منذ غزو الفضاء إبان الحرب الباردة، تمثل الغرض الرئيسي لهذا الغزو في تعزيز القوة العسكرية للدول الكبرى من خلال التنافس على الهيمنة في هذه المساحة غير المأهولة، وذلك عبر استخدام الأقمار الصناعية في عمليات التجسس ودعم العمليات المسلحة على الأرض. بيد أن نهاية الحرب الباردة طرحت إمكانية التوسع في استخدام الفضاء الخارجي لدعم الأمن الإنساني والبيئي، وتجاوز "عسكرة الفضاء" إلى إمكانية تعزيز السلام. وفي هذا السياق، اتسعت أهمية استخدامات الفضاء الخارجي لدعم عمليات حفظ السلام في العديد من مناطق العالم المضطربة، ومنها الشرق الأوسط.
أقمار حفظ السلام:
أدركت الأمم المتحدة أهمية توظيف الأقمار الصناعية في عمليات حفظ السلام في مرحلة مبكرة. ففور البدء في إرسال أول قمر صناعي إلى الفضاء الخارجي في عام 1957، بدأت الهيئة الدولية في تحفيز الأطراف الدولية على التوافق على مبادئ استخدام الفضاء الخارجي للأغراض السلمية، ومنع استخدامه عسكرياً، وكذلك عدم توظيف أسلحة الدمار الشامل في الفضاء. وقد تم التوصل بالفعل إلى هذه الاتفاقية في عام 1967؛ وهي الاتفاقية التي تمثل الإطار العام للقانون الدولي للفضاء. وفي عام 1978، قدمت الحكومة الفرنسية مقترحاً حول نظام الأقمار الصناعية لحفظ السلام، إلى الاجتماع الأول للجنة الأمم المتحدة الخاصة بنزع التسلح من الفضاء UNSSOD، وتبعت ذلك مقترحات أخرى قدمتها إيطاليا وهولندا والاتحاد السوفييتي آنذاك وعدد من المنظمات الدولية غير الحكومية ومنظمات السلام الدولية.
وفي هذا السياق، بدأ الحديث عن الأقمار الصناعية لحفظ السلام Peace-Keeping Satellite، وتُعرف بأنها أقمار المراقبة التي تدعم عمليات حفظ السلام الدولية من خلال تقديم الدعم التقني لتحديد مناطق فصل القوات أو الفصل بين المناطق المتنازع عليها، وتعزيز جهود الوساطة، وجمع أدلة حول انتهاكات حقوق الإنسان والجرائم المرتكبة في مناطق الصراعات، وتحسين قدرة القوات على تحليل الصراع، وتحسين خطط انتشار قوات حفظ السلام بناءً على تحديد أكثر نقاط الصراع هشاشة. والأهم من ذلك أن هذه المعلومات يمكن جمعها من أي جهة دولية، سواء كانت منظمات إقليمية أو دولية، مثل أجهزة الأمم المتحدة المعنية أو "هيومان رايتس ووتش" و"منظمة العفو الدولية"، وليس الدول وحدها.
وعلى الرغم من أهمية عمليات التحقق من تنفيذ الاتفاقيات المتعلقة بتسوية النزاعات المسلحة، سواء كانت معاهدات دائمة أو هدنات قصيرة الأجل، من خلال لجان على الأرض؛ فإن عمل هذه اللجان قد يتعرض للعرقلة من بعض الأطراف أو يخضع للتحيزات أو خلافات أعضاء اللجان. لذا، فإن تكنولوجيا الأقمار الصناعية تساعد الأطراف المعنية بتنفيذ الاتفاقيات على البقاء على اطلاع على الوضع على الأرض من دون تدخل العامل البشري. وعند تحليل صور الأقمار الصناعية Satellite Imagery من خلال الخبراء المدربين، يمكن الكشف عن حالة الصراع مثل وجود قرى مدمرة أو انتشار لقوات مسلحة أو ميليشيات أو البدء في تجهيزات عسكرية أو آثار لتحرك مركبات ثقيلة ووسائل نقل، وغيرها من آثار يمكن أن توضح ببساطة مدى التغير في وضع الصراع في مناطق معينة.
