صبَّت المناورات الفلبينية الأمريكية المشتركة، التي أجراها آلاف من أفراد القوات العسكرية للدولتين خلال الفترة من 22 إبريل إلى 10 مايو 2024، مزيداً من الزيت على النار المشتعلة بين مانيلا وبكين نتيجة المناوشات العسكرية المتكررة، والناجمة عن تنازع السيادة الإقليمية في عدة أجزاء من منطقة بحر الصين الجنوبي.
وقد علقت وزارة الخارجية الصينية على هذه المناورات متهمة الولايات المتحدة بـ "تأجيج المواجهات العسكرية" في المنطقة، وداعية الفلبين إلى "التوقف عن الانزلاق في الطريق الخطأ"؛ وهو الأمر الذي يثير المخاوف من إمكانية نشوب مواجهات عسكرية واسعة في المستقبل بين الدول الثلاث في بحر الصين الجنوبي، الذي يمر به ما يقرب من 30% من التجارة البحرية العالمية، بما يتجاوز 3 تريليونات دولار سنوياً، فضلاً عما يحتويه من ثروات هيدروكربونية وسمكية هائلة.
الجديد في مناورات باليكاتان:
المناورات المذكورة، التي يُطلق عليها اسم "كتفاً بكتف" (أو "باليكاتان" بلغة تاغالوغ الفلبينية)، تركزت في الأجزاء الشمالية والغربية من الفلبين، قرب مواقع متنازع عليها مع بكين في بحر الصين الجنوبي وتايوان، وتميزت مقارنة بمثيلاتها في الأعوام السابقة، بأنها تجاوزت، لأول مرة، "البحر الإقليمي" التابع للفلبين، والذي يبلغ طوله 12 ميلاً بحرياً في بحر الصين الجنوبي، ما يمثل تحدياً مباشراً لمطالب بكين السيادية، والمتمثلة في "خط النقاط التسع" الذي يشمل حوالي 85% من بحر الصين الجنوبي.
أيضاً جاءت هذه المناورات في وقت يتصاعد فيه التوتر بين مانيلا وبكين بشكل غير مسبوق، نتيجة وقوع احتكاكات متكررة بين الجانبين في الأشهر القليلة الماضية عند جزر سبراتلي (وهي مجموعة من الجزر غير المأهولة في بحر الصين الجنوبي)، وجزر سكاربورو شول (التي تقع على بعد أكثر من 200 كيلومتر غرب لوزون، أكبر جزيرة في الفلبين وأكثرها اكتظاظاً بالسكان)، والتي تقول الفلبين إنها تقع في منطقتها الاقتصادية الخالصة، لكن الصين تطالب بالسيادة عليها.
وكانت مانيلا قد اتهمت بكين، في 30 إبريل 2024، رسمياً بإطلاق سفن خفر السواحل الصينية مدافع المياه على قارب مدني لعرقلة مهمات الإمداد للجنود الفلبينيين المتمركزين لحراسة سفينة حربية رست منذ عام 1999 في منطقة "سكند توماس شول Second Thomas Shoal" (وهي ما تُطلِق عليها الصين اسم جزر "ريناي). وقال بيان صادر عن وزارة الخارجية الفلبينية إن "تدخل الصين المستمر في الأنشطة الروتينية والقانونية للفلبين في منطقتها الاقتصادية الخالصة يُعد أمراً غير مقبول كونه يمثل انتهاكاً للحقوق السيادية والولاية القضائية للفلبين"، مطالباً السفن الصينية بمغادرة المنطقة فوراً.
ورداً على ذلك، وصفت قوات خفر السواحل الصينية أعمالها ضد السفن الفلبينية في المنطقة المذكورة بأنها "اعتراض وطرد مشروع لسفن أجنبية حاولت الدخول بالقوة إلى المياه الصينية". ويشار إلى أن منطقة سكند توماس شول، التي تبلغ مساحتها 320 كيلومتراً مربعاً، تقع ضمن منطقة اعتبرتها محكمة التحكيم الدائمة في لاهاي في عام 2016 تابعة للفلبين؛ الأمر الذي يجعل مطالبة الصين بالسيادة عليها غير ذات أساس قانوني، وهو ما رفضته بكين بشكل قاطع.
