أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يصدر العدد الثاني من مجلة "اتجاهات آسيوية"
  • أ. د. نيفين مسعد تكتب: (عام على "طوفان الأقصى".. ما تغيّر وما لم يتغيّر)
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (بين موسكو والغرب: مستقبل جورجيا بعد فوز الحزب الحاكم في الانتخابات البرلمانية)
  • د. أيمن سمير يكتب: (هندسة الرد: عشر رسائل للهجوم الإسرائيلي على إيران)
  • أ. د. حمدي عبدالرحمن يكتب: (من المال إلى القوة الناعمة: الاتجاهات الجديدة للسياسة الصينية تجاه إفريقيا)

"تعطيل العولمة":

كيف تؤثر سياسة "دعم الأصدقاء" في الاقتصاد العالمي؟

31 مايو، 2024


سلطت نقاط الضعف التي كشفت عنها الاضطرابات العالمية من الأوبئة إلى الصراعات الجيوسياسية في العالم، الضوء على مخاطر التركز الجغرافي لعمليات الإنتاج أو الاعتماد على شركاء غير متوافقين من الناحية الجيوسياسية. وقد دفع ذلك للتفكير في إعادة هيكلة سلاسل التوريد العالمية على أسس جديدة تقوم على نقل بعض عمليات الإنتاج إلى أسواق أخرى تتسم بانخفاض تكاليف الإنتاج، أو نقلها بعيداً عن الدول التي تُعد منافسة جيوسياسياً لصالح الحلفاء السياسيين والاقتصاديين في سياسة تعرف بـــ "دعم الأصدقاء" (friend-shoring). وقد برز مصطلح دعم الأصدقاء في الساحة الدولية، بعد خطاب ألقته وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين، عام 2022، واقترحت فيه مبدأ "تفضيل دعم الأصدقاء ونقل سلاسل التوريد إلى الدول الموثوقة"؛ بهدف تقليل المخاطر الواقعة على الاقتصاد الأمريكي وشركائه.


نشأة المفهوم:

ثمة مجموعة من الأسباب أدت إلى ظهور مفهوم "دعم الأصدقاء"، يتمثل أولها في التوترات الجيوسياسية والحروب التجارية في أنحاء مختلفة بالعالم، والتي أبرزت مخاطر الاعتماد على الدول ذات المصالح المتضاربة. فيما يعود ثاني الأسباب إلى نقاط الضعف في سلاسل التوريد، إذ كشفت جائحة "كورونا" عن هشاشة سلاسل التوريد العالمية، وأوضحت مخاطر التركز الجغرافي لعمليات الإنتاج في الصين. وقد حث ذلك الدول الغربية على اتخاذ إجراءات جديدة لدعم مرونة سلاسل التوريد ونقل عمليات الإنتاج إلى الدول الصديقة.


ثالث الأسباب يتعلق بأن سياسة دعم الأصدقاء تتوافق مع التركيز الغربي المتزايد على ضمان سلاسل التوريد المتوافقة مع المعايير المتعلقة بحقوق العمل وحماية البيئة والاستدامة، ما قد لا يتحقق إلا من خلال تعزيز التجارة مع الدول التي تتقاسم نفس القيم والالتزامات. فيما رابعها يرتبط بـ تعزيز الأمن القومي، فعلى سبيل المثال، تعمل الولايات المتحدة على نقل عمليات إنتاج بعض الصناعات من آسيا إلى أسواق أمريكا الشمالية لتعزيز الأمن القومي وحماية قاعدتها التكنولوجية، فضلاً عن تقويض الصعود الاقتصادي لخصومها الدوليين.

مكاسب رئيسية:

يحقق نهج "دعم الأصدقاء" مكاسب عديدة للاقتصادات العالمية ويتمثل أبرزها في: (1) مرونة سلاسة التوريد؛ إذ يقلل من المخاطر الاقتصادية المرتبطة بالاعتماد على عمليات الإنتاج من دولة أو منطقة واحدة، كما يعزز مرونة الشركات في مواجهة صدمات الإنتاج. (2) تقليل الاعتماد على المناطق المعادية جيوسياسياً أو غير المستقرة، من خلال إعطاء الأولوية للتجارة مع الدول التي تشترك في أيديولوجيات سياسية واقتصادية مماثلة. (3) توطيد الاندماج السياسي والاقتصادي؛ إذ يمكن لنهج "دعم الأصدقاء" أن يزيد من ترسيخ العلاقات بين الدول الحليفة؛ مما يؤدي إلى المزيد من الجهود التعاونية في كافة المجالات السياسية والاقتاصدية، (4) رفع كفاءة التجارة؛ إذ يمكن للقيم الثقافية المشتركة والعلاقات السياسية القوية أن تؤدي إلى مفاوضات واتفاقيات تجارية أكثر كفاءة، وتبسيط الإجراءات الجمركية.

