أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يصدر العدد الثاني من مجلة "اتجاهات آسيوية"
  • أ. د. نيفين مسعد تكتب: (عام على "طوفان الأقصى".. ما تغيّر وما لم يتغيّر)
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (بين موسكو والغرب: مستقبل جورجيا بعد فوز الحزب الحاكم في الانتخابات البرلمانية)
  • د. أيمن سمير يكتب: (هندسة الرد: عشر رسائل للهجوم الإسرائيلي على إيران)
  • أ. د. حمدي عبدالرحمن يكتب: (من المال إلى القوة الناعمة: الاتجاهات الجديدة للسياسة الصينية تجاه إفريقيا)

ASEX 2023:

رسائل وأهداف أول تدريبات بحرية عسكرية لدول رابطة الآسيان

16 أكتوبر، 2023


بعد 56 عاماً من تأسيسها، في 8 أغسطس 1967، أجرت دول رابطة أمم جنوب شرق آسيا "الآسيان" العشر (إندونيسيا وماليزيا وسنغافورة وبروناي والفلبين وفيتنام وتايلاند وكمبوديا ولاوس وميانمار) للمرة الأولى في تاريخها، تدريبات ومناورات بحرية ذات طابع عسكري، في إحدى مناطق بحر الصين الجنوبي، في شهر سبتمبر الماضي، وشاركت فيها أيضاً تيمور الشرقية كمراقب؛ لتشمل هذه التدريبات جميع دول جنوب شرق آسيا الإحدى عشرة. 

هذه التدريبات الجماعية الأولى من نوعها تثير تساؤلات عديدة، أبرزها ما يتعلق بدلالات المكان والزمان، حاصةً وأنها تأتي استكمالاً لتدريبات أخرى نوعية، مثل التدريبات البحرية متعددة الأطراف للآسيان 2023، التي أُجرِيَت في قاعدة خوسيه أندرادا البحرية في مانيلا، وفي محطات بحرية أخرى قبالة المياه القريبة من جزيرة جراندي وزامباليس وجزيرة لوبانغ في باتان خلال الفترة من 11 إلى 16 مايو 2023، بمشاركة قوات البحرية العسكرية للفلبين وبروناي وإندونيسيا وماليزيا وسنغافورة وتايلاند وفيتنام، وحضور كمبوديا ولاوس وميانمار كمراقبين.

ماهية تدريبات تضامن الآسيان 2023

اختارت دول الرابطة إجراء هذه التدريبات، التي أشرفت عليها إندونيسيا واستمرت لمدة 5 أيام من 19 إلى 23 سبتمبر 2023 وأُطلِقَ عليها اسم "تدريبات تضامن الآسيان"The ASEAN Solidarity Exercise (ASEX 23)، في المياه القريبة من جزيرة باتام جنوب سنغافورة وبحر ناتونا الشمالي، الذي يقع جنوباً من بحر الصين الجنوبي، ويُعد من أهم الممرات العالمية للسفن التجارية والعسكرية بين المحيط الهندي وشمال شرق آسيا، كما أنه مصدر مهم للنفط ومشتقات الطاقة والأمن الغذائي لما يحتوي عليه من ثروات سمكية هائلة، حيث يُوجَد فيه أكثر من 25% من الثروة السمكية لدول الآسيان.

ويُمكِن القول إن هذه التدريبات ليست قتالية، بقدر ما أنها تهدف للتأهيل العملياتي لدول الآسيان للتعامل مع حالات نشوب صراع عسكري بالمنطقة. وقد شاركت فيها سفن حربية من إندونيسيا وماليزيا والفلبين وفيتنام وتايلاند وسنغافورة وبروناي، وركزت على جهود البحث والإنقاذ البحري والإغاثة، وإجراء العمليات البحرية والمساعدات الإنسانية والاستجابة للكوارث الطبيعية والتغيرات المناخية، وتمرينات الانتشار المرن، ومكافحة القرصنة وتهريب الأسلحة والمخدرات والاتجار بالبشر، وتأهيل الهبوط على سطح السفن الحربية، واستطلاع المراقبة الاستخباراتية، ومحاكاة للإخلاء الطبي، بالإضافة إلى عمليات الإخلاء الجماعي في حالات مثل غزو الصين عسكرياً جزيرة تايوان.