المعضلة الكبرى:
تكشف مناورات "باليكاتان" الأخيرة، وما أحاط بها من تطورات دراماتيكية بشأن النزاع السيادي بين الفلبين والصين في بحر الصين الجنوبي، معضلة كبيرة أمام صانعي القرار في مانيلا؛ فهم يهدفون، من ناحية، إلى الحفاظ على أمنهم القومي وسيادتهم على المناطق البحرية التي يعتقدون أنها تابعة لهم، وذلك بتعزيز التعاون العسكري والأمني مع الولايات المتحدة. ومن ناحية أخرى، يرغبون أيضاً في تحقيق هدف آخر لا يقل أهمية عن الهدف السابق، وهو حل نزاعاتهم البحرية سلمياً مع الصين، الشريك التجاري والاقتصادي الأهم للفلبين في السنوات الأخيرة.
وهنا تتمثل المعضلة في تحقيق الهدفين معاً، وهي أن تعزيز روابط التحالف الأمني والاستراتيجي مع واشنطن مثلما ظهر في حجم ونطاق المناورات العسكرية الأخيرة قد يضر بالعلاقات الجيدة مع بكين، وهو الشرط الأساسي لتحقيق الهدف الثاني.
ومما يزيد الأمور تعقيداً أن الفلبين تتمتع بموقع استراتيجي فريد في شرق بحر الصين الجنوبي؛ مما يجعلها ذات أهمية كبيرة لكل من الولايات المتحدة والصين؛ إذ تقع في منتصف الطريق بين الصين ومنطقة جنوب شرق آسيا وإندونيسيا، كما أنها تمثل المنفذ الرئيسي للصين إلى المحيط الهادئ، ولديها خامس أطول خط ساحلي في العالم، وتطل معظم مقاطعاتها على البحر.
ومن وجهة النظر الأمريكية، تتزايد أهمية الفلبين الاستراتيجية نتيجة قربها من مضيق تايوان، خاصة حال انفجار أية مواجهات عسكرية مستقبلية هناك بين الولايات المتحدة والصين. كما أن شركات السلاح الأمريكية الكبرى لديها حالياً تعاملات كبيرة مع مانيلا، التي تمتلك برنامجاً طموحاً للتحديث العسكري، بقيمة تتجاوز أكثر من 40 مليار دولار حتى عام 2027.
وترتبط مانيلا أيضاً بمعاهدة دفاع مشترك مع الولايات المتحدة منذ عام 1951، ولديها اتفاقات أمنية متعددة مع واشنطن، لعل أبرزها اتفاقية القوات الزائرة (VFA) لعام 1998، واتفاقية التعاون الدفاعي المعزز (EDCA) لعام 2014. وجاءت هذه الاتفاقات في ظل تصنيفها من جانب واشنطن باعتبارها حليفاً رئيساً من خارج حلف "الناتو".
ميل أكثر نحو الولايات المتحدة:
التوتر المتصاعد في بحر الصين الجنوبي بين مانيلا وبكين في الفترة الأخيرة، دفع الرئيس الفلبيني، فرديناند ماركوس الابن، منذ قدومه إلى السلطة في يونيو 2022، إلى تعزيز التعاون العسكري والأمني والسياسي مع الولايات المتحدة ودول أخرى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، بما في ذلك اليابان والهند.
وفي هذا الإطار، سمحت مانيلا، على سبيل المثال، بتعزيز وصول الولايات المتحدة إلى القواعد العسكرية الفلبينية، من خلال تفعيل اتفاقية التعاون الدفاعي المعزز، وبتكثيف المناورات العسكرية مع الأمريكيين واليابانيين، وبشراء مانيلا أيضاً صواريخ براهموس المضادة للسفن من الهند.
