عرض: هند سمير
باتت الولايات المتحدة متأخرة عن اللحاق بالدول الكبرى الأخرى، كالصين، في استخدام العملات الرقمية للبنك المركزي CBDC، وهو ما يمكن أن يؤثر على ريادتها العالمية في مجال السياسة النقدية وغيرها من المجالات. في هذا الإطار، تأتي أهمية ورقة بحثية أصدرها مركز بليفور للدراسات الدولية مؤخراً لكل من سارة سيويل ومينغ ليو حول "الجغرافيا السياسية للعملة الرقمية"، إذ يناقشان التطورات الحديثة في العملات وأثرها على السياسة النقدية للولايات المتحدة الأمريكية في الداخل والخارج.
وتعد العملات الرقمية للبنوك المركزية التي تصدرها الحكومات ابتكاراً جديداً، لكن هنا يجب عدم الخلط بين العملات الرقمية للبنوك المركزية، والعملات المشفرة الخاصة مثل البيتكوين Bitcoin (التي تم إطلاقها في عام 2009) أو إيثيريوم Ethereum. مع ذلك، فإن الشعبية المتزايدة للعملات المشفرة والمخاوف بشأن مخاطر انتشارها دفعت الحكومات إلى النظر في العملة الرقمية الوطنية، لتصبح بديلا آمناً وخاضعاً للرقابة الحكومية في الوقت نفسه.
آثار مالية وأمنية:
على الرغم من قرار الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي ووزارة الخزانة والكونغرس الأمريكي بالموافقة على استخدام العملات الرقمية، كعملة قانونية معترف بها، ويمكن للأفراد التعامل بها، فإن هذه الكيانات تركز بشكلٍ رئيسي على قضايا السياسة المحلية، مثل التأثير المحتمل لهذا القرار على الاستقرار المالي للولايات المتحدة أو كيفية توسيع وصول الجمهور إلى الخدمات المالية المتاحة. في حين لم تشكل الآثار المترتبة لاستخدام تلك العملات الرقمية على الأمن القومي أهمية لواضعي السياسات في الولايات المتحدة، في الوقت الذي ينبغي أن تكون فيه كذلك.
فالعملة الرقمية هي بمنزلة بيانات، ومع انتقالها ستنتقل أيضاً هذه البيانات عبر الحدود الدولية، مما قد يكشف عن معلومات تضر بالمصالح الفردية أو الوطنية أو بمصالح الشركات. ويمكن للولايات المتحدة – بحسب سارة ومينغ - أن تلعب دوراً حاسماً في تعزيز التقنيات التي تحمي هذه البيانات، أو بمعنى آخر دعم معايير الأمان والخصوصية مع الحفاظ على قابلية التدقيق بشكلٍ قانوني في عالم يقوم على اقتصاد رقمي بالكامل، إلا أن واشنطن تتخلف عن الدول الأخرى في أخذ النقود الرقمية للبنك المركزي على محمل الجد.
في المقابل، تعمل الصين على إنشاء عملة رقمية للبنك المركزي منذ ما يقرب من عقد من الزمان. وستكون الأولى من بين الاقتصادات الكبرى في العالم، التي تنشر على نطاق واسع عملة رقمية للبنك المركزية للبيع بالتجزئة. وبناءً على ذلك، ستصبح الصين في وضع جيد يمكِّنها من تشكيل المعايير والعمليات العالمية التي تحكم هذا التحول المالي، والتي يمكن أن تؤدي إلى نتائج تتجاوز خصوصية البيانات وأمانها.
وتؤكد سارة ومينغ أن عمليات تبادل المدفوعات العالمية الجديدة قد تؤدي إلى إضعاف مكانة العناصر المكونة للنظام المالي الدولي، والذي يعزز القوة المالية للولايات المتحدة ويساعد في الحفاظ على قواعد السلوك الدولي. ولعل أبرز هذه العناصر، هو خدمة الرسائل SWIFT، والتي تسهل حركة الأموال عبر الحدود الدولية، بالإضافة إلى أنها تعد عنصراً أساسياً في نظام العقوبات المالية الأمريكية. من هذا المنطلق ستكون القيادة الأمريكية مُطالبة بتكييف الأنظمة المالية الدولية مع تقنيات العملات الرقمية للبنك المركزي CBDC، دون المساس بمصالح الولايات المتحدة، وهو ما يتطلب مشاركة أمريكية أكبر في تطوير المعايير العالمية وعمليات الدفع عبر الحدود.
