انتهجت روسيا في الأشهر الأخيرة سياسات خارجية مختلفة كان من الصعب التنبؤ بها، واعتبر مراقبون أن هناك "روسيا جديدة" تدخل الساحة الدولية، مستندة إلى تقييم دقيق للتهديدات والتحديات التي تواجهها، وقد حافظت روسيا على عدد من الثوابت التي حكمت سياستها الخارجية لفترات طويلة، فدأبت على تأكيدها احترام النظام العالمي القائم ورضاها به وعدم تحديها له، من خلال الوجود في المؤسسات الدولية القائمة مثل مجلس الأمن الدولي، ومجموعة العشرين.
من جانب آخر أيدت روسيا ظهور قوى أخرى صاعدة، لأن ذلك يجعلها أحد أقطاب هذا النظام الدولي متعدد القطبية، مع ما يوفره ذلك من هامش كبير من حرية الحركة والمناورة والتعاون، وتشكيل التحالفات اللازمة لتحقيق أهدافها. في الوقت ذاته انتهت روسيا خلال الأشهر الأخيرة، من تحديد ما تعتبره "حزاماً أمنياً"، يضم مجموعة من الدول الصديقة على حدودها، بالإضافة إلى مساحة افتراضية أخرى تحميها الصواريخ الباليستية الروسية.
ويمكن القول إن تفاعلات دولية مختلفة أثارت حفيظة موسكو، فاختراق "الحزام الأمني" سواء من خلال "الثورات الملونة" التي أطاحت بالنظم الموالية لروسيا، أو من خلال توسع حلف شمال الأطلسي باتجاه حدودها، أو عبر نظام الدفاع الصاروخي الأمريكي – والذي يهدف إلى إضعاف القدرات الاستراتيجية لروسيا – كل هذا استلزم من موسكو رداً حازماً. لأن أي اختراق من هذا القبيل تعتبره روسيا انتهاكاً لخطوطها الحمراء، ما دفعها إلى تجاهل ومعارضة القواعد الحاكمة للسياسة الدولية أحياناً، وذلك لمواجهة ما تراه تهديدات حقيقية لأمنها القومي.
أوكرانيا وتفادي خيار التوسع
بالرغم من تنصيب حكومة جديدة في كييف، فإن روسيا ظلت مترددة في التدخل في الشؤون الأوكرانية، وكان من الواضح أن روسيا نحت جانباً خيار التوسع، لأن أي خطوات في هذا الاتجاه كانت ستعني محاربة الجيش الأوكراني. من جانب آخر كانت هذه الخطوة ستضر الاقتصاد الروسي بصورة مباشرة، والذي يرتبط بصورة كبيرة بالاقتصاد الأوكراني، وتعتمد أكثر القطاعات الاستراتيجية في الاقتصاد الروسي، كالمصانع العسكرية والنووية، على نظيراتها الأوكرانية، كما أن خيار التوسع كان سيضيَّع على روسيا العديد من الفرص، منها هروب رؤوس الأموال الأجنبية، وضياع فرص استثمارات ضخمة في الأقاليم الجديدة، بما يتضمنه ذلك من توفير فرص عمل وسيولة لدفع الرواتب والمعاشات، بالإضافة إلى دعم البنية التحتية بقوة. كما لم ترغب روسيا في حدوث كارثة إنسانية على حدودها يترتب عليها تدفق اللاجئين.
من جهة أخرى لم يكن لروسيا القدرة على تجاهل استمرار العنف في شرق أوكرانيا، خاصة بعد تعهدها بحماية الإثنية الروسية هناك.
وستسعى روسيا إلى التوصل لاتفاق بين كييف وقادة الانفصال، في ضوء ما تمتلكه روسيا من أوراق تأثير على أوكرانيا، لاسيما التحكم في أسعار الغاز الطبيعي، والذي يمكن توظيفه لإبرام مثل هذه الصفقة.
الغرب والمصالح الاقتصادية الروسية
تعتبر العلاقات الروسية – الأمريكية محدودة، ولا تضع روسيا تطوير هذه العلاقات على قائمة أولوياتها، فحجم التجارة بين الدولتين ليس ضخماً، كما أنهما لا يقتسمان حدوداً مشتركة، ويشتركان فقط في محادثات حول القضايا الاستراتيجية الدولية.
أما العلاقات الروسية مع الاتحاد الأوروبي، فإنها على درجة كبيرة من الأهمية بالنسبة إلى روسيا، فالاتحاد الأوروبي هو الشريك التجاري الأكبر لموسكو، سواء على صعيد الصادرات والتي تقدر بنحو 53% من الصادرات الروسية، أو الواردات التي تقدر بنحو 43% من إجمالي الورادات الروسية. وتبرز أهمية هذه الأرقام إذا ما قورنت بحجم التجارة الروسية مع دول منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ، والتي لا تتجاوز 26% من إجمالي التجارة الروسية، كما تتضح أيضاً في ضوء أن تجارة روسيا مع الصين، الشريك الاستراتيجي الرئيسي، لا يتجاوز 11% من إجمالي حجم التجارة الخارجية لروسيا. ومن جهة أخرى، فإن الاتحاد الأوروبي هو مصدر الاستثمارات والتكنولوجيا التي يحتاجها الاقتصاد الروسي، وقد أدت الأزمة الأخيرة إلى تهديد كل هذا.
