أثارت التوترات الدموية والعنيفة التي طالت بعض بلدان أمريكا اللاتينية في الفترة الراهنة بداية من الإكوادور مروراً بهايتي بسبب نفوذ العصابات الإجرامية، التساؤلات حول دوافع تنامي نشاط الجريمة المنظمة ككل، والتي تشمل إنتاج المخدرات والاتجار بها، بجانب الاتجار بالبشر، وتهريب الأسلحة وغيرها في أمريكا اللاتينية، فضلاً عما تُثيره من تهديدات وتحديات أمنية على بلدان المنطقة والدول المجاورة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة التي لطالما تعاملت مع أمريكا اللاتينية على أنها فناؤها الخلفي الذي لا يسمح لأحد بالاقتراب منه دون إذنها، أو التدخل في أعمالها فيه.
نشاط مُكثف:
تشهد أغلب دول أمريكا اللاتينية نشاطاً لافتاً من قبل جماعات الجريمة المنظمة، وهو ما يمكن استعراضه على النحو التالي:
1. فوضى أمنية: مع بداية عام 2024؛ شهدت أغلب بلدان أمريكا اللاتينية موجات عنف وشغب بسبب نشاط جماعات الجريمة المنظمة، وهو ما تجلى في الإكوادور التي أعلنت حالة الطوارئ يوم 8 يناير 2024، لمدة ستين يوماً، بعد اقتحام رجال مسلحين محطة تلفزيونية عامة بالبلاد واحتجاز الصحفيين وغيرهم من موظفي القناة كرهائن لفترة وجيزة، فضلاً عن اقتحام السجون باختطاف عدد من أفراد الشرطة وتهريب السجناء، إثر هروب زعيم أخطر عصابة إجرامية في البلاد، وهو أدولفو ماسياس، الملقب بـ"فيتو"، من سجن غواياكيل.
وفي مارس 2024، هاجم تحالف من العصابات بقيادة ضابط الشرطة السابق جيمي باربيكيو شيريزير، مراكز الشرطة واقتحم اثنين من أكبر السجون في هايتي، وذلك في أعقاب تقارير أفادت بأن مسلحين حاولوا السيطرة على ميناء الحاويات الرئيسي في بورت أو برنس؛ مما تسبب في تعطيل حركة المرور بجانب تهديدات العصابات بمهاجمة المزيد من مراكز الشرطة في المدينة، فضلاً عن محاولة مجموعة من أفراد العصابات المدججين بالسلاح؛ السيطرة على مطار توسان لوفرتور الدولي، الأكبر في البلاد؛ إذ تبادلوا إطلاق النار مع الشرطة والجنود؛ مما أدى إلى إلغاء جميع الرحلات الداخلية والدولية.
2. ارتفاع معدلات القتل: أسهمت جماعات الجريمة المنظمة في تهديد حياة المواطنين في أغلب بلدان المنطقة، فقد شهدت هايتي تزايداً كبيراً في معدلات جرائم القتل، وتجدد العنف السياسي المرتبط بالاتجار بالمخدرات؛ إذ قُتل ما يقرب من 4 آلاف شخص واختُطف 3 آلاف آخرين في أعمال عنف مُرتبطة بالعصابات في عام 2023، وانتشر العنف الجنسي؛ إذ وقع 1100 هجوم على النساء بحلول أكتوبر، ونزح أكثر من 300 ألف شخص، منهم 15 ألفاً على الأقل في الفترة الماضية؛ بحسب تصريحات الأمم المتحدة. كذلك، ارتفع معدل جرائم القتل والعنف في الإكوادور بأكثر من ستة أضعاف، ففي غضون خمس سنوات فقط؛ ارتفع معدل جرائم القتل بنحو 800%، ليصل إلى 46 لكل 100 ألف نسمة، وهو المعدل الأعلى في تاريخ هذا البلد، وأحد أعلى المعدلات في أمريكا اللاتينية، بعد أن كانت الإكوادور ضمن الأقل في القارة.
