أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يصدر العدد الثاني من مجلة "اتجاهات آسيوية"
  • أ. د. نيفين مسعد تكتب: (عام على "طوفان الأقصى".. ما تغيّر وما لم يتغيّر)
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (بين موسكو والغرب: مستقبل جورجيا بعد فوز الحزب الحاكم في الانتخابات البرلمانية)
  • د. أيمن سمير يكتب: (هندسة الرد: عشر رسائل للهجوم الإسرائيلي على إيران)
  • أ. د. حمدي عبدالرحمن يكتب: (من المال إلى القوة الناعمة: الاتجاهات الجديدة للسياسة الصينية تجاه إفريقيا)

سياسة "الاحتواء 0.2":

مأزق واشنطن الاستراتيجي في أزمة أوكرانيا

27 فبراير، 2022


حسام إبراهيم: نائب مدير مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، ورئيس برنامج الدراسات الأمريكية

منذ حشد روسيا قواتها العسكرية على الحدود مع أوكرانيا في أكتوبر 2021، ثم تدخلها العسكري في الأراضي الأوكرانية صباح يوم الخميس 24 فبراير 2022؛ تواجه الولايات المتحدة الأمريكية أزمة دولية معقدة، تعد واحدة من الأزمات الأصعب منذ نهاية الحرب الباردة. وعلى امتداد الشهور الخمسة الأخيرة لفترة الأزمة (أكتوبر 2021 إلى فبراير 2022)، حددت إدارة الرئيس جو بايدن مجموعة من الأهداف الاستراتيجية لحماية المصالح والأمن القومي الأمريكي من تداعيات تلك الأزمة، واتخذت عدداً من الخطوات للاستجابة لها. لكن مع تسارع وتيرة أزمة روسيا وأوكرانيا وحدتها، واستمرار ثبات موقف موسكو وتصميمها على تنفيذ أهدافها، بدا واضحاً أن ثمة فجوة بين الأهداف الأمريكية واستجابة إدارة بايدن للأزمة، وهذه الفجوة تعكس مأزقاً استراتيجياً لواشنطن ستظهر تداعياته لاحقاً. 

أهداف واشنطن:

منذ بداية أزمة روسيا وأوكرانيا، وضعت إدارة الرئيس بايدن مجموعة من الأهداف الاستراتيجية التي سعت لتحقيقها في التعامل مع هذه الأزمة، وتشمل ما يلي: 


1- محاولة ردع التدخل العسكري الروسي ضد أوكرانيا: مع ظهور بوادر الأزمة الحالية التي تمثلت في حشد عسكري روسي على الحدود الأوكرانية بدأ بحوالي 100 آلاف جندي، وتطور حتى وصل إلى 190 ألف في فبراير 2022، وفي ظل تقييمات استخباراتية أمريكية بأن الرئيس بوتين يعتزم التحرك عسكرياً ضد أوكرانيا؛ وضعت الإدارة الأمريكية هدف منع وردع التدخل العسكري كهدف استراتيجي لها في بداية الأزمة، وعملت مبكراً بخطوات مختلفة على محاولة منع هذا السيناريو. وجاء ذلك انطلاقاً من مصلحتين رئيسيتين لواشنطن؛ الأولى تتعلق بالمصالح الأمريكية في أوروبا والتداعيات السلبية التي يمكن أن يخلفها سيناريو التدخل العسكري الروسي على هذه المصالح، والثاني يتعلق بـ "المحدد الصيني" في الأزمة، فقد كانت هناك تقييمات أمريكية بأن هذا التدخل العسكري سوف يشجع بكين على تكرار السيناريو نفسه في تايوان. 

2- منع سقوط الحكومة المركزية في كييف: أكدت التقييمات الاستخباراتية الأمريكية أن جزءاً من أهداف بوتين في تحركه العسكري ضد أوكرانيا، يتمثل في العمل على السيطرة على العاصمة كييف، وإسقاط نظام الرئيس "فلوديمير زيلينسكي"، ومحاولة تنصيب حكومة موالية لموسكو في كييف، كجزء من رؤية روسيا حول أوكرانيا، حيث تعتبرها جزءاً من دول المحيط الحيوي لروسيا. 

