة إلى تغييرات في شخصية الحاكم نحو السيطرة وتجميع السلطة؛ وهو ما يشكل نذير شؤم للديمقراطية على المدى الطويل.