وقد أكد قائد القوات المسلحة الإندونيسية الأدميرال، يودو مارجونو، أن التدريبات "سوف تساعد جيوش الرابطة على العمل معاً بشكل أفضل في حالات الطوارئ، وأن وحدة دول الآسيان لن يتم الحفاظ عليها بشكل جيد إلا بالتكامل العسكري فيما بينها، وذلك من خلال قابلية التشغيل البيني والاستجابة البحرية والاستعداد الكامل". وقالت وزارة الدفاع السنغافورية إن "التدريبات العسكرية البحرية مثل ASEX 23 تسهم في بناء الثقة وتسمح لجيوش الدول الأعضاء في الآسيان بتعزيز التعاون والتفاهم وبناء علاقات عسكرية مستقرة لدعم السلام والاستقرار الإقليميين".

رد فعل الآسيان على تحركات الصين الجديدة

جاءت هذه التدريبات قبل وقت قصير من بدء الصين في الأول من شهر أكتوبر الجاري عمليات تنقيب عن النفط في بحر الصين الجنوبي، ونشرها خريطة تزعم فيها سيادتها على كامل بحر الصين الجنوبي المحاذي لبحر ناتونا الشمالي الواقع ضِمْن المنطقة الاقتصادية الإندونيسية الخالصة كجزءٍ من محاولة فَرْض خط القطاعات التسعة على المناطق الاقتصادية الخالصة في حوض منطقة الآسيان، هذا إلى جانب تكرار سلسلة من الحوادث المتراكمة، خاصةً ما يتعلق منها بالخلافات حول مناطق الصيد في بحر الصين الجنوبي.

ومن آخر هذه الحوادث قيام بحارة فلبينيين، في أواخر الشهر الماضي، بقطع حاجز شبكي عائم بطول 300 متر أقامته الصين لمنع قوارب الصيد من الدخول إلى منطقة مياه ضحلة غنية بالأسماك مُتنازَع عليها في بحر الصين الجنوبي ضمن خط القطاعات التسعة داخل جزيرة تُسمَّى هوانجيانغ؛ حيث أعلنت مانيلا أن هذا سلوك طبيعي لمواجهة استحواذ الصين على كامل بحر الصين الجنوبي دون أي سند قانوني، بينما رأت بكين أن هذا التصرف مُعادٍ لسيادتها الكاملة على الممر المائي.

هذه التحركات الصينية الجديدة في بحر الصين الجنوبي تُعد جزءاً من استراتيجية التمدُد البحري للصين، في إطار إنشاء "سلسلة عقد اللؤلؤ"، وتكثيف جهودها للتوسع في عدد كبير من الموانئ، منذ عام 2014، في منطقة الآسيان وخليج البنغال، وصولاً إلى سريلانكا وجرز المالديف، ثم لأعلى حيث باكستان وهذا ما يقربها من مضيق هرمز ومضيق باب المندب، كحلقة ربط بحرية للصين بكلٍ من أوروبا وإفريقيا؛ في سياق مبادرة "طريق الحرير البحري".

ووفقاً لمبادرة الشفافية البحرية الآسيوية، فقد ضمت الصين في عام 1974 جزر براسيل Paracel Islands في فيتنام، وسيطرت في عام 2012 علي جزر سكاربورو شوال Scarborough Shoal في الفلبين، ثم بدأت الصين تدريجياً في ضم 7 جزر في أرخبيل سبراتلي Spratly قبالة سواحل الفلبين وماليزيا منذ عام 1988؛ ما يعني توسيع قدرات الصين العسكرية في بحر الصين الجنوبي.


ومنذ عام 2013، بدأت الصين برنامجاً هندسياً ضخماً في جزر سبراتلي، حيث قامت بجرف أكثر من 3200 فدان من قاع البحر وإلقائها فوق الشعاب المرجانية، لتشكل جزراً أكثر اتساعاً لم تكن موجودة من قَبْل، لإنجاز تلك الجزر الاصطناعية على هيئتها الحالية. وثمة أنباء وردت في عام 2017، حول تأسيس الصين قاعدة عسكرية في جزر سبراتلي هي Fiery Cross Reef، وتزويدها بمُدرَّج هبوط للطائرات ونظام رادار ونظام دفاع مضاد للصواريخ، وبوحدة صينية تضم مئات الجنود.