ومن المهم الإشارة إلى أن السياسة الأمنية والخارجية المشتركة للاتحاد الأوروبي لم تمنع من وجود سياسات منفردة لدول الاتحاد تجاه روسيا تختلف في كثير من الأحيان عن مجمل السياسة الكلية للاتحاد، فبعض الدول ذات العلاقات الاقتصادية القوية مع روسيا، خاصة ألمانيا وفرنسا، ترفض تدهور العلاقات، وتدعم الحوار. ومن الممكن لروسيا الاستفادة من هذه الفرصة لاستعادة علاقتها الطبيعية مع الاتحاد الأوروبي، التي تأثرت كثيراً، إلا أن الشك سوف يسود أوروبا حيال ما تعتبره نوايا روسية لاستعادة نفوذها في شرق أوروبا، وهو ما انعكس في سعي الاتحاد الأوروبي إلى التقليل من اعتماده على الطاقة الروسية، وفي هذه الحالة، فإنه سينبغي على روسيا التوجه شرقاً.
الصين والترقب الروسي الحذر
تعد الصين هي البديل المحتمل لأسواق الطاقة الأوروبية، فالصين ذات الطلب المرتفع على الطاقة، يمكن أن ترحب بأي كميات من النفط والغاز الطبيعي الروسي، والذي لم تتمكن روسيا من بيعه للغرب. ولعل أحدث صفقة بين شركة غاز بروم الروسية وشركة النفط الوطنية الصينية، والمقدرة بنحو 400 مليار دولار، مثال جيد على مثل هذا النهج، لكن البديل الصيني بالنسبة إلى روسيا لن يغطي خسارة السوق الأوروبي إلا جزئياً. فالـ 38 مليار متر مكعب من الغاز، والتي تخطط روسيا لبيعه إلى الصين سنوياً، تشكل نحو 20% من صادرات روسيا الحالية من الغاز الطبيعي، علاوة على ذلك، فإن تناقص الطلب على الطاقة الروسية في أوروبا، سوف يجعل بكين مستقبلاً في موضع أقوى تفاوضياً حول أسعار الغاز الطبيعي الوارد إليها من روسيا.
من جانب آخر فإن وجود علاقات أقوى مع الصين سوف يتطلب حذراً روسياً إضافياً بالنظر إلى التوترات الإقليمية في شرق آسيا وبحر الصين الجنوبي، بل وتوازن القوى في آسيا، خاصة مع وجود علاقات قوية لروسيا مع كل من آسيا الوسطى وفيتنام والهند، وأخذاً في الاعتبار أن روسيا تنظر إلى الجمهوريات السوفييتية السابقة في آسيا الوسطى كجزء لا يتجزأ من "حزامها الأمني"، ومع تطوير الدول الخمس وبسرعة لعلاقاتها الاقتصادية والسياسية مع بكين، فإن قلقاً روسياً من هذه العلاقات يمكن تفهمه. أما فيتنام فهي حليف منذ فترة طويلة لموسكو في جنوب شرق آسيا، ولديها نزاعات إقليمية مع الصين على جزر سبراتلي، وتاريخ يحفل بالتوتر الذي وصل إلى الحرب عام 1979. أما الهند فتعتبر حليفاً روسياً في آسيا، وتنظر الهند إلى موسكو باعتبارها مركز قوة يوازن قوة بكين، ذلك لأن اعتماداً روسياً أكبر على الصين قد يحرم موسكو من الهامش اللازم للمناورة مع بكين.
الشرق الأوسط أولوية روسية
غابت منطقة الشرق الأوسط طوال العشرين عاماً السابقة عن أولويات السياسة الخارجية الروسية، ولم تكن جزءاً من اهتمامات روسيا الحيوية، لكن التغيرات التي شهدتها المنطقة مؤخراً دفعت موسكو إلى زيادة اهتمامها بالشرق الأوسط لأسباب سياسية واقتصادية.
فعلى المستوى السياسي، أوجدت روسيا "حزاماً أمنياً" لمنطقة الجنوب الغربي لحدودها من خلال الشراكة مع إيران والتحالف مع روسيا، وقد أوضح الموقف الروسي الداعم لسوريا أن موسكو على استعداد لدعم الدولتين للحفاظ على علاقاتها معهما. من جانب آخر تحاول روسيا تجنب وجود أي انطباع بالتحيز لصالح الشيعة في النزاع القائم بين الشيعة والسنة في الشرق الأوسط، وذلك من خلال تعزيز الاتصالات مع تركيا ومصر والأردن مع الحفاظ أيضاً على علاقاتها الخاصة مع إسرائيل.
على الجانب الاقتصادي، فإن شركة روساتوم الروسية تشارك في مشاريع الطاقة النووية في دول مختلفة في المنطقة، ومنها تركيا ودولة الإمارات العربية المتحدة، كما تقوم روسوبورون إكسبورت (وكالة الصادرات الدفاعية الروسية) ببناء منشآت لتصنيع قاذفات القنابل في الأردن، كما وقعت اتفاقية بمليارات الدولارات مع مصر، وتسعى شركات النفط الروسية لاستكشاف الفرص المتاحة في العراق وإيران.
باختصار فإن روسيا تقوم بما يمكن أن تقوم به أي قوة كبيرة، أي الوصول إلى أسواق جديدة، بالاعتماد على علاقاتها القديمة، واستغلال الفراغ الناجم عن الانسحاب الجزئي للولايات المتحدة الأمريكية من منطقة الشرق الأوسط.
** نشر هذا المقال في دورية (اتجاهات الأحداث) الصادرة عن مركز المستقبل، العدد الأول ، أغسطس 2014.