التأثيرات الجيوسياسية:
العملات الرقمية للبنوك المركزية هي "شكل رقمي من النقود الإلزامية للبنك المركزي Fiat Money ولها قوة إبراء"، ويمكن الوصول إليها على نطاق واسع، ويتم إصدارها وتنظيمها من قبل السلطة النقدية المختصة في الدولة (البنك المركزي)، وتختلف العملات الرقمية للبنك المركزي للبيع بالتجزئة عن عمليات تحويل العملات الإلكترونية الحالية. فالأولى مُتاحة للاستخدام من قبل عامة الناس، ولا يتم استخدامها في حالة الخدمات "بالجملة" للمؤسسات المالية الخاصة.
ويمكن للعملات الرقمية الوطنية أيضاً أن تخلق خيارات جديدة للبنوك المركزية، على عكس النقود الإلزامية، حيث تتم برمجتها لأداء وظائف محددة مسبقاً مثل، المساعدة في تنفيذ سياسة نقدية معينة. على سبيل المثال، قد تستطيع البنوك المركزية استخدام العملات الرقمية الخاصة بها لتقديم مدفوعات حكومية مباشرة للمواطنين أو إنشاء حوافز للمدخرات الخاصة أو الإنفاق بسرعة وكفاءة عالية.
على الجانب الآخر، قد تعطل هذه العملات عناصر النظام المالي الدولي الذي طالما أفاد الولايات المتحدة بشكلٍ كبير وعزز نفوذها العالمي، ويوفِّر "الدولار" باعتباره العملة الاحتياطية للولايات المتحدة الأمريكية مزايا استراتيجية، ومنها انخفاض تكاليف الاقتراض، والاستفادة من المعايير العالمية من خلال إنفاذ العقوبات. لذلك تخلق العملات الرقمية للبنوك المركزية فرصاً للدول التي ترغب في تحدي الوضع الراهن.
على سبيل المثال، تمكن الرقمنة الحكومة من توسيع استخدام الدول الأخرى لعملتها خارج حدودها، حيث إن التسوية في الوقت الفعلي تستلزم الاعتماد على أطراف ثالثة مثل، شركات بطاقات الائتمان أو SWIFT أو منصات الدفع عبر الهاتف المحمول. بدلاً من تبادل العملات الأجنبية في شكل مادي، والتي يمكن الوصول إليها بسهولة من خلال تطبيقات الدفع عبر الهاتف المحمول المرتبطة، الأمر الذي يثير أيضاً تساؤلات حول وصول الأجانب إلى البيانات المالية للمواطنين. بالإضافة إلى ذلك، فمن خلال استخدام العملات الرقمية للبنوك المركزية لإنشاء أنظمة دفع محلية جديدة عبر الحدود، يمكن للحكومات تعزيز الاعتماد التجاري على عملات البنوك المركزية الرقمية الخاصة بها.
أيضاً، تقود الدول التي تتبنى هذا الابتكار المالي تطوير المعايير الدولية التي تحكم تلك التقنيات، مما يثير تساؤلات حول ما إذا كان بإمكان الولايات المتحدة توجيه انتقال المجتمع العالمي إلى عملات البنوك المركزية الرقمية في الوقت الذي تعد الصين الرائدة في هذا المجال. وترى الصين أن العملة الرقمية الوطنية هي أداة للتخلص من المكانة العالمية للدولار الأمريكي، لذلك من المرجح أن تركز على ضمان التوافق الدولي مع عملتها الرقمية للبنوك المركزية وتعزيز الاعتماد على عملتها الوطنية.