تعمل الصين بالتالي على تعزيز قوتها البحرية والانتشار المتشعب والوصول البحري إلى كافة الوجهات العالمية عبر "تطويق" مياه المحيطين، الهندي والهادئ، وفي القلب من ذلك السيطرة على موانئ متعددة منتشرة على طول سواحل دول جنوب وجنوب شرق آسيا، ولاسيما الممرات العديدة القريبة من دول الآسيان، والتي يُمكِن استخدامها كخطوط إمداد عسكري للجيش الصيني في حال نشوب حرب عسكرية.

وربما استقت الصين استراتيجية التطويق تلك، ولاسيما على المستوى البحري، من تجاربَ تاريخية كثيرة، خاصةً فكرة الأسطول الأبيض العظيم، التي أطلقها الرئيس الأمريكي الأسبق، روزفلت، في عام 1907، والتي قامت بالأساس على تغلغُل الأسطول البحري الأمريكي لاختراق العالم مدعوماً بما يُعرَف بـ"نقاط التمركز"، في موانئ دول صديقة أو بالأحرى في دول مرتبطة بمصالح اقتصادية وتجارية في المقام الأول وفق منهج "مراكز المال والأعمال".

تعزيز الأمن البحري في ظل التنافس الأمريكي الصيني

بطبيعة الحال، وفي ظل احتدام التنافس الأمريكي الصيني على مُختلَف المستويات، ترى واشنطن أن ما تقوم به بكين هو "عسكرة" للمجال البحري لمواجهة أي هجوم من الأطراف الراغبة في إيقاف هذا التطويق في بحر الصين الجنوبي، وتعتقد واشنطن أيضاً أن الهندسة العسكرية الصينية في بناء الموانئ تقوم على إنشاء بنى تحتية عسكرية تُسهِّل الاستخدام المُزدوَج لتلك الموانئ وتحويلها مستقبلاً إلى قواعد بحرية عسكرية قد تنشر بها غواصات تعمل بالطاقة النووية في حالة قيام حرب في منطقة المحيطين.

ويبدو أن هذا الوضع قد أَنَذرَ دول الآسيان بضرورة التحرك المبكر لتعزيز قدراتها العسكرية، فردياً وجماعياً، ربما إدراكاً من قادتها أن الانزلاق في صراع بين القوتين سيكون حتمياً، وما هي إلا مسألة وقت كي يحدث هذا الصراع. لهذا صاغت إندونيسيا هذه المناورات الأخيرة كدليل على مركزية وترابط رابطة الآسيان وإظهار حيادها وسط المنافسة بين القوى العظمى، حيث تتشارك دول الرابطة في مخاوف طويلة الأمد من الاضطرار إلى الاختيار بين الصين أو الولايات المتحدة، في ظل بيئة جيوستراتيجية أقرب ما تكون للحرب الباردة بين القوتين.

لذلك يُمكِن القول إن تشارُك واشنطن والعديد من دول الآسيان نفس الرؤية الخاصة بأن الصين تسعى للسيطرة الكاملة على الطرق والممرات البحرية وفَرْض سيادتها على أعالي وأعماق البحار في المنطقة، لا يمنع أيضاً من أن كافة دول الآسيان لديها تخوفات أمنية أيضاً بشأن استراتيجية الولايات المتحدة وحلفائها في جنوب شرق آسيا، نظراً لوجود تصورات بأن تعزيز الوجود العسكري الأمريكي في غوام، وفي اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين، علاوة على تأسيس تحالفات أمنية جديدة مثل "أوكوس" مع أستراليا والمملكة المتحدة؛ قد يؤدي إلى إنشاء الولايات المتحدة نسخة من حلف الناتو في المنطقة لمواجهة النفوذ الصيني. ويفسر بعض القادة العسكريين في جيوش دول الآسيان تلك الاستراتيجية الأمريكية، على نحو فردي، بأنها تُقوِّض بنية التعاون الإقليمي العسكري للآسيان نفسها، لأن هذه القواعد الأمريكية تنتشر على طول خطوط دول منطقة الآسيان.

وبالتالي، فإن احتمال انبثاق منظمة شبيهة بحلف الناتو في منطقة المحيطين لا يثير قلق الجيش الصيني فحسب، بل يثير كذلك مخاوف قيادات جيوش الآسيان، بشكل منفصل وجماعي، على خلفية دروس الحرب الأوكرانية، حيث لا وجود لضمانات بعدم تخلي الولايات المتحدة عن الدفاع عنها. ولعل هذا ما يدفع بدول الآسيان إلى تنظيم تدريبات نوعية عسكرية شاملة لجيوش الرابطة، كآلية دفاعية استعداداً لجميع الاحتمالات، والتي قد يكون من بينها تكرار نموذج أوكرانيا القائم على (احمِ ذاتك ونحن سندعمك لوجستياً وفي المحافل الدولية، وليس أكثر من ذلك).

