بدأت إيران من جديد في توجيه رسائل عديدة إلى القوى الإقليمية والدولية المعنية بأزمات المنطقة تفيد أنها طرف رئيسي في تلك الأزمات، فبالتوازي مع العروض العسكرية التي أجرتها القوات المسلحة والحرس الثوري في طهران وبندر عباس، في 21 سبتمبر 2016، بمناسبة ذكرى الحرب الإيرانية-العراقية (1980-1988) والتي عرضت فيها صواريخ باليستية على غرار الصاروخ "عماد" الذي يصل مداه إلى 1650 كيلو متر، إلى جانب منظومة صواريخ "إس 300" التي قامت إيران بشرائها من روسيا، فضلا عن تعمد الزوارق الإيرانية السريعة التابعة للحرس الثوري الاقتراب بشدة من سفينة دوريات السواحل الأمريكية "يو اس اس فايربولت"، في 4 سبتمبر، فقد أشار رئيس هيئة أركان القوات المسلحة اللواء محمد باقري إلى نفوذ إيران في خمس دول عربية، فيما طالب قائد الحرس الثوري اللواء محمد علي جعفري القوات الأمريكية بمغادرة مياه الخليج العربي والتوجه إلى "خليج الخنازير لاستعراض القوة والمغامرة".
ورغم أن هذا التصعيد لا يبدو جديدًا، حيث دائمًا ما تتعمد إيران توجيه تهديدات إلى بعض القوى، لا سيما في حالة تعرضها لضغوط إقليمية ودولية، إلا أنه لا يمكن فصله، في كل الأحوال، سواء عن الجدل المتصاعد داخل إيران حول العلاقات مع الدول الغربية ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة أنه يتزامن مع مشاركة الرئيس الإيراني حسن روحاني في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، أو عن استمرار مخاوف إيران من التحولات المحتملة في الأزمة السورية والتي يمكن أن تفرض تهديدات مباشرة لمصالحها، في ظل تراجع قدرتها على التأثير في تلك التحولات لصالح روسيا.
زيارة نيويورك:
كان واضحًا أن قادة المؤسسة العسكرية الإيرانية يسعون إلى توجيه رسائل مقابلة للجهود التي بذلتها حكومة روحاني وفريق التفاوض النووي لتحسين العلاقات مع الدول الغربية من خلال الإسراع في تنفيذ الاتفاق النووي، حيث كانت اجتماعات الجمعية العام للأمم المتحدة فرصة لعقد لقاء وزاري للجنة المشتركة لخطة العمل المشتركة بين إيران ومجموعة "5+1" لمناقشة مطالب إيران برفع القيود المفروضة على التعاملات بين الشركات والمصارف الغربية وإيران، بسبب مخاوف الأولى من العقوبات التي يمكن أن تتعرض لها من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، إلى جانب تنظيم لقاء آخر بين وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف ونظيره الأمريكي جون كيري لمناقشة سبل تعزيز جهود رفع العقوبات المفروضة على إيران بالتوازي مع استمرار التزامها بالاتفاق النووي.
وهنا، فإن التصريحات التي أدلى بها المسئولون العسكريون الإيرانيون كانت تهدف إلى تأكيد أن الجهود التي تبذلها حكومة روحاني لن تؤثر على السياسة التي تتبناها إيران في التعامل مع أزمات المنطقة أو مساعيها لدعم نفوذها داخل دول تلك الأزمات، على اعتبار أن تحديد اتجاهات هذه السياسة لا يدخل ضمن صلاحيات الحكومة أو رئيس الجمهورية، وإنما يمثل أحد أهم السلطات التي يمتلكها المرشد الأعلى علي خامنئي الذي يعتمد، في رؤية أحد الاتجاهات، على المؤسسة العسكرية ليس فقط في حماية أمن ومصالح إيران في الداخل والخارج، وإنما أيضًا في تنفيذ السياسة التي يقوم بوضع محدداتها الرئيسية.
لكن ثمة اتجاهًا آخر يشير إلى أن تعمد القادة العسكريين تصعيد حدة انتقاداتهم للولايات المتحدة الأمريكية في هذا التوقيت، يعود، في قسم منه، إلى التصريحات التي أدلى بها روحاني خلال عودته من نيويورك وحاول من خلالها تضخيم النتائج التي أسفرت عنها مشاركته في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة ولقاءاته مع بعض المسئولين الغربيين، لا سيما فيما يتعلق بإشارته إلى أن إيران استفادت من عدم وجود موقف واحد داخل مجموعة "5+1"، في ظل دعم بعض القوى الدولية داخل تلك المجموعة لمطالبها، وتأكيدها على ضرورة التزام كل طرف بتعهداته في إشارة إلى الولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص.
