أخذت العلوم السياسية، بما فيها العلاقات الدولية، الكثير من المفاهيم الاقتصادية القائمة على "المنافسة" في سوق تتمتع بالندرة من ناحية، وتفاعلات التبادل غير المتكافئ بالضرورة من ناحية أخرى. وفي الأسواق البدائية للإنسان، جاءت "المقايضة" Barter لكي تخلق سوقاً يتبادل فيه البشر سلعاً وبضائع وخدمات تحددها "الحاجة" لدى الأطراف المعنية، بحيث تحدد "قيمة" ما لدى كل طرف وعلى استعداد لتقديمه من دون استخدام وسيط النقود. وفيما بعد، جاءت النقود، سواء كانت من أنواع المعادن النفيسة مثل الذهب والفضة، أو بعدها العملات النقدية الورقية خاصة بعد فصلها عن قاعدة الذهب في عام 1971، حتى سريان التعامل مع بطاقات الائتمان على نطاق واسع.
وفي كل مرحلة من هذه المراحل، تصاعدت "قيمة" السوق الاقتصادية، وكبر حجم الفاعلين فيها من أفراد وشركات ودول وبنوك وأسواق مال متعددة الأشكال. وإذا كانت "القيمة" المالية هي المحددة للتفاعلات الاقتصادية، فإن "المصالح القومية" و"توازن القوى الشامل" هي المحدد لقيمة التبادل في سوق السياسة الدولية، وبهذه الصفة فإنها تتوقف على تقدير الطرف المعني في التفاعل، وعلى موقعه من المسافة الكبيرة والفارقة بين الدول، بشأن الاستعداد لاستخدام العنف والدخول في حرب في ناحية، والتعاون والتكامل وحتى الوحدة من ناحية أخرى. وفي هذه الحالة، فإنه لا يوجد الوسيط المالي في القيمة والذي له صفة محايدة في قياس أهمية الحصول على السلعة أو الخدمة في الاقتصاد، ولكن ما هو موجود مدى ما تكون الدولة على استعداد للتضحية به من البشر والتكاليف ال عسكرية للحرب وكذلك شرعية القيادة السياسية.
بين "المقايضة" و"المساومة":
جرت الحرب الحالية بين روسيا وأوكرانيا بين طرفين غير متكافئين من حيث القوة الاقتصادية والعسكرية، ومن ثم فإن "المقايضة" التي كانت تتوقعها موسكو لكي تمنع نشوب هذه الحرب هي تخلي كييف تماماً عن الرغبة في الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي "الناتو" والاتحاد الأوروبي، والتخلي الكامل عن إقليم "الدونباس"، والتخلي عن أية نية لامتلاك السلاح النووي. ولكن أوكرانيا، من ناحيتها، رأت في كل ذلك أمراً من أمور السيادة التي لها حقوق فيها.
وما نتج عن هذه المعادلة المتطرفة هو انتهاء "سوق المقايضة"، ولجوء روسيا إلى التدخل العسكري المباشر لرفع قيمة مصالحها الخاصة. وفي المقابل، فإن موقف الولايات المتحدة وحلف "الناتو" والاتحاد الأوروبي، رفع الكثير من قيمة المصالح الأوكرانية، خاصة مع استعداد النخبة السياسية للقتال. وكانت الحرب هي البديل للحديث عن "مقايضة" تضع ميزاناً مقبولاً لمصالح مختلفة وغير متكافئة؛ فالأصل في "المقايضة" أنها تعطي لكل طرف نسبته في توازن القوى، بحيث يشعر أنه قد حصل على ما يستحقه، وفي غياب تحديد هذه النسب يكون البديل هو الحرب.
و"المقايضة" بين الدول هي صورة من صور التفاوض في واقع متحرك ومتغير بشدة، وبينها وبين "المفاوضات"، مفهوم ثالث هو "المساومة" Bargaining والتي هي مثل المفاوضات فيها تفاعلات سلمية عن طريق المُراسلات أو التفاعل المباشر بين الدبلوماسيين أو الشخصيات المسؤولة في الدول. وما حدث في الأزمة الأوكرانية أن مساومات جرت بالفعل أحياناً بطريق مباشر وعلى خطوط النار بين روسيا وأوكرانيا، أو من خلال طرف ثالث وسيط مثل تركيا وإسرائيل والأمم المتحدة. وهكذا كان على أرض الواقع نوعان من "المساومة"؛ أولها "ساخن" Hot Bargaining وفيه تقوم القوة المسلحة المباشرة برفع قيمة مصالح طرف، وتخفيض قيمة مصالح الطرف الآخر. وثانيهما "ناعم" Soft Bargaining تُستخدم فيه الدبلوماسية، والحجج القانونية، والتصويت في الأمم المتحدة، وإضافة نفوذ حلفاء مثل الصين في الحالة الروسية، و"الناتو" والولايات المتحدة ذاتها في الحالة الأوكرانية.
وقد غيّر "حصاد الساخن والناعم من المساومة"، بعضاً من تعريف الأزمة الأوكرانية ومعها مصالح كل طرف، بحيث خلقت أرضية للمقايضة التي اقترحها هنري كيسنجر؛ وهو أن تتنازل أوكرانيا لروسيا عن إقليم "الدونباس" مع بقائها محايدة بين روسيا وحلف "الناتو"، مقابل بقاء الدولة الأوكرانية في حدود أقل مما كانت عليه قبل الحرب، وربما إعطائها تسهيلات أو انضمام للاتحاد الأوروبي. ولكن هذه الصيغة للمقايضة وجدت رفضاً من الولايات المتحدة و"الناتو"، وعلى العكس جرى رفع قيمة المساعدات العسكرية الغربية لأوكرانيا، بحيث تستمر في الحرب إلى الدرجة التي يحدث فيها ضعف كبير في الجانب الروسي.
"صفقات" عديدة:
إن "سوق العلاقات الدولية" في حالة الحرب أو المواجهات العسكرية، تشبه كثيراً السوق الاقتصادية في حالة "الكساد الكبير"، حيث تكون لها نتائج غير مقصودة أو متوقعة، ويمكنها أن تؤثر على مصالح تحالفات ودول وأقاليم أخرى في العالم وليس لها في الصراع الجاري "لا ناقة ولا جمل". وفي هذا الإطار، تسببت الحرب الروسية - الأوكرانية في التأثير السلبي على "الأمن الأوروبي"، وخلقت أزمة في الطاقة والغذاء والمعادن النادرة، وفي سلاسل الإمداد والتوريد، بحيث أوجدت في النهاية أسواقاً أخرى للمقايضة ليس لها علاقة بسلم مصالح أطراف الأزمة الرئيسية.
وبالنسبة للأمن الأوروبي، فإن الحرب الجارية أدت إلى إعادة تقييم دول مثل فنلندا والسويد لمصالحها القومية، بحيث طلبت الانضمام إلى حلف "الناتو"، وهو ما خلق حالة من المقايضة بين روسيا وفنلندا والسويد؛ وهي ألا تهاجم موسكو الدولتين عسكرياً مقابل عدم وضع أسلحة ثقيلة للحلف على الحدود مع روسيا. ومن جانب آخر، حدثت أزمة بين فنلندا والسويد من جانب، وتركيا بصفتها عضواً في "الناتو" من جانب آخر؛ لأن أنقرة اعتبرت الدولتين من المؤيدين للإرهاب نتيجة استضافتهما عناصر من حزب العمال الكردستاني الذي تعده تركيا من المنظمات الإرهابية. و"صفقة" المقايضة هنا أن تكف فنلندا والسويد عن استضافة المزيد من عناصر هذا الحزب، وأن تُقيد حركة أنصاره سياسياً واقتصادياً وعسكرياً؛ مقابل رفع تركيا خطر "الفيتو" على دخولهما إلى "الناتو".
كما تولدت "صفقات" تقوم على "المقايضة" في مجالات الطاقة والغذاء، حيث سعت دول أوروبية إلى تعويض نقص النفط والغاز الروسي عن طريق شرائه من دول أخرى عبر الأطلنطي وجنوب وشرق البحر المتوسط. وتسهيل تحقيق ذلك جاء من مقايضات جانبية، حيث سهلت روسيا مثلاً خروج القمح الأوكراني إلى بولندا لكي يتم نقله إلى مصر في ظل تبني الأخيرة موقفاً مرناً قائماً على رفض "التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا"، وفي نفس الوقت انتقاد العقوبات الاقتصادية الغربية ضد موسكو؛ وهذا موقف اتبعته كثير من الدول التي حاولت التقليل من الآثار السلبية للحرب الأوكرانية على مصالحها القومية.
أيضاً، تسعى إسرائيل لتعزيز علاقاتها مع دول القارة الأفريقية، وفقاً لمبدأ "الأمن الغذائي مقابل التنسيق في الحرب ضد الإرهاب والتعاون في التكنولوجيا الفائقة"، وذلك حسب ما أعلنه وزير الخارجية الإسرائيلي، يائير لابيد، خلال مؤتمر عبر الفيديو نظمته السفارة الإسرائيلية في باريس، يوم 31 مايو 2022.
حالات إقليمية:
عرف الشرق الأوسط كثيراً من حالات "المقايضة"، وما كانت معاهدات السلام بين إسرائيل ومصر والأردن، ومؤخراً فيما عُرف باتفاقات السلام الإبراهيمي مع دولة الإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب والسودان، إلا مقايضات أخذت أحياناً شكلاً مباشراً هي "الأرض المُحتلة مقابل السلام". وفي أحيان أخرى، جاء السلام مقابل المساندة في قضية حيوية واستراتيجية، فربما كان مع الإمارات والبحرين مقابل موقف مشترك من إيران التي تُعادي كلاهما وتستخدم القوة العسكرية ضدهما؛ ومع السودان كان السلام مقابل خروج الخرطوم من قائمة الدول الراعية الإرهاب؛ والمغرب مقابل الاعتراف الأمريكي والإسرائيلي بشرعية ضم الصحراء الجنوبية للمغرب.
وهذا الإطار العام لصفقات "المقايضة" كثيراً ما احتوى على مكون اقتصادي تجري فيه الممارسة وفقاً للقواعد الاقتصادية للتجارة والتكنولوجيا. وفي تسعينيات القرن الماضي، جرت المفاوضات العربية -الإسرائيلية في إطارين؛ "إطار مباشر" بين إسرائيل وكل من سوريا ولبنان والسلطة الوطنية الفلسطينية في الموضوعات ذات الصلة بينهم، و"إطار غير مباشر" عُرف بالمفاوضات متعددة الأطراف التي شاركت فيها 40 دولة في المنطقة وخارجها في مجالات الاقتصاد، والحد من التسلح، والمياه، والبيئة، واللاجئين. وكانت النظرية وقتها أن "المقايضة" في المجالات غير المباشرة يمكن أن تنعكس بطريقة إيجابية في تسهيل المفاوضات والمقايضات المباشرة. وما حدث فعلياً أن فشل المقايضات المباشرة أدى إلى الإطاحة بالمقايضات غير المباشرة التي نجحت في إحراز بعض التقدم في العلاقات العربية - الإسرائيلية.
و"المقايضات" المُشار إليها أعلاه قِيست قيمة مكوناتها حسب أهمية كل موضوع للطرف المعني، وفي ذلك نوع من النسبية التي تختلف في النوع والدرجة عما يحدث في السوق الاقتصادية التي يتوحد فيها مقياس القيمة النقدية بالدولار في أغلب الأحوال. والمثال على ذلك، المفاوضات الإسرائيلية – الفلسطينية، حيث جرت حروب عديدة في مواجهة الانتفاضات الفلسطينية، وفي غزة وحدها جرت 4 حروب كانت "المقايضة" تحدث حول وقف إطلاق النار، أو إطلاق الصواريخ، أو وقف الانتفاضة، مقابل تقديم إسرائيل الانسحاب من أراضٍ فلسطينية، أو السماح بتسهيلات للفلسطينيين في الحركة أو البناء أو الصيد. وكل هذه لا يوجد فيها الكثير من التماثل والمساواة ما لم نأخذ التقييم الذاتي للقيمة من قِبل المتحاربين. فعلى سبيل المثال، فإن الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين وكثيراً ما يتم الإفراج عن كل واحد منهم ("جلعاد شاليط" مثلاً)، يقابله الإفراج عن عشرات أو مئات من الفلسطينيين المُعتقلين في السجون الإسرائيلية.
في الختام، يمكن القول إن "المقايضة" في العلاقات الدولية هي من أدوات حل النزاع وتوفير ظروف لتسوية الصراعات، ولكن إشكالياتها الكبرى أن قيمتها مُتغيرة مع تغير "توازن القوى". إذ إن مبدأ "الأرض مقابل السلام" كان دائماً من لافتات "عملية السلام" بين العرب والإسرائيليين، ولكن ارتفاع قدر القوة الإسرائيلية مقابل الانقسام الفلسطيني بين الضفة الغربية وقطاع غزة، جعل "المقايضة" هنا مستحيلة. وفي الحرب الأوكرانية الراهنة، فإن تسليح حلف "الناتو" لأوكرانيا، وسيطرة روسيا على طاقة أوروبا؛ جعل "المقايضة" مؤجلة حتى يكون هناك توازن.