3- عدم الاستجابة لخطة لضمانات الأمنية الروسية: مع تصاعد حدة ووتيرة الأزمة الحالية، قدمت روسيا في ديسمبر 2021 إلى الولايات المتحدة والحلفاء الأوروبيين مبادرة أُطلق عليها "الضمانات الأمنية الروسية"، والتي هي الأساس الحاكم لموقف موسكو في الأزمة والسبب الرئيسي في تحركها العسكري للسيطرة على أجزاء من أوكرانيا. وتشمل هذه الضمانات؛ عدم توسع حلف "الناتو" أكثر من وضعه الراهن في شرق أوروبا وعدم انضمام أوكرانيا إليه، وعدم نشر قوات وأسلحة خارج الدول التي كانت بها في مايو 1997 إلا في حالات استثنائية وبموافقة روسيا وأعضاء "الناتو"، أي قبل توسع الحلف في أوروبا الشرقية، وعدم نشر صواريخ متوسطة وأقصر مدى في أماكن يمكن أن تصيب منها أراضي الجانب الآخر، وعدم إجراء تدريبات بأكثر من لواء عسكري واحد في منطقة حدودية متفق عليها، وتبادل المعلومات الخاصة بالتدريبات العسكرية بشكل دوري، وتأكيد أن كلاً من الطرفين لا يعتبر الآخر خصماً، والاتفاق على حل جميع النزاعات سلمياً والامتناع عن استخدام القوة، والالتزام بعدم خلق أجواء تُعتبر تهديداً للطرف الآخر، ومد خطوط ساخنة للاتصالات الطارئة.

وترجمت موسكو مبادرة الضمانات في شكل مسودتي اتفاقيتين، قامت وزارة الخارجية الروسية بصياغتهما؛ الأولى مع حلف "الناتو"، والثانية مع الولايات المتحدة، حيث اقترحت إبرامهما لإنشاء نظام ضمانات أمنية متبادلة، بغية خفض التوترات العسكرية في أوروبا. وأجرت روسيا محادثات مع الولايات المتحدة و"الناتو" في جنيف وبروكسل وفيينا، في 10 و12 و13 يناير 2022، مطالبة الغرب بتقديم رد خطي على المبادرة الروسية، لكن لم يكن هناك استجابة منهم.

4- تجنب الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة مع روسيا: وضعت واشنطن في إدارتها لأزمة أوكرانيا خطاً أحمر يتمثل في عدم الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة مع روسيا لأي سبب يتعلق بالأزمة، وفي هذا الإطار أكد البيت الأبيض مراراً وتكراراً على أن الولايات المتحدة لن ترسل قوات عسكرية إلى أوكرانيا. وأعاد الرئيس بايدن في خطابه يوم 24 فبراير 2022 تأكيد هذا الأمر، وقال إن بلاده لن ترسل على الأرض في أوكرانيا. لكن في الوقت نفسه أكد بايدن أن الولايات المتحدة سوف تتدخل لو حدث اعتداء على أي دولة في حلف "الناتو"، وستقوم بتفعيل التزاماتها بموجب "المادة 5" من ميثاق الحلف، التي تعتبر أي اعتداء على دولة من دول الحلف بمنزلة اعتداء على الجميع. 

5- ضمان أمن الطاقة العالمي لمنع ارتدادات الأزمة على واشنطن: تعد روسيا واحدة من أكبر الدول المُصدرة للنفط والغاز إلى القارة الأوروبية، وبالتالي فإن أي تصعيد أو توتر معها سوف يؤثر على أسواق الطاقة العالمية، وسيؤدي أيضاً إلى ارتفاع أسعار النفط، الأمر الذي سوف ينعكس مباشرة على المواطن الأمريكي في الداخل، وعلى الاقتصاد الأمريكي الذي يعاني موجة تضخمية. ومن هذا المنطلق، كان أحد الأهداف الأمريكية في إدارة أزمة أوكرانيا يتمثل في ضمان أمن الطاقة العالمية وتدفق النفط والغاز. وفي هذا السياق، قامت واشنطن بمشاورات مع حلفائها، خاصة في دول الشرق الأوسط، لضمان العمل على إيجاد بدائل للنفط والغاز الروسي، كما ناشد الرئيس بايدن في خطابه يوم 24 فبراير 2022 الشركات الأمريكية بعدم استغلال الأزمة الحالية لرفع أسعار الوقود، مؤكداً أن بلاده سوف تلجأ إلى الاحتياطي الاستراتيجي النفطي إذا استدعت الضرورة.     

آليات الاستجابة:

اتخذت الإدارة الأمريكية مجموعة من الخطوات للاستجابة للأزمة بين روسيا وأوكرانيا، والتعامل مع التهديد الذي تمثله للمصالح والأمن الأمريكي، وشملت هذه الخطوات ما يلي: 


1- الكشف عن التقديرات الاستخباراتية للأزمة: عملت إدارة الرئيس بايدن على الكشف بشكل مستمر عن المعلومات والتقييمات الاستخباراتية عن الحشد العسكري والتحركات الروسية على الأرض، وذلك في الأسابيع الأولى للأزمة، لدرجة الكشف عن مواعيد بدء التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، والحديث هنا عن أواخر يناير الماضي ثم منتصف فبراير 2022، وكانت هذه المواعيد التي حددتها التقديرات الاستخباراتية استناداً إلى صور الأقمار الصناعية لتحركات القوات الروسية، والمعلومات من داخل موسكو. 