ضغوط مضادة:
وفي هذا السياق، كان لافتًا أن تلك الانتقادات التي وجهها العسكريون توافقت مع حملة شنتها وسائل الإعلام الموالية لتيار المحافظين الأصوليين ضد زيارة روحاني لنيويورك، وعلى رأسها صحيفة "كيهان" (الدنيا) المحافظة، التي لم يكتف رئيس تحريرها حسين شريعتمداري بالإشارة إلى أن حكومة روحاني لم تتعلم من الدروس السابقة التي تكشف عن عدم التزام واشنطن بتعهداتها تجاه إيران، وإنما دعا إلى ضرورة التراجع عن تنفيذ الاتفاق النووي والعودة من جديد إلى تطوير البرنامج النووي الإيراني، بعد كل التنازلات التي قدمتها إيران للقوى الدولية ولم تحصل في مقابلها على امتيازات اقتصادية أو تكنولوجية يعتد بها.
ومن دون شك، فإن هذه الدعوة تحظى باهتمام خاص داخل إيران، على اعتبار أن حسين شريعتمداري هو أحد المقربين من المرشد خامنئي ومن تيار المحافظين الأصوليين، وأن صحيفة "كيهان" تحديدًا تعتبر إحدى أكثر وسائل الإعلام الإيرانية التي تعبر عن موقف المرشد تجاه القضايا الداخلية والخارجية المختلفة.
وبعبارة أخرى، يمكن القول إن إيران تسعى من خلال تلك الرسائل غير المباشرة عبر وسائل إعلامها إلى توجيه تهديدات ضمنية للدول الغربية بأنها يمكن أن تقدم على إلغاء الاتفاق، في حالة ما إذا استمرت السياسات التي تتبناها تلك الدول تجاهها، سواء فيما يتعلق باستخدام بعض العوائد المالية المجمدة التي تمتلكها إيران في تعويض بعض أسر ضحايا العمليات الإرهابية التي تتهم بإيران بالتورط فيها، أو بمواصلة فرض ضغوط على الشركات والمصارف الغربية بهدف تقليص تعاملاتها مع إيران، بحجة إمكانية تورطها في إبرام صفقات مع مؤسسات اقتصادية خاضعة لسيطرة الحرس الثوري.
تقسيم أدوار:
ومع ذلك، فإن هناك اتجاهًا ثالثًا لا يستبعد أن يساهم هذا التصعيد من جانب المسئولين العسكريين الإيرانيين في تعزيز موقف حكومة روحاني على الساحة الخارجية، باعتبار أنه يمكن أن يساعد في توسيع هامش المناورة وحرية الحركة المتاح أمام الحكومة التي يمكن أن تستند إلى هذا التصعيد لإقناع القوى الدولية بضرورة الالتزام بتعهداتها في الاتفاق النووي تجنبًا لعرقلته من جانب المؤسسة العسكرية وتيار المحافظين الأصوليين في طهران.
وبعبارة أخرى، فإن هذا الاتجاه يرى أن هذا التصعيد كان محور اتفاق وتنسيق بين الحكومة وخصومها السياسيين، للرد على الضغوط التي تفرضها القوى الدولية على إيران فيما يتعلق باتهامات دعم الإرهاب وتوجيه تهديدات للشركات والمصارف الأجنبية التي تسعى إلى رفع مستوى تعاملاتها مع إيران بإمكانية تعرضها لعقوبات أمريكية في المستقبل القريب.
مخاوف كامنة:
فضلا عن ذلك، لا يمكن فصل تعمد إيران توجيه هذه الرسائل عن تخوفاتها من المسارات المحتملة للصراع في سوريا تحديدًا الذي يكتسب اهتمامًا خاصًا من جانبها، خاصة في ظل استمرار حرص روسيا على الوصول لتفاهمات مع الولايات المتحدة الأمريكية، على المستويين السياسي والميداني، وهى التخوفات التي عبر عنها مستشار المرشد للشئون العسكرية قائد الحرس الثوري السابق اللواء يحيي رحيم صفوي، في 22 سبتمبر 2016، بقوله أن هذه التفاهمات قد تتجاهل مصالح إيران في سوريا.
وهنا، يمكن القول إن حرص إيران على الإشارة من جديد إلى نفوذها داخل دول الأزمات يهدف إلى توجيه رسالة للقوى المعنية بتلك الأزمات بأنها طرف لا يمكن تجاهله في عملية صياغة الترتيبات الأمنية والسياسية في تلك الدول، وهى رسالة تشير بوضوح إلى أنها لم تعد تنظر إلى روسيا باعتبارها حليفًا استراتيجيًا لها وإنما قوة دولية تتوافق مصالحها مع إيران في سوريا بشكل ربما يكون مؤقتًا بانتظار تبلور معطيات جديدة على الأرض قد لا تشهد مثل هذا التوافق.