رسائل ودلالات التوقيت والمكان

وفقاً للعوامل السابقة، يُمكِن تفسير تنظيم كافة دول جنوب شرق آسيا أول مناورات بحرية عسكرية، في إطارها المكاني وتوقيتها، وما تحمله من دلالات ورسائل، في التالي:

1 – تُقدِّم تدريبات ASEX 2023 إشارة إلى القوى الكبرى بأن دول الآسيان، مجتمعة، لها مصلحة خاصة ومماثلة في أمن المياه الإقليمية والمناطق الاقتصادية الخالصة المسؤولة عن تأمينها، وأنها تقف على الحياد تجاه استعراض القوة القائم بين الصين والولايات المتحدة حول بحر الصين الجنوبي ومن شماله جزيرة تايوان، حيث يُمكِن أن تنشب مواجهة مسلحة بين القوتين تؤثر في أمن المياه الإقليمية للآسيان.

2 – تم إجراء التدريبات في وقت يتزايد فيه قيام الصين بفرض سيادتها ونشر قواعدها في بحر الصين الجنوبي، بدءاً من مضايقة الأنشطة البحرية وممارسة الصيد لبعض دول الآسيان داخل مناطقها الاقتصادية الخالصة، إلى إطلاق خريطة جديدة تدعي أن بحر الصين الجنوبي بأكمله تقريباً هو بحر يخضع لسيادة الصين وحقوقها ومصالحها البحرية. كما يشير موقع تنفيذ هذه التدريبات في بحر الصين الجنوبي إلى توجيه إندونيسيا رسالة للصين مفادها أن مطالبة الأخيرة بالسيادة على البحر لا تزال قضية محل نزاع.

3 – تسعى دول الآسيان من خلال هذه التدريبات إلى بناء الثقة فيما بينها دون تدخُل قوى خارجية، وتحاول إظهار قدرتها الجماعية على تطوير التشغيل البيني لقواتها العسكرية للتعامل بسرعة مع الأزمات الكبرى، وأنها سوف تستمر في العديد من الترتيبات الإقليمية متعددة الأطراف لتعزيز الأمن البحري، والتي تشمل، على سبيل المثال، التنسيق بين ماليزيا وإندونيسيا والفلبين للتعامل مع القضايا الأمنية في بحر سولو، وبين إندونيسيا وماليزيا وسنغافورة وتايلاند في مضيق ملقا لضمان أمن المضيق والحيز البحري المحيط به.

4 – امتداداً للنقطة السابقة، تستعد دول الآسيان بشكل جماعي من خلال هذه التدريبات وغيرها، لمواجهة حالة طوارئ قد تنتج عن نشوب صراع مسلح في تايوان، خصوصاً وأن أي دولة منها لا تمتلك، بشكل منفرد، قدرات النقل الجوي والبحري الكافية لمهمات إجلاء مواطنيها من تايوان، أو التعامل مع قضايا الأمن غير التقليدي مثل الاستجابة للكوارث الطبيعية والتغيرات المناخية وعمليات الإجلاء الطبي والمساعدات الإنسانية، نظراً لتكرار الكوارث الطبيعية في منطقة جنوب شرق آسيا.

أخيراً، تدرك دول الآسيان كلاً من تعقيد علاقاتها الأمنية مع الصين في ظل ارتباط الجانبين بشبكة مصالح تجارية واقتصادية هائلة، وأهمية موقعها الجغرافي في ظل التنافس البحري الراهن بين القوى الكبرى، واحتمال وقوع أزمات كبرى بالمنطقة؛ وهو ما يتطلب قدراً أكبر من الاستقلالية والتأهب جماعياً لإمكانية التعامل مع هذه التحولات العالمية. لهذا سوف تسعى إلى الاعتماد على الذات في مواجهة التحديات البحرية غير التقليدية، وسوف تكرر هذه التدريبات العسكرية، بحرياً وبرياً وجوياً، على المدى الطويل، وتحاول تعزيز قدراتها على القيام بمهمات عسكرية مُشترَكَة في حالة وقوع أزمات إقليمية كبرى.