أعلن إخوان لندن أو ما يُعرف بـ"جبهة لندن"، يوم 19 مارس 2023، انتخاب صلاح عبدالحق قائماً بأعمال المرشد خلفاً لإبراهيم منير الذي تُوفي يوم 4 نوفمبر 2022، ليكون بذلك ثالث قائم بالأعمال للجبهة منذ سقوط حكم الإخوان في مصر بعد ثورة 30 يونيو 2013. وبهذا أصبح لجماعة الإخوان الإرهابية قائمين "فعليين" بأعمال المرشد؛ واحد في لندن، والآخر في إسطنبول ممثلاً في شخص محمود حسين، الأمين العام السابق للجماعة.
ويمكن القول إن وقوع الاختيار على صلاح عبدالحق يندرج ضمن خطة لجبهة لندن للدفع نحو تعزيز الاهتمام بالشأن الداخلي للتنظيم، وتحقيق قدر من التقارب مع معارضيها داخل الجسم الإخواني.
رجل من الأرشيف:
لا يُعد صلاح عبدالحق من الأسماء المشهورة ولا المعهودة ضمن الشخصيات البارزة والمألوفة في جماعة الإخوان الإرهابية، إذ ظل إلى حين إعلانه قائماً بأعمال المرشد متوارياً عن الأنظار ونائياً بنفسه عن مختلف المخاضات التي مرَّت بها الجماعة طيلة "محنتها" الأخيرة؛ وهي المحنة التي لا زالت تكابد أوجاعها منذ سقوطها من حكم مصر في عام 2013، وعودتها إلى دهاليز المعارضة ومتاهات المحاكمات والسجون، على وقع تصدعات وتشققات حولتها إلى تيارات وجبهات متنافسة.
فجاء اختيار القائم بأعمال المرشد استجابة لمتطلبات المرحلة التي باتت تحتاج إلى شخصية "دعوية" و"هادئة" و"حازمة في المواقف"، وهي السمات التي ذكر موقع جبهة لندن اجتماعها في عبدالحق. كما أن إلمامه بتراث حسن البنا وتشربه لفكر سيد قطب، فضلاً عن عدم تورطه المباشر في الصراع القائم بين الجبهات الوارثة للجماعة؛ كل تلك العوامل تُعد عوامل معززة لتسميته في أعلى منصب بالجبهة.
بيد أن الرجل، الذي امتهن الطب كوظيفة، واُختير عضواً في مجلس الشورى العام للجماعة المُعلن من طرف جبهة لندن عام 2021، ويبلغ من العمر 78 سنة؛ لم يسبق له تولي مهام قيادية وعاش فترة طويلة خارج مصر واقتصر دوره على تولى مسؤولية الملف التربوي للجماعة، وعُرف عنه الابتعاد عن الإعلام وغلبة العمل الدعوي على حساب التنظيمي والحركي في اهتماماته. وهو ما يثير التساؤل حول خلفيات اختيار "رجل من الأرشيف" دون مؤشرات واضحة على قدراته التنظيمية على مجابهة التحديات التي تعصف بالجماعة ومستقبلها.
سياق مضطرب:
يأتي الإعلان عن انتخاب القائم الجديد بأعمال المرشد في سياق مضطرب يتسم باستمرار التشرذم الداخلي وتفاقم أزمة الثقة بين القيادة والقواعد وخفوت الدعم الإقليمي لجماعة الإخوان الإرهابية. غير أن الإعلان بحد ذاته لم يكن مفاجئاً، إذ سبقته تسريبات خلال شهر فبراير الماضي تحدثت عن اختيار عبدالحق للمنصب، وبات الأمر في شبه المؤكد منذ 20 فبراير وهو تاريخ نشر الخبر على بعض المواقع الإخبارية، وذلك بعد فترة ترقب دامت منذ رحيل إبراهيم منير، القائم السابق بأعمال المرشد، يوم 4 نوفمبر 2022، حيث أعلنت الجبهة حينها محيي الدين الزايط قائماً "بتسيير أعمال المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين" بشكل مؤقت "لحين استكمال الترتيبات اللازمة بتسمية القائم بالأعمال".
وقد جاءت تسمية القائم بالأعمال في شخص عبدالحق، حسب منشورات جبهة لندن، نتيجة انتخابه من طرف مجلسي الشورى المصري والعالمي، وتأكيداً لوصية إبراهيم منير حول خليفته. غير أن هذه التسمية أثارت ردة فعل قوية وإن كانت متوقعة من جبهة إسطنبول بقيادة محمود حسين، التي علقت على خبر اختيار عبدالحق قائماً بأعمال المرشد بالقول إن "المحاولات المتجددة لاستحداث كيانات موازية لمؤسسات جماعة الإخوان الرسمية، أو تسمية أشخاص بمهام ومسميات مدعاة بعيداً عن المؤسسات الشرعية للجماعة تحت دعاوى مختلفة، لن تفرض أمراً واقعاً ولن تجدي نفعاً".
دلالات ثلاث:
يحمل قرار اختيار صلاح عبدالحق لقيادة جبهة لندن، جملة دلالات بالنظر إلى الواقع الراهن للمشهد الإخواني المتسم بالانقسام وتراجع رصيد الجماعة من الدعم الشعبي والدولي، وكذا بالنظر إلى خطة الجبهة في ضوء صراعها مع معارضيها داخل الجسم الإخواني من جهة، ومع الحكومة المصرية من جهة أخرى. ويمكن إجمال هذه الدلالات في ثلاث نقاط رئيسية، هي كالتالي:
1- توثيق العلاقة مع قيادات السجون: يكشف اختيار عبدالحق على رأس جبهة لندن عن رغبة قياداتها في توثيق العلاقة مع قيادات السجون ممثلة في أعضاء مجلس الإرشاد المسجونين بعد ثورة 30 يونيو 2013، إذ من شأن الترويج لهذه العلاقة في أوساط الجماعة أن يُقرأ كعلامة رضا من مجلس الإرشاد والمرشد خصوصاً، وبالتالي فتح باب جديد لتلمس الشرعية في مواجهة معارضيها. وما يُرجح هذا الافتراض عاملان أساسيان هما:
أ- كون عبدالحق يشكل امتداداً للفكر القطبي الذي تتبناه غالبية العناصر النافذة في مجلس الإرشاد والموجودة في السجون حالياً. وقد كان عبدالحق من بين مسجوني (مجموعة 65) لمدة 9 سنوات مع كل من المرشد الحالي محمد بديع، ونائبه الأول محمود عزت.
ب- ورود اسم عبدالحق ضمن لجنة ثلاثية مع كل من حلمي الجزار ومدحت عاصم، شكّلها المرشد محمد بديع لتكون مرجعاً لمحمود حسين، الأمين العام للجماعة حينها، بحيث لا يقطع أمراً من دونها؛ وذلك حسب محتوى رسالة من المرشد أعلن عنها عصام تليمة في عام 2016.
2- أولوية العمل التربوي والبناء الداخلي: من شأن اختيار عبدالحق، بصفته شخصية تربوية وقليلة الظهور الإعلامي، ترجيح جبهة لندن ولو مرحلياً لخيار أولوية البناء الداخلي بالتركيز على العمل التربوي بصفته القاعدة الأساس لمختلف مجالات النشاط التنظيمي والسياسي. وما يعزز هذا الافتراض الرغبة في استعادة ثقة القواعد في القيادة في ظل الشعور المتنامي في أوساط الجماعة، سواء في جبهة لندن أو غيرها، بضعف الوازع الأخلاقي للشخصيات القيادية أمام حالات التخوين والاتهامات المتبادلة وما يروج عن سرقة أموال الجماعة والمتاجرة باسمها.
3- رسالة إلى مكونات المشهد السياسي: ينطوي اختيار عبدالحق، الذي لم يتول مهام سياسية أو قيادية في جماعة الإخوان، على رغبة جبهة لندن في توجيه رسالة إلى مكونات المشهد السياسي في مصر مفادها اقتناع الجماعة بما أعلنته مراراً عن عدم رغبتها في التنافس الحزبي على السلطة وزهدها في المناصب الحكومية. ومن ذلك تصريح إبراهيم منير، في يوليو 2022، بأن الجماعة "لن تخوض صراعاً جديداً على السلطة"، وتعقيب صهيب عبدالمقصود، المتحدث الإعلامي باسم جبهة لندن، على هذا التصريح بالقول إن "أولوياتنا يجب أن تنصرف إلى إصلاح أحوال الناس الاجتماعية والاقتصادية" وتوجيه الجهد لملف "الإفراج عن المسجونين" لأنه "ملف ذو أولوية قصوى".
تداعيات محتملة:
سوف تشهد الفترة المقبلة، التي ستكون تربوية ودعوية بامتياز وتحت إدارة صلاح عبدالحق أحد أكثر المرتبطين بالمنهج التغييري لسيد قطب، عودة قوية للأدبيات القطبية حول "جيل قرآني فريد" يعيش عزلة شعورية عن ما يسمونه "المجتمع الجاهلي"، ويتولى الإعداد لقيادة العمل التغييري نحو تحقيق "الحاكمية". وبالتالي ستبتعد جبهة لندن عن الفكر الثوري مادامت جماعة الإخوان في حالة استضعاف. وهذا ما سيرسخ السلوك البراغماتي للجبهة الذي أرساه إبراهيم منير، والقائم على توسيع التوافقات مع التنظيمات المعارضة، مع مواصلة الاهتمام بالشأن المصري على المستوى العام.
ومن شأن هذا الخيار تحقيق قدر من التقارب لجبهة لندن مع معارضيها في جبهة إسطنبول و"الكماليين"، وذلك في ظل التقارب المصري التركي، الذي قد يجبر الإخوان في تركيا على تبني الواقعية السياسية ومن ثم البحث عن حلول وسطى - على الأقل - لإدارة خلافاتهم مع جبهة لندن.
وأيضاً من شأن تبني هذا الخيار القائم على "التربية" و"الابتعاد عن السياسة" و"تعزيز اللحمة الداخلية"، أن يدفع جماعة الإخوان نحو سلك مسارين اثنين، على المستويين الخارجي والداخلي، كالتالي:
1- على المستوى الخارجي "بلورة خطاب جديد": يُحتمل أن تضاعف جبهة لندن من إشارات حُسن النية تجاه النظام المصري وسعيها لفتح قنوات للتواصل معه بشأن إطلاق سراح المسجونين. ولا يُستبعد في هذا السياق سعي الجبهة إلى إعادة تموضعها على مستوى العلاقات بين القوى الإقليمية والتي من مؤشراتها الأخيرة ترحيبها باستئناف العلاقات السعودية الإيرانية، معربة عن "حاجة أمتنا والمنطقة اليوم للسلام وروح الوحدة والتعاون أشد من أي وقت مضى". كما ستشدد الجبهة في خطابها تجاه الغرب على توظيف مفاهيم الثقافة الحقوقية وقاموس الديمقراطية الغربية، لطرح نفسها بديلاً ديمقراطياً وجديراً بالثقة.
2- على المستوى الداخلي "ازدواجية القيادة": لا يستبعد تبني جبهة لندن لازدواجية القيادة بجعل صلاح عبدالحق قائداً "مُعلناً" يركز على العمل التربوي والدعوي ومخاطبة المعارضين في جبهة إسطنبول و"الكماليين"، وفي الآن ذاته تعيين قائد آخر "سري" للعمل التنظيمي والسياسي يتولى مهام إدارة الجبهة، من وراء ستار، على مستوى علاقاتها مع الجهات الحكومية الدولية ومؤسسات المجتمع المدني في العالم والغرب تحديداً ويُحفظ له التواصل مع الجهات غير الراضية عن تسمية عبدالحق.
وما يعزز هذا التوجه هو وجود كتلة شبابية معتبرة داخل جبهة لندن دافعت بقوة عن تولي حلمي الجزار لمنصب القائم بالأعمال، ولاسيما أن الأخير يُعبر عن صوت تيار يؤمن ببراغماتية العمل السياسي والتعامل مع ملابساته بمنطق الربح والخسارة، خلافاً للتوجهات القطبية التي تطوقه بالضوابط العقائدية. وهذا ما يحقق مهام القيادة العلنية أيضاً بزعامة عبدالحق، بشأن "إعادة تعريف الجماعة، وتعزيز مكانتها، ولمّ شملها، وإدارة ملف المسجونين وأسرهم، وتمكين الشباب في إدارة المرحلة المقبلة"، حسب ما ذكره موقع الجبهة.