استضافت القاهرة، في 29 إبريل 2023، اجتماعات مشتركة بين رئيس مجلس النواب الليبي، عقيلة صالح، ورئيس المجلس الأعلى للدولة، خالد المشري، في إطار مساعي حسم ملف قوانين الانتخابات، والتمهيد لبدء عمل لجنة "6+6" المشتركة المخولة بإنجاز هذه القوانين.
اجتماعات القاهرة
وصل رئيس المجلس الأعلى للدولة الليبي، خالد المشري، إلى العاصمة المصرية، في 28 إبريل 2023، بعد يومين من وصول رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، إلى القاهرة بناءً على دعوة من قبل الحكومة المصرية. وعلى الرُغم من نفي مجلس الدولة لأي اجتماعات تمت بين رئيسي المجلسين، فإن غالبية التقارير رجحت أن زيارة صالح والمشري المتزامنة إلى القاهرة، في هذا التوقيت، تستهدف مناقشة عدد من الملفات الرئيسة، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:
1- التمهيد لاجتماعات لجنة "6+6": يأتي اجتماع القاهرة بين صالح والمشري قبيل أيام قليلة من انطلاق اجتماعات لجنة "6+6" المشتركة بين المجلسين، والتي ستتولى مناقشة قوانين الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، ولذلك يمكن اعتبار أن هدف هذه المباحثات هو حلحلة الخلافات القائمة بين المجلسين بشأن بعض بنود القوانين الانتخابية.
وكانت البعثة الأممية في ليبيا دعت مجلسي النواب والدولة، في 25 إبريل 2023، إلى تسريع وتيرة عمل لجنة "6+6" المشتركة، والتلويح باستعداد البعثة تقديم الدعم الفني واللوجستي لهذه اللجنة، وذلك على أن يتم إنجاز القوانين الانتخابية خلال يونيو 2023 بحد أقصى، بحيث تبدأ المفوضية الوطنية للانتخابات في التحضير للعملية الانتخابية مطلع يوليو 2023.
وعلى الرغم من حالة التكتم التي هيمنت على تفاصيل اجتماعات صالح والمشري الأخيرة، بيد أنه من الواضح أن الجانبان توافقا على القوانين الانتخابية، فقد دعا رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح لجنة "6+6" للإسراع في إنجاز القوانين الانتخابية، قبل أن تعلن اللجنة تحديد بدء انطلاق اجتماعاتها في طرابلس، بداية من 3 مايو 2023، للاتفاق على جدول الأعمال وإنجاز قوانين الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، لتجنب اتجاه المبعوث الأممي إلى تشكيل اللجنة رفيعة المستوى التي يفترض أن تتولى إنجاز هذه القوانين حال تعثرت مساعي مجلسي النواب والدولة.
2- حسم ملف المناصب السيادية: استهدفت اجتماعات القاهرة بين صالح والمشري أيضاً حسم ملف المناصب السيادية، والذي يواجه حالة من الجمود منذ عدة أشهر، على الرغم من الاتفاق المبدئي الذي كان قد تمخض عن مشاورات الطرفين في السابق، إذ ربما يسعى رئيسا مجلسي النواب والدولة للبناء على التوافقات الحالية بينهما لتسمية شاغلي المناصب السيادية.
3- التنسيق بشأن تداعيات الحرب السودانية: هناك مخاوف من انعكاس القتال الجاري في السودان على الأزمة الليبية. وفي هذا السياق، أعلنت السفارة الأمريكية في طرابلس أن مساعدة وزير الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأدنى، باربرا ليف، أجرت اتصالاً مع قائد الجيش الوطني الليبي، خليفة حفتر، بشأن ضرورة منع عناصر فاغنر الروسية الموجودة في ليبيا من الانخراط في الصراع السوداني الراهن، وهو ما جاء في أعقاب تصريحات وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، في 25 إبريل 2023، بشأن مشروعية استعانة الأطراف السودانية بالخدمات الأمنية التي تقدمها مجموعة فاغنر شبه العسكرية.
ومن ناحية أخرى، تبدي القاهرة، وفقاً لتقارير إعلامية غربية، قلقاً من تداعيات أي مشاركة محتملة من قبل فاغنر في القتال الحالي في الخرطوم، حتى إن هناك تقارير صحفية ليبية غير مؤكدة، تحدثت عن وصول وفد أمني مصري رفيع المستوى إلى بنغازي للتشاور مع القادة العسكريين هناك. لذلك لا يمكن فصل اجتماعات القاهرة بين صالح والمشري والقلق المصري، وكذلك الغربي، من انعكاسات الصراع السوداني على الملف الليبي.
