في 24 يوليو 2023، تفجرّت واحدة من أكبر الأزمات السياسية في إسرائيل خلال العقود الأخيرة، بعد ترقب استمر حوالي سبعة أشهر، حيث أقرّ الكنيست الإسرائيلي قانون "الحد من المعقولية"؛ الذي يحد من صلاحيات المحكمة الإسرائيلية العليا، وذلك بموافقة 64 صوتاً، هم أعضاء أحزاب الائتلاف الحكومي في الكنيست، في مقابل خلو القاعة من المعارضة، بعدما غادرها باقي النواب احتجاجاً على القرار.
وقد مثّل تمرير ذلك القانون ذروة الاضطرابات التي عانت منها إسرائيل على مدار الشهور الماضية، سواءً من خلال الاحتجاجات الشعبية التي استمرت لنحو 29 أسبوعاً متتالياً، أو الضغوط التي مارسها جنود وضباط الاحتياط على المؤسسة العسكرية وتهديدهم بعدم الامتثال للخدمة التطوعية حال تم إقرار مشروع إصلاح القضاء، علاوة على ارتباك المشهد الاقتصادي.
تعديل جدلي:
يُعد تمرير قانون "الحد من المعقولية" خطوة أولى في سلسلة من القوانين ينوي الائتلاف الحكومي في إسرائيل تمريرها للحد من سلطة القضاء، لصالح السلطتين التنفيذية والتشريعية. فبعد تشكل الحكومة الحالية بقيادة بنيامين نتنياهو، أعلن وزير العدل، ياريف ليفين، عن نية الحكومة المُضي قُدماً في إقرار سلسلة من الإصلاحات التشريعية في الكنيست؛ من شأنها إحداث تغيير جذري في سلطات القضاء، وخلق ميزان قوى جديد في البلاد.
ويقول نتنياهو وشركاؤه في الائتلاف الحكومي إن إصلاحاتهم التشريعية ضرورية للحد مما وصفوه بـ"السلطة المُفرطة" التي تملكها المحكمة الإسرائيلية العليا، واستعادة قدرة الحكومة على ممارسة سلطاتها، والتي يعتقدون أنها اُغتصبت من قِبل المحكمة. وهذا ما اتضح من خلال تصريح وزير العدل في أعقاب إقرار قانون "الحد من المعقولية"، حيث قال: "لقد اتخذنا الخطوة الأولى في العملية التاريخية لإصلاح نظام العدالة".
بينما ترى المعارضة ومنتقدو هذه الإصلاحات أنها تُعد تقويضاً لفكرة فصل السلطات، ومحاولة من قِبل الحكومة الحالية لإزالة أي ضوابط وتوازنات على سلطتها، بما يدفع إسرائيل إلى أعمق وأخطر أزمة دستورية - وحتى وجودية - في تاريخها. ومكمن الخطورة، من وجهة نظر المعارضة، أن إسرائيل لا تمتلك دستوراً، وإنما تُحكَم من قِبل مجموعة قوانين يُطلق عليها "قوانين الأساس"، حيث يوجد 13 قانون أساس، تُحدد من خلالها فلسفة نظام الحكم، وصلاحيات سلطات القانون، والعلاقة بين السلطات، وضمان حقوق الإنسان والمواطن. وغالباً ما كانت تُثار أزمات بسبب قيام المحكمة الإسرائيلية العليا بتفسير قوانين الأساس واستخدامها لنقض بعض قرارات الحكومة والكنيست. وترى المعارضة أن الإصلاحات الجديدة تقوِّض القيم التي وُضعت عليها "قوانين الأساس".
مشروع ليفين:
تتعامل بعض الأوساط الإسرائيلية مع مشروع الإصلاح القضائي على أنه "مشروع ليفين"؛ نسبةً لوزير العدل ياريف ليفين، بصفته مهندس هذه التشريعات، ومنْ يحارب ويقاوم ضغوط المعارضة للدفع بها. ويدور هذا المشروع حول 4 تعديلات أساسية في النظام القضائي؛ هي:
1- تقييد المراجعة القضائية لسلطات وقرارات الحكومة ووزرائها ووكالاتها التنفيذية.
2- تقويض قدرة المحكمة العليا على مراجعة تشريعات الكنيست.
3- تغيير طريقة تعيين واختيار القضاة الإسرائيليين، ومنح الحكومة السيطرة شبه التامة على هذه العملية.
4- تقويض صلاحيات وطريقة تعيين النائب العام والمستشارين القانونيين للحكومة، بحيث تصير مناصب "صورية" يختارها الوزراء.