حالة الشرق الأوسط:
تعمل قوات حفظ السلام الأممية والدولية في الشرق الأوسط في العديد من أماكن الصراعات القائمة و"المجمدة"، مثل فلسطين (هيئة الأمم المتحدة لمراقبة الهدنة UNTSO)، وهضبة الجولان (قوة الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك بين القوات الإسرائيلية والسورية UNDOF)، وجنوب لبنان (قوة الأمم المتحدة الانتقالية في لبنان UNIFIL)، والصحراء الغربية (بعثة الأمم المتحدة للاستفتاء في الصحراء الغربية MINURSO).
ومن المؤكد أن هذه القوات الدولية تعمل في مناطق هشة أمنياً، وإقليم أكثر عُرضة للاضطرابات من غيره. وقد تم نشر تلك القوات على مدار العقود الماضية للقيام بمهمة أساسية؛ وهي مراقبة تنفيذ اتفاقات السلام أو فض الاشتباك، عدا قوات الاتحاد الإفريقي في الصومال (أميسوم) المُكلفة بالتعامل مع مخاطر حركة الشباب الإرهابية ودعم عمل قوات الأمن الصومالية. وتجعل هذه الوضعية القوات العاملة في تلك المناطق بحاجة إلى معلومات وبيانات أكثر دقة ونظم إنذار مبكر ذي فاعلية لمنع نشوب الصراعات أو استباق أسباب التصعيد.
ويتسم عمل القوات الدولية في معظم هذه الحالات بالشرق الأوسط بنوع من الاستقرار وسهولة مراقبة الأوضاع مع وضوح خطوط فض النزاع. بيد أن الصعوبة ستزداد في حالة نشر قوات أممية أو متعددة الجنسيات في مناطق النزاع الأهلي؛ حيث تتداخل خطوط فض النزاع والاشتباك، على نحو يجعل القوات المعنية في حاجة إلى عمليات مراقبة أكثر دقة للمتنازعين على خطوط القتال أو في حالة التهدئة.
نماذج تطبيقية:
اتضح دور الأقمار الصناعية ونظم المعلومات الجغرافية كأدوات في عمليات حفظ السلام في عدد من الحالات بمنطقة الشرق الأوسط، ومنها الآتي:
1- في السودان، حيث جاء مع "مشروع القمر الصناعي الحارس" أو Satellite Sentinel Project (SSP) والذي تأسس في عام 2010 على يد الناشطين "جورج كلوني" و"جون برندرجاست" خلال الزيارة التي قاما بها إلى جنوب السودان. وفي العام التالي، أصدر المشروع تقريراً تضمن صوراً لمقابر جماعية تم اكتشافها في مناطق، مثل جنوب كردفان وجنوب السودان، وكذلك صوراً لقرى تم محوها في منطقة أبيي المتنازع عليها بين السودان وجنوب السودان.
2- في دارفور، أظهر تحليل المعلومات الجغرافية أن معظم حوادث النزاع تقع خارج نطاق دوريات بعثة حفظ السلام المشتركة للقوات الأممية وقوات الاتحاد الأفريقي في دارفور، وهو ما دفع البعثة إلى تعديل نمط انتشارها ليشمل مناطق أوسع.
3- أثناء الحرب الأهلية في جنوب السودان، فقد ساعدت صور الأقمار الصناعية قوات حفظ السلام الأممية على تحديد تحركات بعض القوافل المسلحة والمركبات المدرعة التابعة للقوات الحكومية والتي كانت تتحرك على الطريق الواصل بين "جوبا" و"بور". وعززت هذه الصور قدرة القوات الأممية على رفع وعيها بالموقف على الأرض من خلال تحديد انتشار القوات المهاجمة وبالتالي استباق التصعيد ومنعه.
4- في العراق وسوريا، كان لصور الأقمار الصناعية دور في تحديد حجم الخسائر الذي تسببت فيها سيطرة تنظيم داعش على مناطق شمالي العراق وسوريا (2014-2017)، وهو ما دعم الحملة الدولية ضد التنظيم الإرهابي والتـي أدت في النهاية إلى انهيار هذه السيطرة.
