في أعقاب بدء روسيا تدخلها العسكري في أوكرانيا يوم 24 فبراير 2022، قامت عدة دول، على رأسها الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، بفرض عقوبات متنوعة على موسكو؛ بهدف الضغط على الأخيرة وإجبارها على وقف خطواتها التصعيدية ضد أوكرانيا. ولم تكن هذه العقوبات دبلوماسية واقتصادية فقط، بل شملت المجالات الرياضية والثقافية أيضاً.
عقوبات متنوعة:
تمثلت أبرز العقوبات الرياضية والثقافية المفروضة من الغرب على روسيا جراء الحرب الحالية في أوكرانيا، في الآتي:
1- العقوبات الرياضية: استهدفت هذه العقوبات العديد من الألعاب والمنافسات الرياضية، وفي مقدمتها كرة القدم التي تتمتع بشعبية كبيرة في العالم، حيث استبعد الاتحادان الدولي والأوروبي لكرة القدم المنتخبات والأندية الروسية من المشاركة في أي من منافساتهما، بما في ذلك تصفيات كأس العالم 2022. كما تم نقل فعاليات نهائي دوري أبطال أوروبا لكرة القدم والمقرر في مايو المقبل من مدينة سان بطرسبرج إلى باريس. علاوة على إلغاء الاتحاد الأوروبي لكرة القدم صفقة رعاية مع شركة "غازبروم" الروسية، تبلغ قيمتها حوالي 40 مليون يورو في الموسم الواحد، كما علقت شركة "أديداس" تعاونها مع فرق كرة القدم الروسية.
وفي الإطار نفسه، فرضت الحكومة البريطانية عقوبات على مالك نادي تشيلسي، رجل الأعمال الروسي رومان أبراموفيتش، وقررت تعليق عملية بيع النادي بسبب العقوبات على أبراموفيتش وتجميد أصوله.
وعلى صعيد الرياضات الأخرى، ومنها مثلاً التزلج التي تتمتع بمكانة خاصة لدى الشعب الروسي، فقد أصدر الاتحاد الدولي للتزلج قراراً بمنع الرياضيين الروس من المشاركة في أي فعاليات متعلقة بكأس العالم للتزلج. وامتدت العقوبات الغربية إلى رياضات الجودو والتايكوندو وهوكي الجليد، والتي تعد من الرياضات المفضلة للرئيس الروسي بوتين، حيث أصدر الاتحاد الدولي للجودو قراراً بتجريد بوتين من ألقابه كرئيس فخري وسفير للاتحاد، كما تم تجريده من حزامه الأسود الفخري في التايكوندو. وأوقف الاتحاد الدولي لهوكي الجليد جميع الفرق من روسيا وبيلاروسيا من المشاركة في مسابقاته حتى إشعار آخر.
وفي السياق ذاته، تم إلغاء إقامة سباق "الجائزة الكبرى للفورمولا 1" والذي كان من المقرر إقامته في مدينة سوتشي الروسية في سبتمبر 2022. كما أعلن الاتحاد الدولي للشطرنج أن أولمبياد الشطرنج الـ 44 لن يُقام في روسيا. وأعلن الاتحاد الدولي للسباحة عن سحبه وسام التكريم الذي تم منحه لبوتين في عام 2014، فضلاً عن إعلان الاتحاد الدولي للتنس تعليق عضوية روسيا وبيلاروسيا ومنع مندوبي البلدين من التصويت في اجتماعات الجمعية العمومية للاتحاد الدولي للتنس.
كذلك أعلنت رابطة محترفي التنس ورابطة محترفات التنس عن إلغاء فعاليات البطولة التي كانت ستُقام في موسكو خلال شهر أكتوبر القادم، مع تأكيد الاتحاد الدولي للتنس ورابطتي محترفات ومحترفين التنس أنه يمكن للرياضيين الروس المشاركة في فعاليات بطولات التنس الدولية مثل بطولة "الجراند سلام" ولكن من دون رفع علم أو أي رمز يخص روسيا.
2- العقوبات الثقافية: تم استبعاد روسيا من مسابقة الأغنية الأوروبية لعام 2022، كما أعلنت كبريات شركات الإنتاج السينمائي مثل (Disney وWarner Bros وSony) تعليق عرض أفلامها في روسيا. وألغت مجموعة متاحف العلوم البريطانية معرضها القادم عن السكك الحديدية العابرة لسيبيريا، بينما أعاد مدير المجموعة وسام الدولة الروسي الذي سبق أن منحه إياه الرئيس بوتين.