وقد صاغ ليفين هذه التعديلات من خلال 8 مشاريع قوانين، تم إقرار اثنين منها بالفعل؛ الأول هو قانون "عجز رئيس الوزراء" (في مارس 2023)، والثاني قانون "الحد من المعقولية" في 24 يوليو الجاري. بينما حظيت 3 مشاريع قوانين بقراءة أولى، في انتظار إقرارها عبر القراءة الثانية والثالثة في الكنيست. وتظل 3 مشاريع أخرى بانتظار العرض التمهيدي.
وبالنسبة لقانون "عجز رئيس الوزراء"، فقد حصّن هذا المنصب، بحيث لا يحق للقضاء عزل رئيس الوزراء "إلا بسبب عدم الكفاءة الجسدية أو العقلية". ويرى المنتقدون أن هذا القانون سعى بشكل واضح لحماية نتنياهو وتحصينه، بسبب اتهامات الفساد التي يواجهها.
أمّا "بند المعقولية"، الذي ألغاه القانون الجديد، فهو من الأدوات الإجرائية الموجودة في متناول القضاء الإسرائيلي، وتحديداً قضاة المحكمة العليا؛ إذ تمارس المحاكم من خلاله رقابة قضائية على عمل الأذرع المختلفة للسلطة التنفيذية، المتمثلة في الحكومة ووزاراتها والهيئات الرسمية التابعة لها. ومن شأن قانون "الحد من المعقولية"، الذي تم إقراره، أن يمنع المحاكم الإسرائيلية، بما فيها المحكمة العليا، من تطبيق هذا البند على القرارات التي يتخذها المسؤولون المنتخبون.
وسبق أن استُخدام "بند المعقولية" لرفض تعيين وزراء ومسؤولين أمنيين، بينهم مثلاً مسؤول "الشاباك" الأسبق، يوسي غينوسار، الذي رُفض قرار تعيينه مديراً عاماً لوزارة البناء والإسكان عام 1993، بعد اتهامه بقضية إعدام منفذي عملية "الحافلة 300". كذلك ألغت المحكمة تعيين نتنياهو لآريه درعي وزيراً للداخلية والصحة والمالية، منذ عدة أشهر؛ بسبب اتهامه في قضايا فساد وتهرب ضريبي.
ومستقبلاً، مع تجريد المحاكم من أداتها للطعن في قرارات الحكومة، من المُرجح أن تعمل حكومة نتنياهو على تعيين المزيد من شركائها اليمينيين المتشددين، الذين قد تتسبّب قراراتهم في إثارة الرأي العام الداخلي والدولي.
ردود الفعل:
في أعقاب إقرار قانون "الحد من المعقولية"، أعاد نتنياهو تأكيد مفردات خطابه الذي رددّه خلال الشهور الأخيرة، وهي أن غالبية الإسرائيليين صوّتوا لصالح خطة الإصلاح القضائي من خلال التصويت لحكومته في انتخابات الكنيست الماضية، وأن حكومته تُنفذ "إرادة الشعب". أمّا حلفاء نتنياهو، فكانت تصريحاتهم حافلة بالثقة، حيث غرّد وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، قائلاً: "اليسار منذ فترة طويلة صار غير ديمقراطي، واليمين يحاول إعادة الديمقراطية إلى إسرائيل". وقال وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير: "هذه مجرد البداية"؛ في إشارة إلى باقي قوانين مشروع الإصلاح القضائي التي سيتم إقرارها لاحقاً.
وفي المقابل، قال زعيم المعارضة ورئيس حزب "هناك مستقبل"، يائير لابيد: "إنه يوم حزين. هذا ليس انتصاراً للائتلاف الحكومي، هذا هو تدمير الديمقراطية الإسرائيلية". ومن جانبه قال رئيس حزب "المعسكر الوطني"، بيني غانتس: "ربما نكون قد خسرنا معركة، لكننا سننتصر في الحرب". بينما رأى رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، إيهود أولمرت، إن إسرائيل "تتجه نحو حرب أهلية"، وأن "هناك تهديداً خطراً وجدياً لإسرائيل لم يحدث من قبل".