اليوان الصيني الإلكتروني:
بعد سنوات قليلة من قيام بنك الشعب الصيني (البنك المركزي الصيني PBOC) - بتشكيل مجموعة وطنية لأبحاث العملة الرقمية في عام 2014، طرح محافظ البنك علانية إمكانية وجود عملة رقمية صينية (Digital Token) على أساس "نموذج أولي من الجيل الأول من العملة الإلزامية الرقمية". بحلول أواخر عام 2017، بدأ هذا البنك العمل مع المؤسسات التجارية لتطوير واختبار اليوان الصيني الجديد للبيع بالتجزئة للقطاع التجاري، وتقول الصين إنه سيتم تعزيز عملات البنوك المركزية الرقمية الخاصة بها (e-CNY) بشكل متكرر بناء على ردود الأفعال من البرامج التجريبية.
في يناير 2021، بدأت الصين برنامجاً تجريبياً في مدن مختارة لتمكين الاستخدام العام عملات البنوك المركزية الرقمية الخاصة بها، ثم وسعت النطاق الجغرافي تدريجياً، وقيد في الوقت نفسه استخدام وإنشاء العملة المشفرة اللامركزية الخاصة (Bitcoin). في خطوة رئيسية أخرى، أتاحت الصين استخدام اليوان الصيني الإلكتروني للزوار الأجانب في أولمبياد بكين الشتوية لعام 2022، وهو الاختبار الأول للاستخدام الدولي للعملة الرقمية الصينية.
وثمة آثار بعيدة المدى لعملات البنوك المركزية الرقمية الصينية (e-CNY)، فبالإضافة إلى جعل المعاملات الاقتصادية أكثر كفاءة، والسياسات النقدية الأكثر تعقيداً أسهل في التنفيذ، ستمكن العملة الرقمية للبنك المركزي من وصول بنك الشعب الصيني إلى المعلومات المالية الحساسة للأفراد والشركات، بما في ذلك الكيانات خارج الصين، وهو ما يوجب على الحكومات الأخرى تقييم درجة خصوصية البيانات المالية لمواطنيها وأن تنظم سياساتها وفقاً لذلك.
على الجانب الآخر، يمكن للعملات الرقمية للبنوك المركزية أن تتيح حركة سلسة للأموال عبر الحدود، لكنها قد تواجه تحدياً بتفكك أنظمة المدفوعات الدولية، وظهور مجال نفوذ مالي صيني للمساعدة في عزل الدول عن العقوبات المالية التي تقودها الولايات المتحدة. وتشعر الصين ودول أخرى بالقلق من تفوق الدولار الأمريكي والنفوذ الأمريكي على خدمة الرسائل بين البنوك SWIFT، التي تتعامل مع العديد من المعاملات المالية الدولية. والتي تعد ضرورية لمساعدة الولايات المتحدة وشركائها في فرض العقوبات الدولية، ويمكن أن تنفصل الدول تماماً عن نظام SWIFT، حيث يعزز اليوان الصيني الإلكتروني الرقمي جهود الصين للترويج لاستخدام عملتها في التبادلات الدولية.
تشجع الصين الاعتماد الدولي على عملتها الوطنية بعدة طرق، منها التجارة الدولية واسعة النطاق، ومبادرات التنمية مثل مبادرة الحزام والطريق، وعبر نشر منصات الدفع عبر الهاتف المحمول الصينية التي تنتشر بسرعة في جميع أنحاء آسيا وأفريقيا وأوروبا وخارجها. ففي عام 2015، أنشأ بنك الشعب الصيني نظام الدفع بين البنوك عبر الحدود (CIPS) كبديل لنظام SWIFT، وبدلاً من تكرار وظيفة SWIFT (إرسال رسائل لترتيب شروط تحويل الدفع بين المؤسسات الأخرى ومن خلالها)، تقوم CIPS بمسح وتسوية التحويل في وقت واحد، أي تنفيذ المعاملة بشكل أسرع وأرخص، وقد استخدمته ما يقرب من ألف مؤسسة فيما يقرب من 100 دولة.
