يستعد رئيس الوزراء ناريندرا مودي لرئاسة فترة ثالثة نادرة على التوالي في السلطة؛ مما يجعله ثاني رئيس وزراء هندي يفعل ذلك بعد زعيم حزب المؤتمر جواهر لال نهرو، في عام 1962، ومع فرز جميع الأصوات، في 4 يونيو 2024، تمكن حزب "بهاراتيا جاناتا" الحاكم بزعامة مودي والأحزاب المتحالفة معه، من تأمين أغلبية قدرها 293 مقعداً في "لوك سابها"، المجلس الأدنى في البرلمان الهندي الذي يضم 543 مقعداً، وبموجب النظام الانتخابي الهندي، يستطيع الحزب أو التحالف الذي يفوز بأكثر من 272 مقعداً تشكيل الحكومة، فيما أظهرت النتائج أن تحالف الهند المعارض "إنديا"، بقيادة المؤتمر الوطني الهندي، حقق أداءً أفضل من المتوقع؛ إذ فاز بـ 230 مقعداً، بحسب نتائج الفرز الأولية للانتخابات التي شارك فيها 642 مليوناً من نحو مليار ناخب مسجل.
وبالرغم من فوز حزب مودي المتوقع، فإن معظم النتائج كانت صادمة خاصة بالنسبة لأنصار مودي، وذلك لأن حزب "بهاراتيا جاناتا" وحده فاز بـ 240 مقعداً فقط في هذه الانتخابات؛ مما يعني فعلياً خسارة أغلبية الحزب الواحد التي تمتع بها مودي منذ انتخابه لأول مرة في عام 2014؛ إذ سيكون على مودي لأول مرة منذ 2014 أن يتودد للأحزاب التابعة له؛ لأنها حجر أساسي في تحقيقه الأغلبية هذه المرة، بعكس المرات السابقة، التي استطاع فيها حزبه تأمين أغلبية دون مساعدة من أي حزب آخر.
مفترق طرق:
كانت نتيجة الانتخابات بمثابة ضربة لـمودي، الذي سيطر على المشهد السياسي في الهند على مدى العقد الماضي، ومن شأن هذا الفشل في تأمين الفوز بالأغلبية أن يزيد من صعوبة تنفيذ حزب "بهاراتيا جاناتا" للسياسة الاقتصادية، وقد يجعل مودي مديناً أكثر بالفضل لحلفائه، وكان مودي وحزبه قد خاضا المعركة الانتخابية تحت شعار "400 مقعد" في إشارة إلى أن الحزب وحده كان يهدف إلى الفوز بأكثر من 370 مقعداً ونحو 400 مقعد من خلال تحالف التجمع الوطني الديمقراطي؛ الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى نتائج عكسية؛ لأن حزب "بهاراتيا جاناتا" (BJP) لم يفز حتى بأغلبية بسيطة بمفرده، وهو خروج صارخ عن النصر الساحق الذي حققه حزب "بهاراتيا جاناتا" في عام 2019 عندما فاز وحده بالأغلبية.
1- فشل مودي في تأمين التأييد الشعبي لسياساته: تعني النتيجة غير المسبوقة مأزقاً انتخابياً غير مسبوق لمودي الذي فشل، بعد أكثر من 23 عاماً من العمل في السياسة، بداية من شغل منصب رئيس وزراء ولاية غوجارات منذ عام 2002 ثم رئيساً لوزراء الهند منذ 2014، في الحصول على التأييد الشعبي لسياساته التي اعتبرها البعض عنصرية وقومية واستهدفت الأقليات، ولعبت على وتر الدين للفوز بتأييد الناخبين دون تقديم حلول واقعية للمشكلات التي تعاني منها أجزاء كبيرة في الهند.
2- تأثير الضغوط الاقتصادية: أثبتت نتيجة الانتخابات في الهند أن شعبية مودي الطاغية لم تستطع الصمود أمام تنامي المشكلات في عدد كبير من الأقاليم خاصة مع اعتماده على طبقة اقتصادية محدودة يقودها صديق مودي الملياردير أداني، ورغم أن كثيرين توقعوا فوزاً كاسحاً لمودي في انتخابات ينظر إليها على أنها استفتاء على قضائه عشر سنوات في السلطة؛ فإن هذه الانتخابات أظهرت أيضاً استياء قطاعات كبيرة من الناخبين من سياسات مودي، والذي فاقمته طريقة إدارة حملته الانتخابية، وذلك مع تركيزها على شخصية رئيس الوزراء القوية باعتباره أول رئيس وزراء للهند سيتولى منصبه لثلاث فترات متتالية منذ نهرو.