تحديات قائمة:
غالباً ما تعتمد الأمم المتحدة في مهامها المتعلقة بالأقمار الصناعية على خدمات تجارية تقدمها شركات مثل "ديجيتال جلوب" Globe Digital؛ وهي شركة أمريكية تأسست في عام 1992 وتتخصص في بيع صور الأقمار الصناعية عالية الجودة لعملاء يتراوحون بين الشركات الخاصة والأجهزة الحكومية داخل وخارج الولايات المتحدة والمنظمات الأممية والمنظمات الإنسانية العاملة في مجال حفظ السلام ومنع الصراعات. كذلك تتلقى الأمم المتحدة صوراً من الأقمار الصناعية التابعة لحكومات بعض الدول مثل فرنسا والولايات المتحدة والهند.
وبقدر ما تطرح هذه الشراكة بين المنظمات الدولية والشركات والحكومات عدداً من الفرص لعمليات حفظ السلام، فإنها تفرض تحديات أخرى، مثل ما يلي:
1- احتمالية التسييس والتضليل: فقد تتعرض صور الأقمار الصناعية التي تقدمها الحكومات أو الشركات التجارية، للتسييس أو الإغفال أو الإخفاء المتعمد. وفي هذا السياق، تبرز الفجوة التقنية بين الدول التي تمتلك تقنيات فضائية والأخرى المضطرة إلى شرائها.
2- إشكالية قانونية: تتمثل في أنه على عكس بعثات استقصاء الحقائق التـي تعمل على الأرض، لا تحمل صور الأقمار الصناعية أية أذون قانونية من الدول المعنية بالسماح لها بالتصوير داخل حدود نطاقها الجوي، وهو ما قد يخلق نزاعات، خاصة إذا ما كانت الحقائق التـي تكشفها الصور على غير رغبة وأهداف هذه الدول.
3- ثغرات أمنية وعسكرية: ترى بعض الدول أن هذه التقنيات قد تُوظف من قِبل دول أخرى، عبر الأمم المتحدة أو غيرها؛ بغرض التجسس، أو الكشف عن قدراتها العسكرية، وربما تدميرها بدعوى منع الصراع أو "التدخل الإنساني". ومثال عى ذلك، ما حدث في غزو العراق عام 2003، حيث بررت الولايات المتحدة وقتها حربها على العراق باستخدام صور جوية زائفة تصور منشآت نووية عراقية. وفي حالات أخرى، اتهمت دول مثل سريلانكا في عام 2009 وكالات الأمم المتحدة بتزييف بعض الصور التي تظهر هجوم القوات الحكومية على إحدى المستشفيات في إطار الحرب الأهلية بهذا البلد.
4- مشكلات تقنية: وهي تتعلق بعملية تحليل الصور، فبعض الصور قد يستغرق تحليلها بعض الساعات، وهناك صور أخرى أكثر تعقيداً قد تحتاج إلى أسابيع لتحليلها واستيعابها. وهذا ما يجعل هذه التقنية غير ملائمة لبعض المواقف التـي تتطلب الحصول الفوري على بعض المعلومات التـي قد يترتب عليها الاختيار بين التدخل المُسلح أو الامتناع عن ذلك.
ختاماً، تقدم التقنيات الفضائية من أقمار صناعية ونظم معلومات جغرافية وغيرها، فرصاً لتعزيز عمليات حفظ السلام ومراقبة تنفيذ اتفاقات وقف إطلاق النار في مناطق الصراعات. بيد أن هذه التقنيات على تقدمها لن تُغني بالضرورة عن عمل البعثات الاستقصائية على الأرض، كما أنها ستظل في حاجة إلى العامل البشري في عمليات تحليل صور الأقمار الصناعية وما يترتب عليها من قرارات قد تخضع لعوامل تتجاوز مجرد تقنيات التصوير المتقدمة، وهذا ما يجعلها تواجه العديد من التحديات. ومن المتوقع أن يتم التوسع في استخدام تلك التقنيات في حال نشر قوات حفظ سلام في مناطق الصراع الأهلي بالإقليم.