مُحفزات مُهمّة:
ثمّة عوامل مُختلفة أسهمت في نشاط الجريمة المنظمة في بلدان أمريكا اللاتينية، ويمكن رصد أبرزها على النحو التالي:
1. تنامي نفوذ العصابات: يمكن تفسير ارتفاع معدلات الجريمة المنظمة في أمريكا اللاتينية بزيادة عدد ونشاط العصابات الإجرامية في أغلب البلدان. البداية مع هايتي التي تشهد صراعاً ممتداً بين عصابتين هما: "جي9""، وهو تحالف من تسع عصابات تأسس في عام 2020 بقيادة جيمي شيريزير، المعروف أيضاً باسمه المستعار "الشواء"، وعصابة "جي بيب"، التي يقال إنها مرتبطة بالأحزاب التي عارضت الرئيس الراحل جوفينيل مويس.
وتتنافس العصابتان على كسب النفوذ والسيطرة على الأراضي، ويشمل الصراع بينهما عمليات إطلاق نار طالت الأحياء الفقيرة ووسط العاصمة بورت أو برنس، وهو ما أدى لسيطرة عصابة "جي9" على معظم العاصمة وكذلك الطرق المؤدية إلى بقية أنحاء البلاد، منذ أيام، في ظل غياب رئيس الوزراء أرييل هنري، الذي تطالبه العصابات بالاستقالة، مثلها مثل جزء من السكان.
في المقابل، أسهمت العصابات الإجرامية كعصابة "لوس تشونيروس" وعصابة "لوس لوبوس" تحت رئاسة كلٍ من "فيتو" و"بيكو" وغيرهما، في زيادة عمليات الاتجار بالمخدرات في الإكوادور التي أصبحت نقطة تصدير رئيسية للكوكايين المنتج في البيرو وكولومبيا؛ مما عزز وجود أكثر من 20 عصابة إجرامية أخرى تعمل فيها.
2. الفساد وضعف سلطة الدولة: تنشط أعمال جماعات الجريمة المنظمة في الدول التي تعاني شللاً في منظومتها الأمنية وفساد أجهزتها المختلفة، بجانب ضعف قوات إنفاذ القانون المحلية في العدد والتجهيز، مُقارنة بقوة العصابات المتنامية وتسليحها الجيد.
على سبيل المثال، أسهم فراغ السلطة في هايتي بعد اغتيال الرئيس جوفينيل مويس، في يوليو 2021، بجانب عدم إجراء انتخابات برلمانية أو عامة منذ عام 2019، في تنامي نفوذ العصابات وانتشار الجريمة المنظمة بالبلاد، وتفاقمت خطورة الأمر مع تولي رئيس الوزراء أرييل هنري، حكم البلاد، رغم تراجع شعبيته وعدم قدرته على استرجاع الأمن؛ الأمر الذي دفعه للسفر إلى كينيا للتوقيع على اتفاق بشأن نشر قوة شرطة مُتعددة الجنسيات للمساعدة على مكافحة عنف العصابات الذي وصل إلى مستويات غير مسبوقة.
كذلك، أشار عدد من المحللين إلى أن الأحداث الأخيرة في هايتي لا تدع مجالاً للشك في أن العصابات أصبحت أقوى بشكل مُتزايد من قوات الأمن الحكومية؛ إذ تُشير أرقام عام 2023 إلى أن عدد قوات الشرطة الوطنية في هايتي يبلغ 9 آلاف شرطي فقط في الخدمة الفعلية في بلد يبلغ تعداد سكانه 11.5 مليون نسمة، كما تقول تقديرات الأمم المتحدة إن البلاد بحاجة إلى نحو 26 ألف شرطي إضافي.
في المقابل، أسهم فساد المسؤولين ورجال الشرطة في الإكوادور في تنامي نفوذ العصابات وإضعاف سلطة الدولة، إذ قام ماسياس، وغيره من زعماء العصابات بتحويل ما يقرب من ربع سجون الإكوادور البالغ عددها 36 إلى مقرات لهم؛ إذ ينظمون الهجمات، ويجندون أعضاء جدداً، مع الإشارة كذلك إلى أن هروب ماسياس، كان قبل وقت قصير من نقله إلى وحدة أكثر أماناً في مجمع السجن، في مؤشر واضح على تلقيه بلاغاً بذلك من مسؤولين فاسدين.