حراك إقليمي ودولي
جاءت اجتماعات رئيسي مجلسي النواب والدولة الليبيين في القاهرة متزامنة مع الحراك الدولي والإقليمي وحالة الزخم المرتبط بالملف الليبي، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:
1- تحركات مصرية تركية: قد ينعكس التقارب المصري التركي بشكل مباشر على الملف الليبي، خاصة بعد الزيارة الأخيرة التي قام بها وزير الخارجية المصري، سامح شكري، لتركيا، منتصف إبريل 2023، حيث لوحت الدولتان باتجاههما نحو بلورة صيغة توافقية، وخريطة طريق مشتركة للملف الليبي، وبالتالي لا يمكن فصل اجتماعات صالح والمشري الأخيرة في القاهرة عن التقارب التركي المصري الراهن.
وبالتزامن مع لقاءات صالح والمشري في القاهرة، قام رئيس حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايته، عبدالحميد الدبيبة، بزيارة إلى تركيا، في 29 إبريل 2023، للمشاركة في مهرجان "تكنوفيست" الخاص بتكنولوجيا الفضاء والطيران، والذي استضافته مدينة إسطنبول، بحضور الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان.
وعمد الدبيبة، خلال هذه الزيارة، إلى مغازلة الموقف التركي عبر تأكيد العلاقات الوثيقة بين البلدين، وتقديم الشكر لأنقرة على دعمها لحكومته. ويبدو أن الدبيبة يتخوف من تداعيات التقارب المصري التركي على استمراريته في السلطة، في ظل موقف القاهرة الرافض لبقاء حكومة الدبيبة باعتبارها منتهية الصلاحية.
2- انخراط سعودي متزايد: ألمحت تقديرات إلى أن الفترة الأخيرة شهدت تنامياً ملحوظاً للدور السعودي في الأزمة الليبية، وهو ما انعكس في دور المملكة في إجلاء المواطنين الليبيين الموجودين في السودان، فضلاً عن الزيارة الأخيرة التي قام بها المبعوث الأممي في ليبيا، عبدالله باتيلي، إلى الرياض، نهاية إبريل 2023، ولقائه بوزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، حيث أشار الأخير إلى دعم بلاده للمسار الأممي في الأزمة الليبية، في مؤشر مهم ربما يعكس تحركات سعودية أكبر خلال الفترة المقبلة لدعم جهود باتيلي ومبادرته التي يستهدف من خلالها إنجاز الانتخابات خلال العام الجاري، بيد أن هذه التحركات ربما تجيء متعارضة مع جهود بعض الأطراف الإقليمية الأخرى في ليبيا، خاصة مصر.
3- تحضيرات فرنسية لاجتماع ليبي: أشارت تقارير فرنسية إلى أن باريس تستعد حالياً لاستضافة اجتماعات خاصة بالملف الليبي خلال الفترة المقبلة، بحضور القيادات العسكرية والأمنية من شرق وغرب ليبيا، حيث يتولى مستشار الرئيس الفرنسي، بول سولير، الترتيب لهذه الاجتماعات المرتقبة.
وتسعى باريس لتوظيف التقدم الراهن في المسار العسكري والتحركات الجارية لإنشاء قوة عسكرية مشتركة من قبل شرق وغرب ليبيا، وذلك لتعزيز الدور الفرنسي في الملف الليبي من خلال هذا المسار، حيث يتوقع أن يشارك في هذه الاجتماعات رئيسا أركان جيشي شرق وغرب ليبيا، بالإضافة للمبعوث الأممي، عبدالله باتيلي، وكذا رئيس المجلس الرئاسي، محمد المنفي، باعتباره القائد الأعلى لهذه القوات.
4- ضغوط أمريكية متزايدة: سبقت اجتماعات صالح والمشري دعوات أمريكية مكثفة للإسراع في عملية توحيد المؤسسة العسكرية الليبية، والتحضير للانتخابات المقبلة قبل نهاية 2023، فقد اعتبر سفير واشنطن ومبعوثها الخاص إلى ليبيا، ريتشارد نوريلاند، أن الاضطرابات الإقليمية الحالية تزيد من أهمية المضي قدماً نحو تشكيل جيش ليبي موحد قادر على فرض الأمن والاستقرار في البلاد.
