عقب 20 عاماً من سقوط حكمها في أفغانستان، عادت حركة طالبان في نسخة جديدة، تجيد استخدام التكنولوجيا وتستحوذ على قواعد البيانات، وتبدو أكثر انفتاحاً على استخدام الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، ما يتسق مع الصورة العامة التي تسعى إلى أن تقدم بها نفسها باعتبارها حركة سياسية أكثر من كونها تنظيماً مسلحاً أو متمرداً. وبالرغم من حظر طالبان على موقعي فيس بوك ويوتيوب، فإن وجودها بقوة على تويتر الذي استخدمته بشكل أقرب لوكالة الأنباء متعددة اللغات، منحها صوتاً يعبر عنها بمفرداتها دون تأويل، وهو ما يدفع للتساؤل عن أسباب وكيفية توظيف حركة طالبان لوسائل التواصل الاجتماعي بعد عودتها مرة أخرى للحكم في أفغانستان، ومحددات ذلك المستقبلية.
تطور رقمي:
اتبعت طالبان استراتيجية رقمية مبكرة عقب الغزو الأمريكي عام 2001، حيث قامت الحركة باستخدام أقراص DVD والمقاطع الصوتية الرقمية لنشر مواد مصورة لهجماتها ضد قوات التحالف وعمليات إعدام "الجواسيس"، وكذلك صور القتلى المدنيين الأفغان، فضلاً عن استخدام الهواتف المتصلة بالأقمار الصناعية للتواصل السريع وتداول هذه المواد، وفقاً لشهادات نشرها تقرير للمكتب الأوروبي لدعم اللجوء. وإلى جانب النشرات الليلية وخطب الملالي ومجلة "الصمود"، قامت طالبان باستخدام الرسائل النصية القصيرة لنشر دعوات الانضمام للجهاد، كما أطلقت موقع الإمارة الإلكتروني عام 2005 بخمس لغات هي الإنجليزية والعربية والباشتو والداري والأردية.
وقد ظل استخدام الحركة لمواقع الإنترنت محدوداً ببث البيانات والمقاطع المصورة، التي تعيد وسائل الإعلام التقليدية نشرها، حتى أدركت أنها بحاجة لاتخاذ خطوة أكثر تطوراً لتتحرر من أطر الإعلام الدولي الذي اعتاد تقديمها كجماعة إرهابية وظلت هي تتهمه بالتضليل ونشر الأكاذيب. لذا اتجهت طالبان إلى شبكات التواصل الاجتماعي عام 2009، وأنشأت قناة لها على يوتيوب، ثم ما لبثت أن أنشأت حسابات على موقعي فيس بوك وتويتر تنشر عبرها تحديثات منتظمة بحلول عام 2011، وهذا بخلاف مدونات الداعمين لها، وفقاً لتقرير للباحث بالمجلس الأطلسي، إيمرسون تي بروكينج.
ومع نشاط داعش الرقمي خاصة بعد الحرب السورية، والحصار الذي فرضته شبكات التواصل على المحتوى الجهادي، لم تكن حركة طالبان بمنأى عن ذلك الحظر، ما دفعها إلى استخدام منصات التشفير بين الطرفين، وأعلنت إنشاء قنوات لها على واتس آب وتيليجرام عام 2015، لاسيما مع اتباع فيس بوك والمنصات التابعة له وكذلك يوتيوب سياسات صارمة في حظر طالبان. كما حظرت شركة جوجل تطبيقاً أطلقته الحركة على متجرها لتطبيقات الهواتف الذكية عقب ساعات من إصداره عام 2016.
ومع استمرار موقع تويتر في استضافة طالبان، بات هو المنفذ الأول لنشر الأخبار والبيانات والمقاطع الدعائية لها، وباتت تستخدمه بشكل مكثف، سواء لمخاطبة الخارج أو الداخل الأفغاني وتحديداً في الأماكن الحضرية التي تتوفر بها خدمات الكهرباء والاتصالات وترتفع بها معدلات التعليم، والتي تعد هدفاً لخطاب الحركة الداخلي، خاصة مع الانفراجة السياسية التي شهدها عام 2018 ببدء مفاوضات غير رسمية ومن بعدها رسمية للحركة مع الحكومة الأفغانية ثم الولايات المتحدة، حتى توقيع اتفاق الدوحة في فبراير 2020 الذي كان يقضي بالانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وهي التطورات التي دفعت الحركة لاستثمار "السوشيال ميديا"، خاصة تويتر للتعبير عن إرادتها.