نماذج دولية:

بالأساس، تقود الولايات المتحدة جهوداً حثيثة لتعزيز مرونة سلاسل التوريد من خلال نقل مراكز إنتاج بعض الصناعات المتطورة إلى أمريكا الشمالية وأوروبا والدول الحليفة في آسيا، ويشمل ذلك صناعة الرقائق وأشباه الموصلات؛ إذ تتخذ الولايات المتحدة خطوات جادة للحد من التركز الجغرافي لصناعة الرقائق في آسيا، وقد سعت لتشكيل تحالف الرقائق الرباعي تحت اسم "Chip 4" والذي يضم بجانب الولايات المتحدة، كوريا الجنوبية واليابان وتايوان، ومن المفترض أن يوفر ساحة للحكومات والشركات لمناقشة وتنسيق السياسات المتعلقة بأمن سلاسل التوريد، وتعزيز البحث والتطوير في هذا المجال.

بالإضافة لذلك، سنت الولايات المتحدة (قانون الرقائق الإلكترونية والعلوم لعام 2022)، والذي خصص تمويلات جديدة لصالح شركات تصنيع الرقائق لتشجيعها على ضخ استثمارات جديدة داخل السوق الأمريكية، وذلك بعد عقود من الإنتاج في آسيا. كما بدأت الإدارة الأمريكية أيضاً في عقد اتفاقات مع شركة "تايوان لصناعة أشباه الموصلات" لإنشاء مصانع للرقائق الإلكترونية على الأراضي الأمريكية.

وفي مجال المعادن الحرجة، والتي تُعد مكونات أساسية في تقنيات الطاقة النظيفة، جرى إطلاق شراكة أمن المعادن في عام 2022، وهي تعاون بين 13 دولة تتضمن الولايات المتحدة وأستراليا وفنلندا وفرنسا، وغيرها؛ لتحفيز الاستثمار العام والخاص في سلاسل التوريد المعدنية المهمة على مستوى العالم. 

وأعلنت الولايات المتحدة وكندا أيضاً عن خطة عمل مشتركة سابقة بشأن التعاون في مجال المعادن الحرجة، كما أنشأت مجموعة عمل مع أستراليا في المجال نفسه. فيما وافق الاتحاد الأوروبي على قانون المواد الخام الحرجة عام 2023؛ ويهدف إلى زيادة استقلالية الاتحاد في إنتاج وتوريد المواد الخام، فضلاً عن إقامة شراكات مع الدول الصديقة للحد من نقاط الضعف الخاصة بسلاسل توريد المواد الخام والمعادن.

وعلى صعيد قطاع البطاريات الكهربائية، تتعاون الولايات المتحدة مع بعض شركائها مثل: كوريا الجنوبية واليابان؛ لدعم نقل مراكز تصنيع البطاريات إلى الأراضي الأمريكية، فيما يمثل ذلك فرصة بالنسبة للأخيرتين لزيادة حصتهما في السوق العالمية للبطاريات وخوض منافسة أكثر توازناً مع منافستهم الصين. وفي هذا الصدد، رحبت الإدارة الأمريكية باستثمارات الشركات الكورية مثل: (LG Energy Solution) و(Samsung SDI) وشركة "باناسونيك" اليابانية بقطاع البطاريات داخل الأراضي الأمريكية.

تحديات قائمة: 

رغم المكاسب المحتمل جنيها من وراء سياسة "دعم الأصدقاء"؛ فإن الأخيرة تفرض بعض التحديات الملموسة، يتعلق أولها بـ الآثار المحتملة على تكاليف الإنتاج أو مقايضات الكفاءة، فتحويل سلاسل التوريد بعيداً عن الدول ذات التكلفة المنخفضة إلى أخرى صديقة، قد يترتب عليه ارتفاع في تكاليف التصنيع والتشغيل. 