وعلى صعيد الرأي العام الإسرائيلي، فقد وصلت الاحتجاجات الشعبية، المستمرة ضد خطة ليفين منذ 29 أسبوعاً، إلى ذروتها في 24 يوليو الجاري، بعد تمرير قانون "الحد من المعقولية"، حيث انتشر المتظاهرون في تل أبيب والقدس وبعض المستوطنات، وأغلقوا الطرق السريعة، واحتشدوا بالآلاف بالقرب من مقار الحكومة والمؤسسات الرسمية. كذلك أعلنت نقابة الأطباء الإسرائيلية، التي تُمثِّل 97% من الأطباء، إضراباً في معظم أنحاء البلاد يوم 25 يوليو، مؤكدة أن أعضاءها خارج القدس سيتعاملون فقط مع حالات الطوارئ واحتياجات الرعاية الحرجة.
وبالنظر إلى أن الائتلاف الحكومي قد نجح في الوصول إلى الحكم من خلال أغلبية ضئيلة، وفي ضوء وجود شخصيات يمينية متطرفة ومثيرة للجدل ضمن الحكومة الحالية؛ يخشى قطاع من الرأي العام الإسرائيلي أن يكون مشروع الإصلاح القضائي تدشيناً لفترة يُسيطر خلالها التيار الديني المتشدد على الحياة السياسية. فمن خلال إقرار قانون "الحد من المعقولية" وباقي خطة ليفين، سيتم منح حكومة نتنياهو سلطة غير مُقيّدة تقريباً، دون توفير أي حماية مؤسسية للحقوق الفردية أو لطابع النظام السياسي الإسرائيلي. كذلك يخشى التيار المعارض أن يستفيد نتنياهو من هذه التعديلات القضائية لتجميد أو إلغاء محاكمته الجارية بتهم الفساد. والأخطر، بالنسبة لهؤلاء، هو أن تمضي العناصر الدينية المتشددة في منح اليهود المتدينين امتيازات خاصة، ربما تسمح لهم بعدم الخدمة في الجيش، بالتوازي مع فرض نمط حياتهم على سائر إسرائيل.
ودولياً، أعرب البيت الأبيض عن استيائه من تمرير قانون "الحد من المعقولية"، وقالت السكرتيرة الصحفية للبيت الأبيض، كارين جان بيير، في بيان: "أعرب بايدن علناً وسراً عن آرائه بأنه من أجل استمرار التغييرات الرئيسية في الديمقراطية، يجب أن يكون لديهم إجماع واسع قدر الإمكان". كما أصدر عدد من أعضاء الكونغرس الأمريكي، عن الحزب الديمقراطي، تصريحات حول "الشعور بخيبة الأمل الشديدة" نتيجة إقرار هذا القانون الإسرائيلي. وفي ألمانيا، ذكرت وزارة الخارجية أن برلين تتابع التوترات في إسرائيل "بقلق بالغ"، وأنها دعت الحكومة الإسرائيلية إلى اتخاذ إجراءات قد تؤدي إلى إجماع حول قضية الإصلاح القضائي الشائكة.
تداعيات سلبية:
قد يثير المشهد المضطرب حالياً في إسرائيل جملة من التداعيات المُحتملة، والتي تظهر على أكثر من صعيد، كالتالي:
1- تعميق الانقسام السياسي: إن الانقسام المجتمعي الموجود حالياً في إسرائيل، قد يكون له عواقب وخيمة على مستقبل إسرائيل، وتحديداً على مستوى الهوية وشكل النظام السياسي؛ وهي العناصر التي تَشكَّل حولها "اتفاق ضمني" من الإسرائيليين خلال العقود الماضية. وربما الأخطر، من وجهة نظر المعارضين، أن هذا الانقسام سيتصاعد في ظل استمرار حكومة نتنياهو، والتي تنوي المُضي قُدماً في أجندتها السياسية والتشريعية المثيرة للجدل، خاصة أنها تعلم أن سلطتها الحالية هي فرصتها الأكبر لتحقيق أهدافها. إذ تشير استطلاعات الرأي منذ تصاعد الاحتجاجات إلى تضاؤل فرص الائتلاف الحكومي الحالي في العودة مُجدداً إلى السلطة في الانتخابات القادمة، وآخر هذه الاستطلاعات كان في 25 يوليو 2023، لكل من قناة (N12 News) وإذاعة (ريشيت 13)، حيث كشفتا أن عدد المقاعد التي قد يشغلها ائتلاف نتنياهو الحاكم هو 52 و53 مقعداً على الترتيب، مقارنة بـ64 مقعداً حالياً.