سياسياً، نجح الرئيس ماركوس في دفع واشنطن إلى التخلي عن الغموض الذي اكتنف تفسيرها لمعاهدة الدفاع المشترك مع مانيلا فيما يتعلق بالنزاعات في بحر الصين الجنوبي؛ وهو الأمر الذي برز خلال القمة التاريخية التي جمعت الرئيس الفلبيني مع الرئيس الأمريكي جو بايدن ورئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا في واشنطن في 12 إبريل 2024؛ إذ عبَّر القادة الثلاثة عن "مخاوف جدية" بشأن "السلوك الخطر والعدواني" لبكين في بحر الصين الجنوبي. كما أكد الرئيس بايدن أيضاً أن "أي هجوم على طائرة أو سفينة أو على القوات المسلحة الفلبينية في بحر الصين الجنوبي سيدفع إلى تنفيذ معاهدة الدفاع المشترك التي تربط واشنطن ومانيلا"، في تحذير واضح لبكين.
من جهة أخرى، نفت الحكومة الفلبينية الحالية، بشكل علني وواضح، التوصل إلى أي اتفاق بشأن النزاع البحري المتصاعد مع بكين في بحر الصين الجنوبي، وذلك بعدما ذكر متحدث باسم سفارة الصين في مانيلا في 18 إبريل الماضي أن الجانبين اتفقا في وقت سابق من هذا العام على "نموذج جديد" للتعامل مع التوترات في منطقة سكند توماس شول؛ إذ قال وزير الدفاع الفلبيني، جيلبرتو تيودورو، إنه ليس له علم بأي اتفاق مع الصين بشأن النزاعات السيادية في بحر الصين الجنوبي منذ تولى الرئيس ماركوس منصبه في عام 2022، مشيراً، في بيان رسمي، إلى أن مسؤولي وزارة الدفاع الفلبينية لم يتحدثوا إلى أي مسؤول صيني منذ العام الماضي.
الحليف الأمريكي وتساؤلات الداخل الفلبيني:
النهج الذي اتبعه الرئيس الفلبيني بشأن تعزيز التعاون الأمني والاستراتيجي مع الولايات المتحدة في مواجهة التوتر المتصاعد مع الصين في بحر الصين الجنوبي، لم يلق تأييداً كاملاً في الأوساط الرسمية والشعبية في الفلبين؛ إذ أثار هذا النهج العديد من التساؤلات المهمة داخلياً مثل: هل تلتزم واشنطن بالدفاع عن الفلبين في أية مواجهات مستقبلية مع الصين؟ وهل ينجح التحالف الدفاعي والعسكري مع الولايات في ردع الصين وثنيها عن تصعيد التوتر بشأن السيادة على المناطق المتنازع عليها بين الدولتين في بحر الصين الجنوبي؟!
ورداً على هذه التساؤلات، ظهر فريق داخل الفلبين يؤكد أن التقارب الأخير مع واشنطن قد لا يحقق المصالح الوطنية الفلبينية، وهو فريق يقوده الرئيس الفلبيني السابق، رودريغو دوتيرتي، الذي انتقد الرئيس الحالي علناً بسبب معاداته للصين، بل وقام بزيارة بكين بصفته رئيساً سابقاً، فيما اعتبره المراقبون تحدياً لسلطة الرئيس الحالي.
ويشير أنصار هذا الفريق إلى أن الخبرة التاريخية في عامي 2012 و2016 كشفت عن إمكانية تخلي واشنطن عن دعم الفلبين في الدفاع عن حقوقها السيادية؛ ففي عام 2012، استولى الصينيون على منطقة سكاربورو شول، التي كانت الفلبين تطالب بها منذ أكثر من نصف قرن، ولم تفعل الولايات المتحدة شيئاً إزاء "العدوان" الصيني. وفي عام 2016، حكمت محكمة التحكيم الدائمة في لاهاي لصالح الفلبين في بحر الصين الجنوبي، إلا أن إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق، باراك أوباما، ظلت صامتة إزاء تنفيذ هذا الحكم خشية تدهور العلاقات الأمريكية مع بكين.