3- مكاسب غير متوقعة للمعارضة: رغم أن حزب "بهاراتيا جاناتا" اكتسح نتائج الانتخابات في ولايات غوجارات، وماديا براديش، وتشاتيسجاره، ودلهي، وأوتاراخاند، وهيماشال براديش؛ فإن المعارضة حققت مكاسب غير متوقعة في بيهار وراجستان، وكذلك هاريانا والبنجاب، فيما اُعتبرت أنها رسائل من الناخبين للحزب الحاكم لمعارضة "سياسات الكراهية والفساد والحرمان" التي ينتهجها حزب بهاراتيا جاناتا، خاصة أن المعارضة اتهمته بالسعي لتعديل الدستور بما يتوافق مع أجندته الهندوسية، وهو ما أثار الناخبين ضده واعتبروه تفويضاً للدفاع عن دستور الهند، وضد ارتفاع الأسعار والبطالة ورأسمالية المحسوبية وأيضاً لإنقاذ الديمقراطية.
خسارة الرهان:
تحمل نتائج الانتخابات العامة الأخيرة، وما أدت إليه من تراجع لعدد مقاعد الحزب الحاكم عدداً من الدلالات، أهمها ما يلي:
1- اتحاد الأقلية المسلمة ضد مودي: أظهرت النتائج توحيد أصوات المسلمين لصالح ائتلاف المعارضة؛ ما أدى إلى خسارة حزب "بهاراتيا جاناتا" لمقاعد في عدد من معاقله السياسية الشمالية الناطقة باللغة الهندية خاصة في براديش؛ إذ تحظى ولاية أوتار براديش، الأكثر اكتظاظاً بالسكان في الهند، بنفوذ كبير في الانتخابات الهندية بامتلاكها وحدها نحو 80 مقعداً برلمانياً، حصل منها الحزب الحاكم في هذه الانتخابات على 33 مقعداً فقط، بينما حصل الحزب في ذات الولاية في انتخاباتي عامي 2014 و2019، على 71 و62 مقعداً على التوالي، كما خسر الحزب في دائرة فايز آباد في الولاية؛ إذ افتتح مودي معبد "رام"، والذي يُنظر إليه على أنه كان محور حملة حزب "بهاراتيا جاناتا" الانتخابية.
2- الاعتماد على السياسات والنعرات القومية: أدى اعتماد حزب مودي على النعرات القومية والطائفية إلى تزايد القلق لدى الناخبين من توجهات الحزب مستقبلاً؛ إذ اعتمد الحزب على السياسات القومية والعنصرية لجذب الناخبين الهندوس في أغلب المناطق أملاً في تحقيق انتصار ساحق، إلا أن هذه السياسات لم تؤمن للحزب الهندوسي إلا فوزاً رمزياً في ولاية كيرالا الجنوبية، والتي كانت منذ فترة طويلة تُعد معقلاً لليسار؛ مما يعكس عناصر معادية للإسلام بين المجتمعات المسيحية في ولاية كيرالا؛ إذ يشكل الهندوس 55% من سكان الولاية، بينما يشكل المسلمون والمسيحيون 27% و18% على التوالي.
كما خسر الحزب الانتخابات في معقله في ولاية أوتار براديش؛ إذ افتتح مودي معبداً هندوسياً في مدينة أيوديا قبل أشهر فقط، وهي خطوة جاءت في إطار وعوده بتعزيز التراث القومي الهندوسي، رغم ذلك، فقد احتفظ بمعقله في ولاية كارناتاكا؛ إذ حصل على 19 مقعداً مقارنة بتسعة مقاعد للمعارضة.
3- انتصار الأصوات الداعية للانفصال: لم تكن خسارة الأغلبية وحدها هي ما تقلق مودي، فبالإضافة إلى ذلك اتجهت الأصوات في بعض الولايات لتأييد أصوات مطالبة بالانفصال في رد فعل عكسي على حملة الحزب الحاكم التي اتسمت بدعم السياسات القومية؛ إذ فاز مرشحون من الداعين للانفصال في هذه الانتخابات فتم انتخاب أمريتبال سينغ، وهو زعيم انفصالي للسيخ تم اعتقاله العام الماضي بعد مطاردة الشرطة لمدة شهر في ولاية البنجاب، ويدعو إلى إنشاء وطن منفصل للسيخ يُعرف باسم خالستان، فيما فاز الشيخ عبد الرشيد، وهو زعيم آخر مسجون من كشمير الخاضعة للإدارة الهندية في منطقة الهيمالايا المتنازع عليها، بمقعد بأكثر من 200 ألف صوت. واعتقلت حكومة مودي مشرع الولاية السابق بتهم "تمويل الإرهاب" وغسل الأموال في عام 2019.
