تشكل الحروب الرقمية والحروب الإعلامية الركائز الأساسية "للتهديدات الهجينة" التي تصاعدت وتيرتها، لاسيما بعد احتدام الصراع الدولي بين الدول الغربية وكل من روسيا والصين، والذي بلغ ذروته وجسدته الأزمة الأوكرانية الحالية. وقد امتدت مسارح الحروب الهجينة لتشمل العالم بأكمله وفي القلب منه أفريقيا.
فقد أكد معهد الدراسات الأمنية في جنوب أفريقيا، أن أفريقيا أصبحت مسرحاً للتهديدات الهجينة، ومن أهم أمثلتها مزاعم الحملات والروايات الإعلامية، المدعومة من دول خارجية، والمصممة بعناية لهندسة الانقسامات السياسية في الدول الأفريقية وعلى رأسها مالي وافريقيا الوسطى وبوركينا فاسو، وهي الدول التي تعاني من تزايد مخاطر الجماعات الإرهابية العنيفة وأضيف لها التهديدات غير التقليدية النابعة من الحروب الهجينة. والتي كان منها أيضا توجيه هجمات إلكترونية على منظمات الإغاثة الإنسانية، مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
كما أن استخدام الطائرات من دون طيار كأسلحة فعالة في مناطق الصراعات بالقرن الأفريقي والساحل وموزمبيق، من قبل كل من الجماعات المسلحة العنيفة أو الجهات الحكومية أو وكلائها، يشير أيضاً إلى مخاطر هذا الاتجاه الناشئ الذي تمثله الحروب الهجينة في الواقع الأفريقي.
يحاول هذا المقال تحديد مفهوم الحروب الهجينة التي لاتزال تمثل، على الرغم من شيوع استخدامها، مفهوماً مراوغاً يصعب الإمساك به، والوقوف على مخاطر التهديدات الهجينة على الاستقرار والأمن في أفريقيا، وأخيراً الدروس المستفادة.
نهج رمادي:
لقد أعادت الحرب الأوكرانية الروسية الاعتبار للنقاش الدائر في حقل العلاقات الدولية عن مفهوم الحروب الهجينة، والذي تم استخدامه منذ بداية القرن بمعان متعددة. وهو المفهوم الذي اكتسب زخماً كبيراً بعد قيام الولايات المتحدة والدول الغربية بفرض عقوبات على موسكو، وانتشار الروايات المتضاربة على وسائل التواصل الاجتماعي حول جرائم الحرب المزعومة في أوكرانيا، وذلك في الوقت الذي يظل فيه الموقف الأفريقي من الحرب منقسماً بشدة كما ظهر في التصويت الأممي على قرار إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا.
فقد أصبحت الحرب الهجينة خياراً مفضلاً لإدارة فن الحكم، الذي يستبطن أهدافاً خبيثة غير أخلاقية في المنطقة الرمادية بين السلام والحرب. وأصبحت مهاجمة نقاط ضعف الخصوم، خاصة المرتبطة بشبكات الطاقة الوطنية، والبنية التحتية الحيوية، اتجاهاً دولياً متزايداً.
ظهر مفهوم "الحرب الهجينة" لأول مرة، في بداية القرن واحتل مكانة بارزة في أدبيات الصراع بعد ضم روسيا شبه جزيرة القرم في عام 2014. وعادة ما يشار للمفهوم باعتباره "شكلاً من أشكال الحرب، يتميز بخلط القوى والتكتيكات التقليدية وغير التقليدية من أجل تحقيق أهداف استراتيجية"؛ وهو أيضاً نمط من الحرب يمكن أن تقوم به جهات فاعلة من دون الدول. ومن تداعيات هذا التهجين، ما أشار له الجنرال فاليري جيراسيموف، رئيس هيئة الأركان العامة الروسية، "أن التمييز بين الحرب والسلام يزداد غيوماً في العصر الحديث".
ويقول ويليام نيميث إن الحرب الهجينة هي "تلك الحرب التي تستخدم مجموعة واسعة من التدابير العسكرية وشبه العسكرية والمدنية بشكل علني وسري في تصميم متكامل للغاية، حيث يحاول الخصم التأثير على صانعي القرار المؤثرين وصانعي القرار الرئيسيين من خلال الجمع بين العمليات الحركية والجهود التخريبية. وغالباً ما يلجأ المعتدي إلى الأعمال السرية لتجنب المسؤولية والعقاب".