كما رفضت شبكة Netflix بث الأفلام والمسلسلات والقنوات الروسية، ومنعت أكاديمية السينما الأوروبية الأفلام الروسية من المشاركة في جائزة الفيلم الأوروبي لهذا العام، وفي السياق ذاته رفض مهرجان "كان" السينمائي عرض الأفلام الروسية. وألغى مشاهير الفنانين والفرق الموسيقية العالمية الحفلات الموسيقية التي كانت ستُعقد في روسيا. كما تمت إقالة الموسيقار والمايسترو الروسي فاليري جيرجيف من منصبه كقائد لأوركسترا ميونيخ السيمفونية؛ بسبب رفضه إدانة التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا.
وامتدت العقوبات لتصل إلى دعم المعارضة الفنية والثقافية للنظام الروسي، حيث أعلن القائمون على مهرجان "كارلوفي فاري" السينمائي الدولي في جمهورية التشيك هذا العام عن ترحيبهم باستضافة صانعي الأفلام الروس الذين ينتقدون نظام بوتين، في حين أنه سيتم حظر مشاركة الفنانين المرتبطين بالنظام الروسي. كما أعلن القائمون على المهرجان أنه سيتم تنظيم عرض خاص لفيلم "شهود بوتين" للمخرج فيتالي مانسكي؛ وهو أحد الأفلام التي توجه انتقادات لاذعة لبوتين، على أن يتم توجيه إيرادات عرض الفيلم إلى منظمة People in Need غير الربحية لدعم شعب أوكرانيا.
دوافع المقاطعة:
يتمثل الدافع الرئيسي لفرض العقوبات الغربية على روسيا في ممارسة مزيد من الضغوط لإثناء موسكو عن استكمال حربها في أوكرانيا، وهناك دوافع أخرى أيضاً كانت وراء فرض تلك العقوبات الرياضية والثقافية، ومنها الآتي:
1- تأكيد التضامن مع أوكرانيا: ففي 28 فبراير 2022، انضم وزير الثقافة الأوكراني، أولكسندر تكاتشينكو، إلى مجموعة من الفنانين الأوكرانيين في التوقيع على التماس يطالب فيه المؤسسات الدولية بمقاطعة روسيا ثقافياً بشتى الطرق. وجاء في نص الالتماس أن "الاتحاد الروسي دولة مارقة.. الثقافة الروسية تصبح سامة عند استخدامها كأداة للدعاية"، وطالب موقعو الالتماس المؤسسات العالمية "بعدم التواطؤ مع ممارسات روسيا"؛ وهو ما مثل دافعاً للدول الغربية لفرض مثل هذه العقوبات على روسيا.
2- فرض نظام عقوبات متكامل: دعت وزيرة الثقافة البريطانية، نادين دوريس، إلى فرض عقوبات ثقافية ضد روسيا من أجل الإمعان في نبذ النظام الروسي. ووصفت دوريس الثقافة بأنها "الجبهة الثالثة في الحرب الأوكرانية"، قائلة إن العزلة الثقافية يمكن أن تكون فعالة مثل العقوبات الاقتصادية.
3- تقييد الروابط مع روسيا: منذ الحرب الباردة، نشأت شبكة من الروابط العميقة بين روسيا وخصومها السابقين في الغرب، ليس فقط على الصعيد الاقتصادي، ولكن أيضاً على صعيد الثقافة والرياضة وغيرها من المجالات. لذا تحاول الحكومات الغربية استغلال هذا الترابط وتحويله إلى قيود ضد النظام الروسي.
تأثيرات مُحتملة:
على الرغم من نظرة البعض للعقوبات الرياضية والفنية ضد روسيا على أنها مجرد "عقوبات رمزية"، فإنه يمكن استقراء تأثيرها المُحتمل على موسكو فيما يلي:
1- شعور الشعب الروسي بالعزلة: يمكن الاستدلال على أهمية الرياضة بشكل خاص للشعب الروسي من خلال تصريح الرئيس بوتين في عام 2010 بعد فوز روسيا بتنظيم فعاليات كأس العالم لعام 2018، حيث تحدث حينها عن تأثير كرة القدم على موطنه مدينة لينينغراد خلال الحرب العالمية الثانية وكيف أن كرة القدم "ساعدت الناس على الوقوف شامخين والبقاء على قيد الحياة".