تداعيات مُختلفة:
أسهم انتشار عصابات الجريمة المنظمة في أمريكا اللاتينية في العديد من التأثيرات السلبية، منها:
أولاً: انعكاسات أمريكية: ألقت موجات العنف والتوترات الراهنة بأمريكا اللاتينية بظلالها السلبية على الولايات المتحدة ونفوذها في المنطقة، وذلك على النحو التالي:
1. تهديد الأمن القومي الأمريكي: تؤثر التهديدات الأمنية للعصابات الإجرامية في أمريكا اللاتينية في الأمن القومي لواشنطن؛ نظراً لتفاقم أزمة تدفق المهاجرين غير النظاميين إلى حدود البلاد، فبحسب المنظمة الدولية للهجرة؛ تُعد المنطقة الحدودية بين المكسيك والولايات المتحدة واحدة من أخطر مسارات الهجرة في العالم؛ إذ وصل 1,7 مليون مهاجر إلى الحدود المكسيكية الأمريكية خلال الفترة الماضية؛ لتتحول الهجرة إلى قضية أمنية مهمة في الدولتين اللتين تشهدان انتخابات رئاسية العام المقبل.
ولاسيما مع التقارير التي تُفيد بوجود جهود روسية للتفاوض على الدخول من دون تأشيرة مع المكسيك وعدد من دول الكاريبي، والتي يجب أن تكون أيضاً مدعاة لقلق الولايات المتحدة التي يتوجب عليها أن تكون نشطة في معارضة التدابير التي يمكن أن تسهل دخول عملاء الحكومة الروسية إلى المنطقة.
أضف إلى ذلك، خطورة تهريب المخدرات للولايات المتحدة، فوفقاً لمكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، كانت هايتي منذ فترة طويلة مركزاً لإعادة الشحن لنقل الكوكايين والقنب وبدرجة أقل الهيروين والأمفيتامينات إلى الولايات المتحدة وجمهورية الدومينيكان.
2. تقليص النفوذ الأمريكي بالمنطقة: بالتزامن مع التراجع الملحوظ للدور الأمريكي في المنطقة؛ بسبب سياسة العقوبات الأمريكية والتدخلات المستمرة في الشؤون الداخلية لبلدان المنطقة؛ سيسهم نشاط التهديدات الأمنية للعصابات الإجرامية في تراجع النفوذ الأمريكي بالمنطقة ككل ويُعزز هذا الرأي بعدان، الأول: فشل التدابير الأمريكية؛ إذ اكتفت واشنطن بتخصيص قدر ضئيل نسبياً من الإنفاق لتعزيز حكم القانون ومكافحة الجريمة في أمريكا اللاتينية، وهو ما تجلى في عرض وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، في مارس الجاري؛ بتقديم 100 مليون دولار لتمهيد الطريق لقوة الأمن المتعددة الجنسيات؛ ليصل إجمالي ما تعهدت به الولايات المتحدة إلى 300 مليون دولار فقط منذ اشتداد الأزمة بهايتي قبل عدة سنوات، وهي مشاركة ضئيلة للغاية تنم عن فشل مهمة البعثة الأمنية المتعددة الجنسيات، والتي كانت بتفويض من الأمم المتحدة، وبقيادة كينيا، وبدعم من الولايات المتحدة، وهدفت لاستعادة الأمن والتمكين من إجراء الانتخابات.
أضف إلى ذلك، رفض بعض بلدان المنطقة التعاون مع الولايات المتحدة في مكافحة المخدرات؛ إذ قام رافائيل كوريا، الرئيس اليساري الشعبوي الذي حكم الإكوادور من عام 2007 إلى عام 2017، بإغلاق قاعدة عسكرية أمريكية على الساحل، وخفض التعاون مع إدارة مكافحة المخدرات الأمريكية، وفكك نخبة من شرطة مكافحة المخدرات، كان قد تم تدريبها من قِبل عملاء الولايات المتحدة.