وعليه فإن الهجوم الهجين يشير إلى استخدام الأساليب غير التقليدية كجزء من نهج الحرب متعدد المجالات وذلك بهدف شل حركة الخصم من دون الانخراط في أعمال عدائية مفتوحة. ومما يزيد من خطورة هذه التهديدات المختلطة أنها ترتبط بشكل شائع بالإرهاب والجريمة المنظمة والقوى المتطرفة داخل المجتمع.
ويعتبر كثيرون أن الحرب الهجينة تم تبنيها من قبل جهات دولية فاعلة، رداً على التفوق العسكري التقليدي الغربي. وقد حققت الحرب الهجينة بالفعل نجاحات كبيرة في مجال السياسة. وقد أدى ذلك إلى حديث المحللين عن ظهور مجموعة كبيرة من "التهديدات الهجينة" الجديدة قد ظهرت إلى عوالم الصراعات المتعددة، منها استخدام الفضاء الإلكتروني باعتباره من الأدوات الصراعية، وهو ما يعني رقمنة الحروب.
وبذلك أضحت الحرب الهجينة تمثل تغييراً جوهرياً في ماهية وطبيعة الحرب التي استندت إلى نظرية كارل فون كلاوزفيتز لفترة زمنية طويلة.
أنماط أفريقية:
يمكن تحديد ثلاثة مجالات أساسية للتهديد الهجين في الواقع الأفريقي:
1. إشكالية الوصول إلى المعلومات ووسائل التواصل الاجتماعي: تُظهر خبرة الممارسة العملية أن العديد من المواقع الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي تعمل كمصادر لبث الأخبار المزيفة ونظريات المؤامرة، وتضلل المستخدمين من خلال المعلومات الكاذبة، وتقوية التفكير بالتمني، والأفكار المسبقة والمفاهيم الخاطئة التي تنتشر بسرعة مذهلة.
وقد أظهرت الحروب الأهلية في ليبيا وأثيوبيا، على سبيل المثال، دور التضليل الإعلامي، ونشر المعلومات الكاذبة على وسائل التواصل الاجتماعي، في بث روح الانقسام والفرقة المجتمعية. كما تستخدم الجماعات الإرهابية، مثل الشباب المجاهدين في الصومال، الفضاء الإلكتروني لبث الشائعات التي تفيد بأن أشخاصاً يُقتلون عمداً في مرافق الرعاية الصحية أو يُصابون هناك عن عمد بالمرض من قبل عملاء الحكومة لتعبئة الرأي العام.
وقد كشف المجلس الأطلنطي في فبراير 2022، عن حملة منسقة بعناية وبدعم من روسيا عبر الإنترنت موجهة لمالي، وكان هدفها، وفقاً للباحثين، إثارة المشاعر المعادية للغرب، وتقويض بناء الديمقراطية من خلال حشد الدعم الشعبي نحو حكومة الرئيس المؤقت، عاصمي غوتا، والجيش المالي في أعقاب انقلاب مايو 2021. وتزامن ذلك مع الوقت الذي كانت تستعد فيه فرنسا للإعلان عن سحب قواتها من مالي. وقد روجت المنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي لخطاب شعبوي مؤيد للمجلس العسكري الانتقالي في مالي، كما أيدت وصول مجموعة فاغنر المدعومة من الكرملين قبل نشرها في مالي.
ومن جانبها، استخدمت القوى الغربية أيضاً تكتيكات هجينة للتأثيرعلى المنطقة. ففي عام 2020، أزال فيس بوك منشورات صادرة من حسابات مزيفة في فرنسا والتي كانت تروج لخطاب عدائي ضد روسيا. ولم تكن مالي وحدها ضحية هذه الحروب المعلوماتية الهجينة، وإنما انجرفت دول أخرى مثل بوركينا فاسو وأفريقيا الوسطى لتصبح ضحية للحرب بالوكالة بين الشرق والغرب.
2. استغلال الثغرات في قدرات الدولة: من المرجح أن الافتقار إلى وظائف محددة للدولة يفتح فرصاً واسعة للتأثير والتدخل. ففي جمهورية أفريقيا الوسطى، أتاح ضعف الأجهزة الأمنية الفرصة أمام روسيا لتتمتع بنفوذ كبير في البلاد من خلال قطاعات الاستخبارات والأمن والدفاع.
وهي ليست الحالة الفريدة، فخلال "الهجوم على فندق في نيروبي عام 2019 ظهر مدربون ذوو ملامح قوقازية في صور فرق الاستجابة التي تم نشرها بعد ذلك، مما دعم الحجج القائلة بأن أجهزة الأمن الكينية تعتمد بشدة على مقاولين أو مستشارين من دول مثل إسرائيل والمملكة المتحدة.
وتوجد هذه الفجوات في الخبرة في مختلف القطاعات، وذلك في الوقت الذي أصبحت فيه الحاجة ملحة لتطوير البنية التحتية وشبكات الطاقة وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات السلكية واللاسلكية، مما يوفر مداخل متعددة للوصول إلى المعلومات والبنية التحتية الحيوية للجهات الحكومية من قبل القوى الخارجية.
ومن الأمثلة على ذلك الهجوم الذي حدث في منتصف نوفمبر عام 2021، الذي استهدف محطتين استراتيجيتين لتوليد الطاقة في جنوب أفريقيا مما أدى إلى تجدد نوبات انقطاع التيار الكهربائي في البلاد. وبعد التحقيقات أصدر الرئيس التنفيذي لشركة اسكوم بياناً قال فيه إن هناك أدلة على حدوث تخريب، وعليه يمكن تصنيف هذه الحادثة داخل نطاق التهديدات الهجينة - أو بشكل أكثر ملاءمة، الهجمات الهجينة.
وتساوي بعض التفسيرات بين سوء الإدارة والفساد والإرهاب المحلي. ومن ثم فقد يكون المصدر الآخر المحتمل للهجوم أولئك الذين يسعون وراء المصالح التجارية الكبيرة في سوق الطاقة المتجددة المتنامي في جنوب أفريقيا. على سبيل المثال، ستستفيد دولة مثل الصين، وهي أكبر مصنع ومنتج للألواح الشمسية، بشكل كبير من ازدهار سوق الطاقة المتجددة في جنوب أفريقيا بعد زعزعة استقرار شركة اسكوم لإنتاج الكهرباء.
وفي السياق ذاته يشير تقرير صدر مؤخراً عن الإنتربول إلى ارتفاع حاد في هجمات البنية التحتية الحيوية - بما في ذلك البنوك والموانئ والمستشفيات والوزارات الحكومية. ويستشهد الإنتربول بأوغندا ونيجيريا وجنوب أفريقيا وموزمبيق كدول مستهدفة.
3. الفساد وأعمال السمسرة المزيفة. إن مشاريع البنية التحتية الضخمة في أفريقيا - التي تمولها وتنفذها بشكل رئيسي الشركات الأجنبية والقروض الأجنبية - معرضة بشدة للفساد وسوء الإدارة، غير أنها، بفضل حجمها، تشكل تحدياً مباشراً للدول الأفريقية ويوقعها في فخ الديون. فعلى سبيل المثال، يعتبر البعض أن الصين قد عرضت عن عمد قروضاً ضخمة على زامبيا، وهي تدرك تماماً أن لوساكا لن تكون قادرة على سدادها، مما يمكن بكين من الاستيلاء على إدارة مطار كينيث كاوندا الدولي في حالة العجز عن السداد. ويمكن الإشارة إلى حالات مماثلة في حالة ميناء مومباسا الكيني، وهو البوابة التجارية الرئيسية لشرق أفريقيا. كما أن احتكار قطاعات الاتصالات - مثل الدور الحصري لشركة زد تي إي كوربوريشن، وهواوي، وشركة الصين للاتصالات السلكية واللاسلكية في إيثيو تيليكوم الأثيوبية- يجعل هذه الأطراف الخارجية (الصين) تمارس نفوذاً غير محدود تقريباً في البلدان المتضررة.
دروس مستفادة
بالإضافة إلى ما ذكر سابقاً، فإن الوصول إلى التقنيات المتقدمة، وانتشار الأسلحة والاستخدام المبتكر للأسلحة التقليدية (مثل الطائرات من دون طيار) إلى جانب صعوبات إسناد المسؤولية عند حدوث أي هجوم، يشكل التحدي الأكبر في النزاعات المستقبلية، ويصعب من تحديد استجابات مناسبة ضد خصم غير محدد. لقد أدى تطور قطاع تكنولوجيا المعلومات والاختراق المتزايد للاتصالات السلكية واللاسلكية في الإدارة والتمويل، إلى جعل عالم الإنترنت للجهات الفاعلة الأفريقية أكثرعرضة للخطر من أي وقت مضى. ومع كل ما سبق فإن التهديدات الهجينة ليست مجرد ظاهرة سلبية في القارة الأفريقية.
إن قيام العديد من الجهات الفاعلة باستخدام الحرب الهجينة كجزء من أدواتها غير المتكافئة باعتبارها عمليات مؤثرة، بدلاً من صراع عسكري مفتوح، يساعد على تقليل مستوى العنف وعدد الضحايا - على الأقل على المدى القصير. وهذا يترك مساحة أكبر للمفاوضات ومجالاً للمناورة لمختلف الجهات الفاعلة. وربما يبدو ذلك أكثر وضوحاً إذا قارنا هذا النهج بالمراحل التاريخية المختلفة للحروب والصراعات الأفريقية العنيفة، بينما أدت التدخلات الخارجية في القرنين التاسع عشر والعشرين إلى عنف ممتد وموت الملايين، كانت النزاعات في العقود الأخيرة منخفضة الحدة نوعاً ما، أكثر تطوراً وأقل دموية. ومع ذلك، فإن الآثار طويلة المدى للحرب الهجينة ربما تكون أكثر تدميراً بسبب تقويض قدرة الحكومة والمجتمع على الصمود أمام هذه التحديات التي يفرضها عالم ما بعد الحقيقة.
لقد أضحت الحرب الهجينة تجمعاً بين الأشكال التقليدية للنزاع المسلح والأدوات الاستراتيجية الأخرى التي تشمل العمليات المعلوماتية للتأثيرعلى الأحداث وتخريبها أو إعادة تأطيرها. كما أنها تنطوي على هجمات إلكترونية تستهدف أجهزة الكمبيوتر بشكل مباشر أو تستخدم الإنترنت لتنفيذ جرائم تقليدية، مثل الابتزاز والاحتيال. في جميع أنحاء أفريقيا، يتم نشر الأسلحة الهجينة في أوقات الصراع والسلام، مما يقوض مفاهيم دولة النظام والقانون. كما يتم استخدامها لجمع الأموال للمؤسسات الإرهابية أو الإجرامية. وعلى أية حال فإن التهديد الناشئ في القارة من استخدام الهجوم السيبراني وحرب المعلومات المزيفة من قبل كيانات الدولة ووكلائها وخصومها على السواء للحصول على مزايا جيواستراتيجية يجعل صراعات المستقبل أمراً بالغ التعقيد والتشابك. وعلى سبيل المثال، فإن انتشار تكنولوجيا الطائرات من دون طيار عبر أفريقيا يمثل مظهراً مهماً من مظاهر التهديد الهجين. إذ إن عمليات التحكم عن بعد في أماكن مثل إثيوبيا ودول الساحل تخاطر باستخدامها لتسوية النزاعات المحلية في غياب تدابير رقابية صارمة.
تحتاج الدول الأفريقية إلى دراسة هذه الأحداث والتطورات والتعلم منها وتصنيفها بشكل صحيح ضمن النظرية والممارسة المتزايدة للحرب الهجينة. ربما تبدو هذه التهديدات الهجينة بعيدة أو تمثل ترفاً فكرياً في نظر البعض نظراً للاحتياجات الإنسانية الملحة للقارة، لكن العواقب بالنسبة للأمن الإنساني بالغة الخطورة، وقد يتجاهلها صانعو السياسات. سيمكن الوعي بهذا التطور في حروب الجيل الرابع والتهديدات الهجينة الدول الأفريقية من صياغة الاستجابات المناسبة بناءً على الممارسات الدولية في بناء القدرة على الصمود.
كما أنه سيساعد الأفارقة على تجنب الاستجابات التي قد تؤدي إلى مزيد من زعزعة الاستقرار في الاقتصاد والمجتمع. علاوة على ذلك كله رسم صيغ استراتيجية لعدم وقوع أفريقيا فريسة شكل جديد من أشكال الحرب الباردة والحروب بالوكالة في ظل تعقيدات العالم السيبراني.