وفي خطابه يوم 24 فبراير 2022، أشار الرئيس بايدن إلى "أن الولايات المتحدة كانت شفافة مع العالم عما يجري". وكان التقدير الأمريكي أن الكشف عن المعلومات الاستخباراتية سوف يردع بوتين عن التحرك العسكري فعلياً على الأرض، لكن يبدو أن الجانب الروسي كان مُدركاً لمسألة الكشف عن المعلومات الاستخباراتية، وكان يحاول الاستفادة منها في تقييم ردود الفعل والتحركات الأمريكية والأوروبية، وأدار على الجانب الآخر "حرباً معلوماتية" لتصدير الرواية الروسية التي ارتكزت إلى تحميل الولايات المتحدة والدول الأوروبية مسؤولية تفاقم الأزمة، وأيضاً الاستمرار في تكرار الرسائل عن أن "أوكرانيا جزء من التاريخ الروسي". 

2- تقديم الدعم السياسي والعسكري لكييف: في ضوء "الخط الأحمر" الذي وضعته إدارة بايدن بعدم التورط في مواجهة عسكرية مباشرة مع روسيا، وعدم إرسال قوات عسكرية أمريكية على الأرض؛ عملت الإدارة الأمريكية على توفير بدائل أخرى لدعم كييف، وأبرزها الحشد السياسي للحلفاء الأوروبيين، والتنسيق المستمر مع الدول الأوروبية والدول الرئيسية الأخرى مثل كندا واليابان، وتأكيد العديد من رسائل الدعم والتضامن مع الحكومة والشعب في أوكرانيا، وإرسال شحنة عاجلة من الأسلحة الحديثة إلى كييف في أواخر يناير 2022 لدعم قدرات الجيش الأوكراني، وأيضاً الموافقة على قيام دول من "الناتو" بتسليم صواريخ مضادة للدروع وأسلحة أمريكية أخرى إلى أوكرانيا.

كما وافق الرئيس بايدن على صرف 200 مليون دولار دعماً إضافياً لتلبية احتياجات أوكرانيا الدفاعية الطارئة. وفي 25 فبراير 2022، طلب بايدن من الكونجرس الموافقة على مساعدات بقيمة 6.4 مليار دولار لمواجهة هذه الأزمة؛ منها 2.9 دولار مساعدات أمنية وإنسانية، و3.5 مليار دولار لوزارة الدفاع الأمريكية، ومن المحتمل أن يتم توجيه جزء من هذه المخصصات لمساعدة أوكرانيا. 

3- فرض عقوبات على روسيا لا تشمل قطاع الطاقة: مثّلت العقوبات التي فرضتها الإدارة الأمريكية في فبراير 2022، التحرك الوحيد للتأثير المباشر على روسيا، واتبعت الإدارة في فرض هذه العقوبات سياسة "الخطوة خطوة" والتدرج في مستوي العقوبات، حيث فرضت يوم 22 فبراير 2022 عقوبات على أحد أكبر البنوك الروسية والذي يلعب دوراً في تمويل مشروعات البنية التحتية الروسية وأنشطة وزارة الدفاع، وذلك رداً على اعتراف موسكو رسمياً بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين في شرق أوكرانيا وتحريك معدات وقوات عسكرية في أراضيهما. 

ويوم الخميس 24 فبراير 2022، تم فرض عقوبات أمريكية جديدة بمستوى أعلى، تشمل 4 بنوك روسية، وحرمان موسكو من الحصول على تمويل من مؤسسات التمويل الأمريكية والأوروبية. وصُممت العقوبات الجديدة بهدف الإضرار بالقطاعات الاستراتيجية في الاقتصاد الروسي، خاصة قطاع التكنولوجيا والقطاع العسكري وقطاع الصناعات الفضائية، لكنها لم تتطور لتشمل قطاع الطاقة الروسي؛ نظراً لما يمكن أن تخلفه هذه التداعيات على أمن الطاقة العالمي. كما لم تشمل العقوبات منع روسيا من الوصول إلى نظام "سويفت"؛ وهو النظام العالمي الذي تعتمد عليه البنوك. ويومي 25 و26 فبراير 2022، بدا واضحاً أن هناك نقاشات حول تطوير مستوى العقوبات لتشمل الرئيس بوتين شخصياً ووزير خارجيته، سيرغي لافروف. 