أخيراً، أسهم الطلب الشره على المخدرات من قبل الأمريكيين في دفع قسم كبير من رواتب زعماء الجريمة في المنطقة، وفي الوقت نفسه، تتدفق الأسلحة النارية المصنوعة في الولايات المتحدة بسهولة عبر حدود المنطقة؛ مما يؤدي إلى تسليح العصابات والكارتلات في أمريكا اللاتينية.
أما البعد الثاني: فهو يرتبط بتمدد النفوذ الصيني والروسي بالمنطقة مما أسهم في عرقلة الجهود الأمريكية لإعادة الانخراط في المنطقة، سواء عبر الاتفاقيات الاقتصادية أم التفاهمات السياسية مع بلدان المنطقة، والتي تجلت على سبيل المثال، في رفض كل من البرازيل والأرجنتين والمكسيك وتشيلي، وكذلك كولومبيا، تقديم مساعدات عسكرية لأوكرانيا.
ثانياً: انعكاسات عالمية: لا شك بأن تأثير نشاط الجريمة المنظمة لن يضر بدول المنطقة فحسب بل سيلقي بظلاله السلبية على كافة دول العالم، على النحو التالي:
1. نفوذ أكبر: تُشير بعض التحليلات إلى أن خطورة عصابات الجريمة المنظمة بأمريكا اللاتينية تكمن في نجاح تلك العصابات في تشكيل شبكات متنوعة من العلاقات بين دول المنطقة وبعضها بعضاً، ففي الإكوادور على سبيل المثال، اكتسبت عصابة "لوس تشونيروس" ميزة الريادة من خلال كونها واحدة من أولى المجموعات الإكوادورية التي أقامت علاقات مع عصابة "سينالوا" المكسيكية، ويُعتقد أنها وعصابات محلية أخرى سلحت نفسها بأسلحة حصلت عليها من رعاتها المكسيكيين مقابل شحنات الكوكايين.
كذلك، أسهم التعاون بين المنظمات الإجرامية المحلية والدولية في تعظيم قوتها وتعقيد هياكلها الإجرامية؛ ما يخلق تهديدات خطرة في جميع أنحاء العالم؛ إذ اجتذبت تجارة المخدرات، وخاصة الكوكايين، العصابات الإجرامية الدولية إلى أمريكا اللاتينية، ومنها الأوروبية والآسيوية، التي تتطلع إلى شراء المخدرات من مصدرها، وتأمين أسعار مخفضة لها، وتعظيم الأرباح.
2. تدعيم الإرهاب: نوّه البعض بأن الخطورة الأهم لجماعات الجريمة المنظمة تتعلق بارتباط تلك الجماعات مع التنظيمات الإرهابية الدولية؛ إذ تزداد فرص تنظيمات الإرهاب في الاستفادة من البيئة السياسية والاجتماعية لتنمية مواردها، في ظل نمو فرص المشروعات غير الشرعية بالتحالف مع العصابات المحلية.
في هذا السياق، أفادت بعض التقارير بوجود تعاون بين داعش والقاعدة وعصابات الماراس، فضلاً عن استفادة أعضاء من تنظيم داعش من الطرق الآمنة لتلك العصابات، كممر مهم للتسلل للولايات المتحدة، كذلك، تمكن "حزب الله" من خلال التحالف مع عصابات الجريمة المنظمة اللاتينية من استخدام المثلث الحدودي بين البرازيل والأرجنتين وباراغواي؛ في تمويل أنشطته الإرهابية مقابل تمرير شحنات الكوكايين التابعة للعصابات الإجرامية إلى دول الشرق الأوسط.
وفي التقدير، يمكن القول إنه مع استمرار تعقد السياق الدولي الراهن، وانشغال الولايات المتحدة بصراعاتها سواء في الشرق الأوسط أم أوكرانيا، من المتوقع أن تشهد الفترة المقبلة زيادة قوة ونفوذ عصابات الجريمة المنظمة واتساع نطاق أنشطتها داخل أمريكا اللاتينية وخارجها، وهو ما يستدعي تبني نهج عالمي مُتعدد الأطراف لمجابهة تلك المخاطر والحد من انتشارها.