تحديات أمريكية:
أجرى الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي مجموعة متنوعة من الأبحاث حول كيفية تنفيذ عملات البنوك المركزية وتقنيات الدفع الأخرى باستخدام كل من التقنيات القديمة والحديثة. يُطلق على هذا الجهد اسم مشروع "هاميلتون"، حيث يهدف إلى بناء منصة نموذجية وقابلة للتطوير لعملات البنوك المركزية. يستكشف الباحثون قضايا تقنية وسياسات مختلفة لضمان سرعة وأمن وخصوصية ومرونة أي عملة رقمية للبنك المركزي في الولايات المتحدة، وعلى الرغم من كونها طموحة في أهدافها، إلا أنها لا تزال متواضعة من حيث الحجم والموارد.
كما قدم بعض محافظي الاحتياطي الفيدرالي ومسؤولي الخزانة وأعضاء الكونجرس الأمريكي أفكاراً حول الكيفية التي يمكن بها للعملات الرقمية للبنك المركزي تعزيز الشمول المالي أو تمكين المدفوعات المباشرة للمواطنين. لكن لا يوجد حتى الآن إطار عمل لصنع القرار الوطني، إضافة إلى عدم وجود أي إجماع حول التحرك نحو العملات الرقمية للبنك المركزي. إذ لا يزال يتعين على صانعي السياسات إشراك مجموعة كاملة من أصحاب المصلحة من البنوك التجارية، كما أنه سيتعين على الكونجرس تحديد الأهداف والسياسات التي تحكم أي عملات رقمية للبنوك المركزية، بما في ذلك الأدوار الخاصة بالحكومة والقطاع الخاص.
إلا أن الدول الأخرى لن تنتظر ببساطة حتى تقوم الولايات المتحدة بتطوير عملات رقمية للبنوك المركزية الأمريكية قبل أن تفكر في تصميم تقنيات العملات الرقمية الوطنية الخاصة بهم. وهكذا، قد تجد الولايات المتحدة أن خياراتها المحلية وتأثيرها العالمي فيما يتعلق بالعملات الرقمية للبنوك المركزية سوف يتقلص بمرور الوقت. في الوقت نفسه، فإن الصين، مع إطلاقها الوشيك للعملة الرقمية للبنوك المركزية، تبدو في وضع جيد لقيادة الجهود الدولية لتطوير المعايير، أو ريادة الاستخدامات الجديدة، أو تطوير أنظمة مدفوعات جديدة. هذا يمكن أن يقوض مصالح الولايات المتحدة وشركائها العالميين وكذلك المعايير العالمية للسلوك الدولي.
ختاماً، تطرح سارة ومينغ توصيات أساسية للولايات المتحدة للتغلب على التحديات المتعلقة بالعملة الرقمية الوطنية منها مراقبة التطور التقني والتنفيذ العملي للعملة الرقمية الصينية من أجل فهم أفضل للوصول إلى البيانات المتطورة وأنظمة الدفع البديلة وتداعياتها المحتملة. وكذلك، أهمية تعامل حكومة الولايات المتحدة مع الأوساط الأكاديمية والقطاع الخاص والشركاء والمؤسسات العالمية (منها بنك التسويات الدولية، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي) فيما يتعلق بالخيارات التقنية والسياسية للعملات الرقمية للبنوك المركزية.
أيضاً، يتعين على الولايات المتحدة توفير موارد إضافية لمجلس الاحتياطي الفيدرالي وشركائه لتوسيع وتسريع البحث والتجريب على عملات البنوك المركزية الرقمية، إضافة إلى أهمية أن يقوم المسؤولون الأمريكيون ببناء تحالف من الدول لتعزيز اعتماد المعايير الدولية وعمليات الدفع التي تكون منفتحة وتعاونية ومتسقة مع المصالح والقيم الديمقراطية.
أخيراً، فإن على صانعي السياسة في الولايات المتحدة مراعاة المخاطر الجيوسياسية أثناء نظرهم في الجدول الزمني والقضايا المحلية المرتبطة بالعملات الرقمية للبنك المركزي الأمريكية المحتملة.
المصدر:
Sarah Sewall and Ming Luo, The Geopolitics of Digital Currency, Belfer Center for Science and International Affairs, Harvard Kennedy School, JANUARY 2022