4- التأكيد على دعم دول "الناتو": نظراً لأن التقييم الاستراتيجي الأمريكي للأزمة الحالية، يقسمها إلى مستويين؛ الأول يتعلق بأوكرانيا، والثاني يتعلق بحلف "الناتو" ودوله، خاصة في الجناح الشرقي من الحلف، فقد خصصت إدارة بايدن جزءاً من تحركاتها لتأكيد دعم الحلف. وفي هذا الإطار، وافق الرئيس بايدن في فبراير 2022 على نشر 3000 جندي أمريكي في بولندا وألمانيا ورومانيا، في خطوة لتعزيز دول "الناتو" في أوروبا الشرقية، كما وافق في الشهر نفسه على إرسال 7000 جندي إلى ألمانيا. وهذه التحركات بجانب التنسيق والتواصل المستمر مع "الناتو"، تهدف بشكل رئيسي إلى تطمين الحلفاء، وإرسال رسالة مباشرة بأن واشنطن سيكون لها موقف إذا حدث اعتداء على أي من دول الحلف. 

فجوة النتائج:

ثمة فجوة بين ما اتخذته الإدارة الأمريكية من خطوات في التعامل مع أزمة روسيا وأوكرانيا، وبين أهداف واشنطن، وهو ما يتضح في التالي: 


1- عدم تغير الموقف الروسي: لم ينجح تحركات واشنطن في ردع موسكو، أو دفع الرئيس بوتين لتغيير موقفه. فعلى الرغم من كشف الجانب الأمريكي لمعلومات استخباراتية عن خطط بوتين العسكرية، فإن الأخير بدأ تدخله العسكري في أوكرانيا يوم 24 فبراير 2022، وما زال مستمراً فيها، وتشير تقديرات أجهزة الاستخبارات الأمريكية إلى أن سقوط كييف أصبح مسألة وقت، قد تصل إلى عدة أيام. وبعد هذا التدخل العسكري الروسي، بدأت أوكرانيا تطرح مسألة التفاوض على وضعها، واستجابت روسيا إلى الدعوة، وطرحت إرسال وفد إلى بيلاروسيا للتفاوض مع الأوكرانيين، لكن وفقاً لشروط موسكو ومصالحها. 

2- ضعف تأثير الدعم العسكري لكييف: إن الدعم العسكري الذي قدمته وستقدمه واشنطن لأوكرانيا، لن يؤثر على توازن القوة بين الأخيرة وروسيا. فبالرغم من تقدم قدرات الجيش الأوكراني منذ عام 2014، فإنها تظل محدودة في مواجهة القوات الروسية. وربما تنجح القوات الأوكرانية في تعطيل تقدم نظيرتها الروسية، لكنها لن تنجح في وقف تقدمها، ومنع سقوط كييف. فإذا لم تتدخل الولايات المتحدة والدول الأوروبية عسكرياً لدعم أوكرانيا، لن يتم منع موسكو من تحقيق أهدافها. وهنا يبدو أن تدخل الغرب عسكرياً أمراً مستبعداً.    

3- محدودية فاعلية العقوبات على المدى القصير والمتوسط: فالعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها سيكون لها تأثير سلبي على الاقتصاد الروسي، لكن هذا التأثير سوف يستغرق وقتاً، كما أن موسكو وضعت تقديراتها حول خيارات التحرك الأمريكي، ومن ثم استعدت ولو جزئياً لامتصاص تأثير هذه العقوبات. وبغض النظر عن مستوى تأثير العقوبات وأضرارها على الاقتصاد الروسي، فإنها لم تجبر موسكو على تغيير موقفها؛ لأن حساباتها الاستراتيجية بشأن مصالحها وأمنها القومي في أوكرانيا أكبر من حسابات الخسائر الاقتصادية. 

الخلاصة، إن الفجوة بين الأهداف والاستجابة الأمريكية للأزمة الأوكرانية، تعكس "مأزقاً استراتيجياً" لإدارة بايدن، فالأخيرة نجحت في تحقيق بعض أهدافها، خاصة المرتبطة بدعم أوكرانيا سياسياً وعسكرياً ودعم حلف "الناتو"، ومن المحتمل أيضاً تحقيق هدف تأمين أمن الطاقة؛ لكنها فشلت في منع التدخل العسكري الروسي ضد أوكرانيا. ومع احتمالات سقوط العاصمة كييف، فإن أوكرانيا ستكون تحت السيطرة الروسية، ومن ثم سنعود للمربع الأول وهو الضمانات الأمنية الروسية، ربما يتم التفاوض بشأنها مباشرة بين موسكو وكييف، أو بين موسكو والولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين.