ذكرت وكالة بلومبيرغ، نقلاً عن اثنيْن من كبار الدبلوماسيين لم يُحددا، في 19 فبراير 2023، أن مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية اكتشفوا الأسبوع الماضي جزيئات يورانيوم مُخصب بتركيز 84% داخل منشآت إيران النووية، وأن هذه النسبة تقل بقليل عن المطلوبة لصنع سلاح نووي، وهي 90%، وأضافت أن هذا التركيز يؤكد الخطر من أنشطة إيران النووية.
أبعاد متعددة
يمكن الوقوف على أبرز أبعاد ذلك الكشف على النحو التالي:
1- عدم اليقين حول معدلات التخصيب: أشار تقرير بلومبيرغ إلى عدم تحديد ما إذا كانت إيران تعمدت إنتاج اليورانيوم بهذه النسبة المرتفعة، أم أن ذلك ناتج عن تراكم غير مقصود بسبب مشكلات تقنية في أجهزة الطرد المركزي، التي تستخدم في تخصيب اليورانيوم، غير أن التقديرات أكدت أن الوصول لتلك النسبة، حتى ولو كان غير مخطط له، إلا إنه يمثل تجاوزاً للخطوط الحمراء فيما يتعلق ببرنامج إيران النووي، بل وذهبت بعض الترجيحات للقول إن هذه النسبة كافية لإنتاج السلاح النووي، وذلك بالنظر إلى أن القنبلة الذرية التي ألقيت على مدينة هيروشيما اليابانية عام 1945، كانت مصنوعة من يورانيوم تم تخصيبه بنسبة 84% تقريباً.
2- نفي إيراني: سارعت إيران إلى نفي ما ورد في تقرير بلومبيرغ بشأن رفع نسبة تخصيب اليورانيوم إلى 84%، وذلك على لسان المتحدث الرسمي باسم وكالة الطاقة الذرية الإيرانية بهروز كمالوندي، والذي أكد أن إيران لا تحاول التخصيب أكثر من 60%، إلا أن هذا التصريح لا ينفي سعي إيران لامتلاك قنبلة نووية، فقد سبق وأن صرّح وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، أن بلاده تمتلك قدرات عالية في مجال الطاقة النووية، تؤهلها لإنتاج القنبلة النووية، وإن نفى سعيها لامتلاكها.
3- تحقيق الوكالة في صحة تلك المزاعم: أجرى مفتشون تابعون للوكالة الدولية للطاقة الذرية، زيارة إلى طهران، في 21 فبراير 2023، بهدف التحقق والتدقيق في صحة ما ورد في تقرير بلومبيرغ بشأن رفع إيران مستويات تخصيب اليورانيوم.
يأتي هذا بعد إقرار المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، رفائيل غروسي، بأنه على علم بما أورده التقرير، مشيراً إلى أن الوكالة تناقش مع إيران تلك النتائج، وأنه سيبلغ مجلس محافظي الوكالة، المقرر انعقاده في مارس الجاري، بالتفاصيل في هذا الشأن.
أهداف إيران
تسعى إيران من جراء تصعيدها النووي، إلى تحقيق عدد من الأهداف، يتمثل أبرزها في الآتي:
1- مواجهة الضغوط الغربية: يمثل التصعيد النووي الأخير الذي أشار إليه تقرير بلومبيرغ، الانتهاك النووي الثاني لإيران خلال فبراير 2023، وذلك بعد كشف تقرير سري للوكالة الدولية للطاقة الذرية، نُشر مطلع الشهر الجاري، عن إدخال تعديل جوهري على الربط بين سلسلتين من أجهزة الطرد المركزي لتخصيب اليورانيوم بنسبة تصل إلى 60% في محطة فوردو، دون إعلام الوكالة بذلك، وهو ما يؤشر على إصرار طهران على التصعيد بالورقة النووية، خاصة في الوقت الذي تتعرض فيه لضغوط وعقوبات متزايدة من جانب الغرب، وذلك على إثر القضايا الخلافية بينهما، وقد كان أحدث تلك العقوبات، ما فرضه مجلس الاتحاد الأوروبي، في 20 فبراير 2023، من عقوبات على 32 شخصاً؛ بينهم وزيران، وكيانين اثنيْن، لمسؤوليتهم عن قمع الاحتجاجات الأخيرة في إيران، وهي الحزمة الخامسة من العقوبات للاتحاد على طهران.
2- الرد على التهديدات الإسرائيلية: تستخدم طهران تصعيدها النووي في الرد على التهديدات الإسرائيلية ضدها، إذ إنه جاء بعد أيام من الهجوم على منشأة عسكرية تابعة لوزارة الدفاع الإيرانية في أصفهان، أواخر يناير 2023، وهو الهجوم الذي اتهمت إيران رسمياً إسرائيل بالوقوف وراءه.
وقد أعقب ذلك هجوم إيران على سفينة مملوكة لإسرائيلي في بحر العرب، وهو الحادث الذي أقر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بمسؤولية إيران عن تنفيذه. كما قامت إسرائيل بقصف مواقع تابعة لمليشيات إيرانية في العاصمة السورية، دمشق، في 19 فبراير 2023، وهو الهجوم الذي أسفر عن مقتل 15 شخصاً، وإصابة آخرين، وفق ما أفاد به المرصد السوري لحقوق الإنسان.
3- تحريك ملف المفاوضات النووية: تهدف طهران من جراء التصعيد في الملف النووي، إلى حلحلة الجمود الذي أصاب مسار المباحثات النووية مع الغرب، منذ سبتمبر 2022، إذ إنه بالتوازي مع ذلك التصعيد، فإن إيران ترسل إشارات بأنها لا تمانع في إحياء الاتفاق النووي، مشيرة إلى تبادل الرسائل مع واشنطن والغرب، من خلال وسطاء.
وتنسجم تلك التصريحات، مع الجهود التي يجريها الجانبان القطري والعراقي في التقريب بين وجهتي نظر واشنطن وطهران، حيث قام وزير الخارجية القطري بزيارة إلى طهران، أواخر يناير 2023، وأعقبها بزيارة أخرى إلى واشنطن، في 8 فبراير 2023، كما أجرى وزير الخارجية العراقي زيارة إلى واشنطن، في ذات اليوم، أعقبها زيارة من وزير الخارجية الإيراني إلى بغداد، في 20 من نفس الشهر، فيما يُؤشر على نقل فؤاد حسين رسائل من واشنطن إلى طهران.
خيارات إيرانية متوقعة
في ضوء ما سبق، يمكن استشراف عدد من الخيارات المتوقعة لإيران في هذا الصدد، والتي يمكن الإشارة إليها على النحو التالي:
1- مسار التصعيد: يستند هذا المسار على إصرار إيران على المضي قدماً في التصعيد النووي، ورفع معدلات تخصيب اليورانيوم، على أساس أن ذلك يمنحها القدرة على مواجهة الضغوط الغربية، خاصة خلال الفترة الأخيرة، إلا أن هذا الأمر من شأنه أن يجعل إيران عرضة لتنفيذ عمل عسكري ضدها، وذلك في ضوء التأكيد الأمريكي والإسرائيلي على عدم السماح لإيران بحيازة السلاح النووي، وأن ذلك من شأنه دفع الأمور إلى المواجهة العسكرية.
2- مسار التهدئة: يستند هذا المسار على أساس أن إيران قد تلجأ إلى التهدئة، وذلك في اعتبار أن تصعيدها النووي، قد يؤدي بها إلى أن يتم إصدار قرار من قبل مجلس محافظي الوكالة، المزمع عقده في مارس 2023، وذلك في حال ثبت تخصيب إيران اليورانيوم بتلك النسبة المرتفعة، وهو ما تخشاه إيران، على أساس أن قراراً كهذا من شأنه أن يحيل ملف إيران إلى مجلس الأمن، ما قد يعيد فرض العقوبات الأممية عليها مرة أخرى، وهو أمر لا تحبذه إيران في ضوء مطالبها برفع العقوبات المفروضة عليها بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي.
3- مسار التنازلات الجزئية: في ضوء الخبرة السابقة لإيران تجاه الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فإن إيران تتفادى التصعيد معها من خلال تقديم تنازل محدود للوكالة، وهو ما حدث بعدما أشارت الوكالة في تقرير لها صادر، في 8 سبتمبر 2021، إلى أن إيران تتعنت بشأن شرح آثار اليورانيوم المخصب الذي تم العثور عليه في مواقع غير معلنة، والوصول العاجل لبعض معدات المراقبة داخل منشآتها النووية، إذ توصلت وقتها إلى اتفاق يسمح لمفتشي الوكالة بصيانة أجهزة المراقبة في بعض المنشآت النووية الإيرانية، واستبدال بطاقة الذاكرة لهذه الأجهزة. وقد تكرر إيران هذا السيناريو، خاصة في ضوء تصريح عبد اللهيان بأنهم يخططون لزيارة لمدير الوكالة إلى طهران، مشيراً إلى وجود مبادرات مشتركة بين الجانبين على جدول الأعمال.
وفي التقدير، يمكن القول إن الإعلان عن وجود جزيئات يورانيوم مخصبة بنسبة 84% بمنشآت نووية إيرانية، حتى وإن كان من قبيل المصادفة، فهو تجاوز للخطوط الحمراء، الأمر الذي قد يؤدي إلى زيادة الضغط على طهران من جانب واشنطن والغرب باستصدار قرار من الوكالة الذرية، وذلك لقبول إيران بإحياء الاتفاق النووي، من دون الشروط التي تطالب بها، وإلا فسيكون البديل إحالة ملفها إلى مجلس الأمن، ومن ثم فرض العقوبات الدولية عليها، هذا إلى جانب أن هذا الكشف، قد يدفع إسرائيل لتنفيذ عمليات تخريبية ضد البرنامج النووي الإيراني والمنشآت الاستراتيجية داخل إيران، وذلك لحرمان إيران من الاستفادة من تعزيز ورقة الضغط النووية لديها.
كما يرجح أن تمضي طهران خلال المرحلة المقبلة في مسارين متوازيين، الأول هو مسار التصعيد من خلال تعزيز أوراق الضغط لديها، سواء النووي أو الصاروخي أو الإقليمي، والثاني هو تحريك ملف المفاوضات المتجمد، وإن أصرت على مواقفها المتعنتة السابقة.