في هذا السياق، يؤكد أنصار هذا الفريق أن التقارب العسكري والاستراتيجي المستمر مع واشنطن سوف يؤدي إلى استعداء بكين، في ظل اشتعال المنافسة بين الولايات المتحدة والصين. ويشير هؤلاء إلى استمرار المشاحنات والمناوشات مع بكين في بحر الصين الجنوبي رغم مرور عامين على رئاسة ماركوس، وهو ما يعكس، من وجهة نظرهم، عدم نجاح التحالف مع الولايات المتحدة في ردع الصين عن ممارساتها "العدوانية" تجاه الفلبين، بل وتعثر أيضاً حصول الفلبين على الفوائد الاقتصادية من مبادرة "حزام واحد وطريق واحد" الصينية، خاصة فيما يتعلق بمشروعات البنية التحتية الموعودة، والتي لم ترق إلى مستوى التوقعات.
تفاقم المعضلة:
على أية حال، من المرجح أن تتفاقم المعضلة الفلبينية في تحقيق التوازن والتحوط في علاقاتها مع بكين وواشنطن في المدى المنظور نتيجة استمرار التوتر بين الفلبين والصين بشأن السيادة على أجزاء من بحر الصين الجنوبي.
ومن الممكن أن يتطور هذا التوتر، في المدى المنظور، إلى صراع عسكري أكثر عنفاً واتساعاً، نتيجة تنامي المنافسة الجيوستراتيجية والجيوسياسية بين الولايات المتحدة والصين في الممر البحري الأكثر حيوية في العالم.
ومما يزيد من خطورة الوضع أن الفلبين تُعد فاعلاً رئيسياً في هذه المنافسة الدائرة منذ عدة سنوات بين واشنطن وبكين. فبالنسبة لبكين، يمكن أن تصبح مانيلا إما "نقطة انطلاق" نحو الهيمنة الإقليمية في بحر الصين الجنوبي أو عقبة أمام مثل هذه الهيمنة.
وبالمثل، يمكن أن تستمر الفلبين، بالنسبة لواشنطن، باعتبارها "قاعدة متقدمة" لتسهيل نشر الوجود العسكري الأمريكي في بحر الصين الجنوبي أو أن تصبح "حجر عثرة" أمام استراتيجية واشنطن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، والرامية إلى احتواء الصعود الاقتصادي والعسكري للصين.
وتنطوي كل هذه السيناريوهات على تكاليف ومنافع سياسية كبيرة بالنسبة لمانيلا؛ الأمر الذي يجعلها تشعر بالتأثير الكبير للتنافس بين واشنطن وبكين أكثر من أي دولة أخرى في العالم... وهنا يظل السؤال الحاسم قائماً حول ما إذا كانت الفلبين قادرة على حل معضلتها وتحقيق التوازن و"التحوط" في علاقاتها مع الصين والولايات المتحدة من دون أن تجبرها المنافسة الاستراتيجية المتنامية بين الدولتين على اختيار أحد الجانبين؟!
يمكن القول إن مانيلا تفضل في الوقت الحالي، في ظل الرئيس ماركوس، حل المعضلة الفلبينية من خلال الميل أكثر نحو واشنطن، في ظل ما تعتبره مساعٍ صينية لانتهاك سيادتها في بحر الصين الجنوبي بشكل يتنافى مع مبادئ القانون الدولي وحكم محكمة التحكيم الدائمة في لاهاي في عام 2016؛ وهو الأمر الذي من المرجح أن يؤدي إلى مزيد من "الاستفزاز والاستعداء" لبكين، التي تشعر بقلق بالغ من تنامي سياسات الاحتواء والتحالفات الأمنية الجديدة، التي تقودها واشنطن في جوارها المباشر، خاصة في الفلبين وفيتنام واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا والهند وغيرها.
وإذا ما قررت بكين تصعيد المواجهات العسكرية في بحر الصين الجنوبي وتايوان مستقبلاً، فسوف يمثل ذلك تحدياً استراتيجياً كبيراً للفلبين، التي ما يزال مستوى الثقة لديها في مدى التزام واشنطن بالدفاع عنها منخفضاً في ظل التجارب التاريخية السابقة في عامي 2012 و2016.