2- خسائر اقتصادية: على الرغم من المرونة التي أظهرها الاقتصاد الإسرائيلي على مدار السنوات السابقة، فإن عدم اليقين المحيط بعملية الإصلاح القضائي أدى إلى تغيير هذا التقييم. ففي يونيو الماضي، ربط محافظ بنك إسرائيل، أمير يارون، ضعف الشيكل في سوق العملات الأجنبية بالأحداث الداخلية في إسرائيل، وهو ما جعل الواردات أكثر تكلفة، وبالتالي أسهم في ارتفاع تكاليف المعيشة والتضخم خلال الأشهر الماضية.
وعلى صعيد الاستثمارات الأجنبية، فقد وصلت استثمارات التكنولوجيا الفائقة في إسرائيل في النصف الأول من العام الجاري إلى أدنى مستوى لها منذ 2019. إذ إن حوالي 200 شركة في قطاع التكنولوجيا الفائقة كانت في طليعة الاحتجاجات المناهضة للإصلاح القضائي خلال الأسابيع الماضية، وسمحت تلك الشركات لموظفيها بالمشاركة في الإضرابات. كذلك فإن ما يقرب من 70% من الشركات الناشئة في إسرائيل تتخذ خطوات نشطة لسحب أموالها من البلاد وتحويل بعض أعمالها إلى الخارج. وبعد يوم من إقرار قانون الإصلاح القضائي الأول في الكنيست، نشرت وكالة التصنيف الائتماني "موديز" تقريراً حذرت فيه من الاستثمار في إسرائيل.
3- أزمة عسكرية في قوات الاحتياط: ربما التأثير الأبرز الذي خلّفته أزمة الإصلاح القضائي كان على صعيد المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، حيث أدى طرح خطة ليفين إلى نفور العديد من جنود الاحتياط العسكريين، الذين يرى بعضهم أن هذه الخطوة تعني استيلاء اليهود الأرثوذكس المتشددين على السلطة، والذين لا تخدم الغالبية العظمى منهم في الجيش. وخلال شهر يوليو الجاري، أعلن حوالي 11 ألفاً من الاحتياط، بما في ذلك مئات الطيارين، عزمهم تعليق عملهم في الجيش الإسرائيلي؛ احتجاجاً على خطة الإصلاح القضائي، وفق صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية.
وقد خرجت تصريحات غاضبة من جانب رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، هرتسي هاليفي، أشار فيها إلى ضرورة التوقف عن الحديث علناً ضد الجيش الإسرائيلي وجنوده في الجيش الدائم والاحتياطي. وحول احتمالية حدوث عدد كبير من الانسحابات في قوات الاحتياط، قال هاليفي: "إذا لم يكن لدينا قوة دفاع قوية وموحدة، وإذا لم تخدم العناصر الأفضل في الجيش الإسرائيلي؛ فلن نتمكن بعد الآن من البقاء كدولة في المنطقة"؛ وذلك في إشارة إلى طياري القوات الجوية الاحتياطيين، حيث هدد حوالي 500 منهم بالانسحاب من الخدمة خلال يوليو الجاري. أمّا الأمر الأكثر تهديداً هو أن تصل أزمة احتجاج جنود الاحتياط إلى صفوف الجيش النظامي والدائم والمرشحين للأجهزة الأمنية.
4- توترات خارجية: تشير مراكز الفكر الإسرائيلية إلى وجود تأثير واضح لأزمة الإصلاح القضائي في الصعيد الخارجي. فمن ناحية، قد يزداد التوتر في العلاقات بين واشنطن وتل أبيب؛ في ظل رفض الإدارة الأمريكية برئاسة بايدن لسياسات حكومة نتنياهو. كما أن التعديلات الجديدة قد تزيد نفوذ المتطرفين في الحكومة الإسرائيلية، وهو ما قد يتم ترجمته في صورة تصعيد تجاه الفلسطينيين في الضفة الغربية. كذلك، فإن الأزمة الحالية، والتي انسحبت على جاهزية قوة الاحتياط في الجيش الإسرائيلي، ربما تؤثر سلباً في حالة التأهب تجاه التهديدات الأمنية الإقليمية، التي يراها البعض وشيكة، من جانب إيران ووكلائها في المنطقة.
إجمالاً، تعيش إسرائيل حالياً أزمة استثنائية، تحمل في طياتها تداعيات تبدو بعيدة المدى، على الأصعدة كافة. وهذا المشهد المضطرب ربما يفتح المجال للحديث عن تغييرات مُحتملة قد تشهدها إسرائيل خلال السنوات المقبلة، سواءً على صعيد نظامها السياسي، أو على صعيد إعادة بناء هيكل قواتها المسلحة بما يضمن عدم تكرار أزمة "الاحتياط".