بمعنى آخر، تعتمد كفاءة سلاسل التوريد العالمية على مبادئ الميزة التنافسية؛ إذ توجد عمليات الإنتاج في تلك الدول التي تقدم وسائل الإنتاج الأكثر كفاءة وفعالية من حيث التكلفة؛ ومن ثم، فقد يؤدي الابتعاد عن هذا النموذج لصالح "دعم الأصدقاء" إلى التخلي عن الفوائد الاقتصادية المترتبة على الحصول على السلع من المنتجين الأكثر كفاءة. ومع ذلك، يجادل مؤيدو سياسة "دعم الأصدقاء" بأن المنافع الاقتصادية الناتجة عن مرونة وأمن سلاسل التوريد تفوق هذه الخسائر.

وثاني التحديات يرجع إلى أن الدول الحليفة لا تبقى حليفة للأبد، فعلى الرغم من التقارب الأمريكي الأوروبي بشأن إرساء سلاسل توريد أكثر تنوعاً ومرونة لتعزيز مرونة الصناعات، فإن قضايا خلافية مثل: الرسوم الجمركية والسياسات الحمائية تعوق التعاون الكامل بين الطرفين في الحد من التركز الجغرافي لصناعات مثل: الألواح الشمسية والبطاريات الكهربائية وغيرها.

من الناحية الواقعية أيضاً، هناك مجموعة من العوامل الراهنة التي قد تعوق سياسة "دعم الأصدقاء"، ومن أبرزها، صعوبة خروج الشركات الغربية من السوق الصينية وتحولها بشكل كامل لسلاسل توريد في أسواق أخرى، نظراً لما تتمتع به السوق الصينية من انخفاض تكاليف الإنتاج؛ لذا، تتبع بعض الشركات الغربية سياسة (الصين+1)، وتعني عدم تخلي الشركات عن وجودها في الصين، مع نقل جزء من عمليات الإنتاج إلى الأسواق الأخرى.

ولا تزال الولايات المتحدة نفسها تعتمد على الصين في العديد من المنتجات، كما أن مورديها من الدول الصديقة يواصلون الاعتماد على المدخلات الصينية. ويواجه الاتحاد الأوروبي تحديا مماثلاً؛ إذ يعتمد على الصين كمورد لـ 14 من أصل 27 مادة خام يعتبرها ذات أهمية كبيرة. وعليه؛ إذا لم تكن المنتجات والمواد الخام المستوردة من الصين متاحة بسهولة لدى الموردين المتوافقين سياسياً، فإن سياسة دعم الأصدقاء تفقد أهميتها.


فيما تشجع الإدارة الأمريكية الشركات الأجنبية على نقل عمليات الإنتاج للأراضي الأمريكية أو الدول الحليفة من خلال تقديم حزمة من الحوافز والإعانات الحكومية؛ فإن ذلك قد لا يكون كافياً لتحقيق جاذبية أو تنافسية مطلقة لها على حساب السوق الصينية.

مخاوف الانقسامات:

خلقت سياسة دعم الأصدقاء مخاوف لدى الأوساط الاقتصادية من أن تؤدي لـ تراجع العولمة وتعميق انقسام الاقتصاد العالمي إلى كتل تجارية منفصلة. وقد قدر صندوق النقد الدولي الخسائر الناجمة عن التفتت الاقتصادي العالمي بنسبة 2.5% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. 


بالإضافة إلى ما سبق، يمكن أن تستبعد سياسة "دعم الأصدقاء" الدول الفقيرة والنامية من هيكل التصنيع العالمي، بينما هي في أمس الحاجة إلى الانخراط في سلاسل التوريد العالمية لتعزيز تنافسيتها وتحسين أداء اقتصاداتها. بالمثل أيضاً، قد تُحرم الدول غير الصديقة من فرص تنموية وتجارية سانحة، مع زيادة الرسوم الجمركية واتباع سياسات حمائية شديدة من قبل الأطراف الأخرى. 

ختاماً، يمكن القول إن المخاطر المترتبة على سياسة "دعم الأصدقاء" قد تفوق مكاسبها الاقتصادية المحتملة، ومع تعطيلها لمسيرة العولمة الاقتصادية؛ فإنها قد تلحق أشد الضرر بالدول النامية وتحرمها من الفرص التي تتيحها حرية التجارة وتشابك سلاسل التوريد العالمية.