نشر مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة مقالا للكاتب أحمد أمل، أورد فيه عوامل اختلاف انقلاب الجابون عن نظرائه فى الساحل الإفريقى، إذ جاء الانقلاب ليقطع الطريق أمام احتمالية سقوط الدولة فى دائرة عنف نظرا لرفض المعارضة تولى على بونجو ولاية ثانية فى ظل تردى أحوال البلاد الاقتصادية والاجتماعية... نعرض من المقال ما يلى.
شهدت الجابون فجر يوم 30 أغسطس 2023 تجربتها الأولى مع الانقلابات العسكرية منذ استقلالها عن فرنسا عام 1960. فالدولة الغنية بالنفط الواقعة فى الجنوب الشرقى لخليج غينيا تعاقب على حكمها ثلاثة رؤساء فقط هم: ليون مبا، وعمر بونجو وابنه على الذى أطيح به فى الانقلاب الأخير. وبينما غلب طابع الحكم الفردى على عهود الرؤساء الثلاثة، فإن هذا الحكم ارتكز بالأساس إلى ركيزة سياسية تمثلت فى حزب وحيد ثم حزب مهيمن فى إطار تعددية مقيدة، الأمر الذى يجعل من سابقة التدخل المباشر للمؤسسة العسكرية الجابونية نقطة تحول جديرة بالقراءة والتحليل واستشراف المآلات المستقبلية.
جاء الانقلاب فى الجابون كحلقة أخيرة للتوترات السياسية المتصاعدة على إثر إجراء الانتخابات الرئاسية التى شهدت استقطابا حادا بين التحالف الحزبى الداعم لترشح الرئيس على بونجو، وبين «تحالف البديل 2023» المعارض للرئيس والداعم للمرشح أبرت أوندو أوسا، بعدما رفضت المعارضة نتائج الانتخابات التى أعلنتها الهيئة الوطنية للانتخابات بفوز الرئيس بونجو بولاية رئاسية جديدة حاصلا على 293 ألف صوت شكلت 64% من أصوات الناخبين. وأثارت المعارضة مبكرا العديد من نقاط الاعتراض على المسار الإجرائى لانتخابات السادس والعشرين من أغسطس، بفعل ما اعتبرته «تزويرا ممنهجا» من جانب أنصار التحالف الرئاسى.
وأنبأت هذه التوترات المبكرة بأن إعلان فوز الرئيس على بونجو بولاية ثالثة سيعيد إدخال البلاد فى أزمة سياسية معقدة مشابهة لتلك التى وقعت فور إعلان فوز بونجو على جان بينج فى الانتخابات الرئاسية لعام 2016، والتى أطلقت موجة من أعمال العنف اجتاحت العاصمة ليبرفيل والمدن الجابونية الرئيسية، وأسفرت عن إحراق مقر البرلمان، ومصرع خمسة أفراد، وقطع خدمات الاتصالات والإنترنت لنحو أسبوع كامل. كما شكلت هذه الانتخابات سببا مستمرا لتكرار مظاهر الاحتجاج من جانب المعارضة فى السنوات التالية، حيث تصاعدت بصورة لافتة بعد مرض الرئيس بونجو عام 2018.
وتحسبا لتكرار أزمة انتخابات 2016، اتخذت السلطات فى الجابون خطوات استباقية قبل إعلان اللجنة الوطنية للانتخابات النتائج الرسمية فى الساعات الأولى من يوم 30 أغسطس 2023، والتى تضمنت قطع خدمات الإنترنت وفرض حالة من الاستنفار الأمنى. ومع توقع رد فعل عنيف من جانب المعارضة، أعقب الإعلان الرسمى عن فوز الرئيس بونجو بالانتخابات بنحو ساعتين إذاعة بيان عسكرى تلفزيونيا يعلن إلغاء نتيجة الانتخابات وحل مؤسسات الحكم، وذلك تجنبا لأى موجة جديدة من أعمال الاحتجاج العنيف. بهذا، يشكل انقلاب الجابون حالة إفريقية دالة على ما يعرف بانقلابات «إنهاء اللعبة السياسية» «Endgame Coups» والتى تتم بتدخل المؤسسة العسكرية لإيقاف مسار لتفاعلات سياسية خطرة منتجة للاستقطاب ومهددة بسقوط الدولة فى دائرة للعنف، وإدخالها فى عملية تغيير جذرية وشاملة، وهو ما يستدعى إعادة إطلاق عملية سياسية وفق آليات جديدة لكن بمنطق محافظ.
على الرغم من الصورة المرتجلة التى خرج عليها البيان الأول لإعلان انقلاب الجابون فى فجر يوم 30 أغسطس، والتى كان أبرز ملامحها حضور عدد من القادة بغير الزى العسكرى؛ فإنه منذ الإعلان الأول جرى تأكيد أن هذا الإجراء يحظى بتأييد القادة العسكريين جميعهم فى البلاد، بما يعكس موقفا مؤسسيا توافقيا، وليس محاولة فردية للاستيلاء على السلطة.
إذ تشير الذاكرة القريبة للجابون إلى محاولة انقلابية فاشلة جرت وقائعها فى 7 يناير 2019 خلال وجود الرئيس على بونجو فى الخارج فى رحلة علاجية، وذلك من خلال قيام عدد من صغار الضباط بالسيطرة على مقر الإذاعة الوطنية وإذاعة بيان صوتى أعلن فيه تولى «الحركة الوطنية لشباب قوات الأمن والدفاع الجابونية» للسلطة فى البلاد وتأسيس «مجلس التجديد الوطنى» بعضوية عناصر عسكرية ومدنية معارضة للرئيس بونجو. وعلى الرغم من غياب الرئيس بونجو عن البلاد، جاء تصدى القوات المسلحة للمحاولة الانقلابية ليحقق نتيجة حاسمة بعد أن انتشرت قواته للسيطرة على المواقع الحيوية جميعها فى العاصمة ليبرفيل وغيرها من المدن الرئيسية.