فقد لا يُبالي عموم الشعب الروسي بالعقوبات المرتبطة بإلغاء فعاليات ثقافية وفنية ورياضية مع مؤسسات دولية، ولكن ربما يبرهن الغرب هنا على أنه إذا لم يعد بإمكان الروس الاستمتاع بمشاهدة فرقهم الرياضية في المباريات الدولية، ومشاهدة أحدث الأفلام، والاستمتاع بالحفلات الموسيقية للفنانين العالميين في أرجاء روسيا؛ فقد يؤدي ذلك إلى تراجع دعمهم لسياسات بوتين، ومن ثم تزايد الاحتجاجات على التدخل العسكري في أوكرانيا. وفي هذا الإطار، ووفقاً لمجموعة OVD الحقوقية الروسية، فإنه حتى يوم 4 مارس 2022، تم اعتقال أكثر من 8 آلاف روسي أثناء تظاهرهم للاعتراض على الحرب الأوكرانية. كما وقّع أكثر من 17000 عامل في قطاع الثقافة الروسي على خطاب يطالبون فيه بسحب القوات الروسية من أوكرانيا، ويصفون الحرب بأنها "لا معنى لها ولا طائل من ورائها". كما طالب أليكس أوفيتشكين، وهو لاعب هوكي الجليد ومن أشهر الرياضيين الداعمين لبوتين، بوقف الحرب.
2- تقويض منصة دعائية مهمة لموسكو: يتمتع الرئيس بوتين بشغف كبير تجاه الرياضة، وتعد المنافسات والفعاليات الرياضية جزءاً لا يتجزأ من صورته القومية التي شرع في بنائها على مدار العقود الماضية، حيث كان دائماً يتفاخر بكونه لاعب جودو محترفاً، وتنتشر صور له أثناء ممارسة رياضات مثل الهوكي وركوب الخيل. وبالتالي، فإن عزل روسيا عن الساحة الرياضية الدولية قد يؤثر سلباً على قدرتها في الاعتماد على الرياضة كأداة لقوتها الناعمة، ناهيك عن أن العزلة الرياضية ستساهم في تقويض الصورة القوية التي يعمل الرئيس بوتين على ترسيخها منذ عقود.
3- زيادة الضغوط على الاقتصاد الروسي: إن العزلة الدولية لروسيا رياضياً وثقافياً، ستحرمها من المكاسب المالية الناجمة عن استضافة أحداث رياضية وثقافية دولية مهمة. وبالتالي فإن تلك العقوبات ستُكبد الشركات الروسية العاملة في الرياضة والترفيه خسائر فادحة، تتزامن مع غيرها من الخسائر جراء العقوبات المفروضة على الاقتصاد الروسي، مما يضاعف من تأثيرها على موسكو.
ومن المتوقع أيضاً أن تؤثر العقوبات الرياضية والثقافية على قطاعات اقتصادية أخرى في روسيا، مثل السياحة والنقل الجوي والتي كانت تستفيد بشكل كبير من إقامة الفعاليات الرياضية والترفيهية الدولية في البلاد.
ختاماً، يمكن القول إن الغرب يرى أنه أمام تحد كبير فرضته الحرب الجارية في أوكرانيا، لذا فإنه يبحث عن آليات غير تقليدية للضغط على روسيا. وهنا لا يمكن التقليل من أهمية البُعدين الثقافي والرياضي في العقوبات الغربية على روسيا، وأن تضافره مع العقوبات الاقتصادية ربما يضع نظام بوتين تحت ضغوطات داخلية. وأيضاً، على الرغم من أن العقوبات الثقافية والرياضية تنال دعماً كبيراً من السياسيين والشعوب الغربية، فإن هناك عدداً آخر من الفنانين والرياضيين الغربيين يعارضونها بسبب التخوف من أن تسفر عن نتائج عكسية. بمعنى أن يقوم القادة الروس بشحذ المشاعر القومية من خلال التأكيد على أن العقوبات الثقافية لا تهدف إلى إنهاء الحرب في أوكرانيا، بل تسعى إلى تهديد الهوية الروسية. وهذا ما ظهر مثلاً في تصريح مدير الاستخبارات الخارجية الروسية، سيرجي ناريشكين، قائلاً إن الغرب لا يحاول فقط فرض سياج حديدي جديد على روسيا، بل وصف ما يحدث على أنه محاولات لتدمير روسيا وهويتها.