تأثيرات متفاوتة:
من المرجح أن يكون مودي، رغم هذه النتائج، قادراً على المضي قدماً في أجندته الاقتصادية والسياسية إلا أنه قد يواجه بعض التحدي من التحالفات التابعة له فيما يتعلق ببعض القضايا المحلية والخارجية خاصة العلاقة مع باكستان، إضافة إلى دعم الإصلاحات الاقتصادية، وذلك مع اتساع فجوة التفاوت الطبقي، وارتفاع تكاليف المعيشة، وارتفاع معدلات البطالة إلى مستويات غير مسبوقة، وهو ما كان يشكل مصدر قلق كبير بالنسبة للناخبين، خاصة أن حكومة مودي تجاهلت السخط الشعبي بسبب الضائقة الاقتصادية، ونمو البطالة؛ مما أدى إلى معاقبتها وخسارتها لأغلبيتها التي احتفظت بها لعقد من الزمان، ويمكن توضيح بعض هذه التأثيرات فيما يلي:
1- إبطاء وتيرة المشروعات الكبرى: من المتوقع أن تكون إحدى نتائج الانتخابات الأخيرة في الهند هي إبطاء مسار المشروعات الكبرى في البلاد، ومع تزايد قوة الحكومات الإقليمية في مواجهة مودي، فمن المرجح أن تركز حكومات الولايات على مواجهة الفقر والبطالة مقابل إبطاء وتيرة البرامج الوطنية الكبرى، والاتجاه نحو تحسين تقديم الخدمات الأساسية مثل: مياه الشرب والصرف الصحي، والطاقة الكهربائية. وقد تكون الحكومة المركزية أضعف قدرة على إملاء برامجها على حكومات الولايات.
2- صعوبات تشريعية مقبلة: سوف يواجه الحزب الحاكم في الهند مواجهة محتملة لتمرير الإصلاحات التشريعية مستقبلاً بعكس ما كان خلال ولايتيه السابقتين؛ إذ من المحتمل أن يرفض التحالف المقبل عدداً من سياسات مودي الاقتصادية، خاصة تلك التي ترتبط بعلاقات مودي مع رجال الأعمال والطبقات الغنية، أملاً في تمرير سياسات أكثر ملاءمة للطبقات الفقيرة، كما أن هذه الانتخابات يجب أن تضعف أية محاولات من قبل حزب بهاراتيا جاناتا للمضي قدماً في أية رسائل أو إجراءات سياسية تسهم في التوترات الدينية؛ إذ أدى عقد من حكم مودي إلى تزايد الاستقطاب الديني.
3- تأثيرات محدودة في التوجهات الخارجية: من المرجح أن يكون تأثير نتائج الانتخابات في السياسة الخارجية للبلاد محدوداً، خاصة أن مودي استطاع تحقيق نجاحات خلال ولايتيه على المستوى الخارجي، ومن المحتمل أن ترتكز سياسة مودي الخارجية على السعي لتحقيق العضوية الدائمة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وتشكيل تحالفات استراتيجية، والتعامل مع التحدي الصيني، وتنشيط العلاقات مع الجيران، ودعم التحالف مع الولايات المتحدة مع موازنة ذلك بعلاقات دفاعية وتجارية مع روسيا أيضاً، ودعم الدور الهندي في إفريقيا وأمريكا اللاتينية.
وفي الختام، تظهر الانتخابات الأخيرة تراجع شعبية السياسات القومية لحكومة مودي؛ إذ رفض الناخبون رؤية مودي الشعبوية، ورغم نجاحاته على المستويات الاقتصادية والخارجية؛ فإن سياساته القومية كانت مثار قلق ما فتح مجالاً للمعارضة لتحقيق تقدم غير متوقع، ورغم أن التأثير قد يكون محدوداً في السياسات الاقتصادية والسياسية؛ فإنه سيجبر مودي على إعادة حساباته داخلياً وخارجياً مع احتمالات تغيير بعض سياساته المتعلقة بالسياسات القومية ومحاربة الفقر والبطالة وخطاب الكراهية ضد المسلمين، خاصة مع اقتراب الانتخابات البلدية، وذلك لتجنب هزيمة قد تكون مدوية في الانتخابات المقبلة في 2027.