وجاءت هذه التصريحات في أعقاب اجتماعات نوريلاند بمدينة شتوتغارت الألمانية، مع قائد القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا "أفريكوم"، مايكل لانجلي، وهو ما ربطته تقديرات بالضغوط الأمريكية المتزايدة، خلال الآونة الأخيرة، على الأطراف الليبية لتوحيد المؤسسة العسكرية والإسراع بإنجاز الانتخابات.
ومن ناحية أخرى، أشارت تقارير غربية إلى أن حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها عقدت خلال الفترة الأخيرة صفقات نفطية كبيرة مع عدد من الشركات الأمريكية، على غرار شركتي هاليبرتون وهانيويل. ولفتت هذه التقارير إلى أن مصافي النفط التي تم التعاقد عليها بين حكومة الدبيبة والشركات الأمريكية تقع بالقرب من مناطق تمركز عناصر فاغنر الروسية، في مؤشر جديد على تفاقم التنافس الروسي الأمريكي في ليبيا.
كما أن هذا الأمر ربما يفسر التأرجح الحالي في موقف واشنطن إزاء حفتر في ظل الحديث عن انزعاج أمريكي من علاقة الأخير بالشركة الروسية، وتعثر الوصول إلى تفاهمات مستدامة بين حفتر والولايات المتحدة الأمريكية بشأن وجود فاغنر في ليبيا، مقابل الدعم الأمريكي لحكومة الدبيبة. ولعل هذا ما يفسر لغة الخطاب التحذيرية التي لوح بها حفتر خلال الأيام الماضية، وانتقاده للتوزيع غير العادل لعائدات النفط الليبي.
مسارات متوازية
تعكس حالة الزخم المرتبطة بالملف الليبي وجود عدد من المسارات المتوازية التي تهيمن على المشهد الحالي، وتدفع إليها الأطراف الداخلية والخارجية، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:
1- تعزيز التفاهمات بين "النواب" و"الدولة": قد تمهد مشاورات صالح – المشري في القاهرة الطريق أمام صيغة توافقية تتعلق بشروط الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة، مع ضمان عدم ترشح الدبيبة للرئاسيات المقبلة، فضلاً عن عرقلة مساعي سيف الإسلام القذافي للترشح أيضاً، مقابل وضع شروط أمام ترشح العسكريين ومزدوجي الجنسية. ويسعى مجلسا النواب والدولة إلى الإسراع بعملية إصدار قوانين انتخابية توافقية لسد الطريق أمام إمكانية تدخل البعثة الأممية في هذا الملف.
2- تحركات أممية موازية: تشير تقديرات إلى أن باتيلي بدأ فعلياً في عملية تشكيل اللجنة رفيعة المستوى، التي ستتولى مسؤولية إعداد القوانين حال تعثر مساعي مجلسي النواب والدولة، كما لم تستبعد هذه التقديرات احتمالية أن تتدخل اللجنة الأممية حال طرحت لجنة "6+6" نصوصاً جدلية، وهو سيناريو قائم بقوة. لذا قد يسعى المبعوث الأممي إلى توظيف الدعم الغربي الحالي لمبادرته وكذا من قبل بعض الأطراف الإقليمية، لمحاولة تقليص نفوذ مجلسي النواب والدولة.
3- الإبقاء على الوضع القائم: هناك اتجاه ثالث يدفع نحو الإبقاء على الوضع القائم حالياً، والعمل على عرقلة أي مسارات قد تهدد المكتسبات الراهنة لهذه الأطراف. ويُعد الدبيبة أبرز ممثلي هذا المسار، في ظل تمسكه بالبقاء في السلطة حتى حال اعتزامه الترشح للاستحقاقات الرئاسية المقبلة، فضلاً عن تحركاته المكثفة لإقناع القوى الغربية بقدرته على الحفاظ على مصالحها في ليبيا، وهو ما انعكس في صفقات النفط والغاز التي وقعها الدبيبة مع الشركات الغربية خلال الأشهر الأخيرة.
وفي الختام، تعكس المسارات المتوازية التي يشهدها الملف الليبي حالة من الارتباك تجعل احتمالية إنجاز الانتخابات الرئاسية والبرلمانية خلال العام الجاري محدودة للغاية، في ظل حالة الاستقطاب المستمرة في الداخل الليبي، واتجاه كل طرف لدعم أحد هذه المسارات المتقاطعة بما يعزز مصالحه، كما يزداد الأمر صعوبة في ظل تباينات الموقف الإقليمي والدولي إزاء هذه المسارات.