وبينما أشارت محاولة عام 2019 إلى نفاذ التوترات والتوجهات المعارضة للرئيس بونجو إلى داخل المؤسسة العسكرية، أشارت كذلك لصعوبة نجاح أى محاولة انقلابية مستقبلية فى الجابون من دون توافر شرطين أساسيين؛ أولهما حد أدنى من الإجماع بين كبار القادة العسكريين لوقف تنفيذ خطط الانتشار واستعادة السيطرة على المراكز المدنية والعسكرية الحيوية، وثانيهما ضمان التأييد المباشر من قيادة قوات الحرس الجمهورى على وجه الخصوص. وقد جاء اجتماع الشرطين فيما شهدته الجابون من تطورات يوم 30 أغسطس، ليضمن نجاح إجراءات الإطاحة بالرئيس بونجو بعد ساعات قلائل من إعلان اللجنة الوطنية للانتخابات فوزه بولاية رئاسية جديدة.
تعد الجابون المنتج الرابع للنفط على مستوى دول إفريقيا جنوب الصحراء، بعد نيجيريا وأنجولا وجمهورية الكونغو، الأمر الذى أهلها لعضوية منظمة «أوبك» منذ عام 1975، والذى يعد مسئولا عن نحو أربعة أخماس الناتج المحلى الإجمالى للجابون والبالغ عام 2021 نحو 20 مليار دولار أمريكى. وفى ظل الخفة السكانية النسبية التى تتميز بها الجابون التى يقتصر عدد سكانها على نحو 2,3 مليون نسمة، فإنها تحقق واحدا من أعلى المعدلات لنصيب الفرد من الناتج المحلى فى إفريقيا.
وعلى الرغم من هذه المؤشرات، تشهد الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية فى الجابون ترديا ملحوظا، دفع الحكومة عام 2018 لتبنى سلسلة من الإجراءات التقشفية تماشيا مع خطة تنشيط الاقتصاد المقررة من جانب صندوق النقد الدولى، والتى أعقبتها معاناة البلاد من التداعيات الاقتصادية السلبية لجائحة «كورونا» منذ عام 2020، والتى لا تزال الكثير من آثارها قائمة حتى الآن. أضيف لهذا الواقع الاقتصادى، ما يشهده الرأى العام فى البلاد من سخط تقليدى بشأن التداعيات الاقتصادية لسيطرة عائلة بونجو على الحكم منذ تولى عمر بونجو الحكم عام 1967، قبل أن يخلفه ابنه بعد وفاته عام 2009، فى ظل انتشار تقارير تفصيلية بشأن هيمنة العائلة الحاكمة على اقتصاد الجابون لأكثر من 50 عاما، فضلا عما ارتبط بهذه السيطرة من منافسات بينية بلغت ذروتها بين الرئيس على بونجو وشقيقته باسكالين وشقيقه فريدريك.
ويسهم هذا الوضع فى تيسير مهمة الحكم الجديد بالجابون واجتذاب حد أدنى من القبول الشعبى لخطوة الإطاحة بعلى بونجو من الرئاسة على الأقل. فمن ناحية، جرت تعبئة الرأى العام فى الجابون على مدى سنوات ضد السياسات الاقتصادية للرئيس على بونجو، وهو ما شكل دافعا رئيسيا لتنامى تأييد مرشحى المعارضة للرئاسة فى انتخابات 2016 و2023. ومن ناحية أخرى، وعلى العكس من حالة دول الساحل الإفريقى، تمتلك المجموعة العسكرية الحاكمة فى الجابون أداة فعالة لتثبيت موقعها فى السلطة من خلال إعادة هيكلة الإنفاق العام والتوسع السريع فى الإنفاق الاجتماعى، مستفيدة من الدخل الوفير المنتظم الذى تحصل عليه البلاد من صادرات النفط، وكذلك من إجراءات مصادرة الأرصدة والأصول التى ستضطلع بها بحق الرئيس بونجو وأفراد عائلته أو العناصر المقربة منه. وقد تكون هذه النيات لدى الحكم الجديد فى الجابون سببا فى التحفظ على الرئيس على بونجو وابنه الأكبر نورالدين، فضلا عن اعتقال كبير موظفى الرئاسة جيسلاين نجولو ونائبه محمد على ساليو واتهامهم بالفساد والاختلاس وتزوير توقيع الرئيس.
مما سبق، يمكن القول إن الانقلاب الأخير فى الجابون قد جاء ليقطع الطريق على تفاقم أزمة داخلية حادة كادت أن تنفجر بفعل الانتخابات الرئاسية وما شهدته من تفاعلات فاقمت من الاستقطاب الداخلى وأنذرت بالسقوط فى دائرة العنف. وبينما تبدو فرص تثبيت الخطوات التى أعلنت عنها القيادة العسكرية الجديدة أكبر من أى احتمالات لعودة الرئيس بونجو لممارسة مهامه لولاية جديدة، لا يزال المستقبل السياسى للجابون يكتنفه الكثير من الغموض الذى ترتهن مآلاته على المدى المتوسط والبعيد بنجاح الحكام الجدد فى إدارة عملية انتقالية توافقية وحاسمة وسريعة.