وعلى الرغم من تطور انتشار الإنترنت في أفغانستان على مدار العشرين عاماً الماضية، فإنه يعد وسيلة نوعية للتواصل مع قطاعات حضرية بعينها، وليس وسيلة شعبية كالتلفاز أو الراديو، حيث تبلغ نسبة مستخدمي شبكة الإنترنت في أفغانستان 8.64 مليون، منهم 4.4 مليون يستخدمون شبكات التواصل الاجتماعي بنسبة 11.2% فقط من السكان البالغ عددهم 39.4 مليون نسمة، لا يجيد أكثر من نصفهم القراءة والكتابة، وذلك وفق إحصاءات التقرير الرقمي الدولي في يناير 2021.
تغريدات طالبان:
شهد استخدام تويتر في أفغانستان خلال الأشهر الماضية ارتفاعاً مضطرداً مقارنة بشبكات التواصل الأخرى، حيث قفز من 4.06% في أغسطس 2020 إلى 58.2% في أغسطس 2021. فيما انخفض استخدام فيس بوك من 87.47% إلى 38.19% خلال الفترة نفسها، فيما لا تتجاوز معدلات استخدام انستجرام ويوتيوب 2% من إجمالي مستخدمي الإنترنت في البلاد، وفق إحصاءات موقع statcounte. وهذا يرجع في جانب كبير منه للحظر الذي يفرضه فيس بوك ويوتيوب، بينما يصعب حصر استخدام حركة طالبان لتطبيقات، مثل تيليجرام وواتس آب، فيما قام الأخير كذلك بحكم تبعيته لفيس بوك بفرض الحظر على قنوات تابعة للحركة.
ويوجد على تويتر العديد من الحسابات، سواء التي تُسمي نفسها بـ "الإمارة الإسلامية" و"أخبار الإمارة" أو التي تعبر عن منصات إعلامية لحركة طالبان، مثل حساب مجلات طالبان (د مجلو پاڼه) ومجلة "حقيقت" التابعة للجنة الشؤون الثقافية لإمارة أفغانستان الإسلامية، فضلاً عن حسابات المغردين المناصرين وكذلك الحسابات الرسمية للمتحدثين الرسميين للحركة، وتعد الأخيرة الأكثر تغريداً والمنفذ الرئيسي للتعبير عن توجهات طالبان وسياساتها.
وبالنظر إلى حسابات متحدثي حركة طالبان وكذلك الحسابات الداعمة لها على تويتر، يمكن تحديد مجموعة من السمات الرئيسية التي تحدد كيفية توظيفها لها، كالتالي:
1- على الرغم من تعدد حسابات المتحدثين باسم طالبان فإن لكلِ منهم خطه الخاص في النشر والتدوين، انعكس في مؤشرات أدائه. فكان محمد نعيم وسهيل شاهين، أعضاء المكتب السياسي للحركة في قطر، الأكثر تغريداً باللغتين العربية والإنجليزية على الترتيب. فيما سيطرت التغريدات باللغة المحلية على حساب ذبيح الله مجاهد الذي قدم تحديثات يومية لتقدم الحركة بما يعكس هيمنتها ويقدم صورة مستقرة للداخل الأفغاني باستخدام اللغات المحلية البشتوية والدرية.
2- انعكس الدور السياسي في أداء الحساب على تويتر، حيث كان سهيل شاهين الأكثر تفاعلاً بالتعقيب والاقتباس وإعادة التغريد، وهو ما يتسق مع دوره السياسي كعضو فريق المفاوضات والمتحدث الرسمي لوسائل الإعلام الدولية. فيما عملت حسابات متحدثي الداخل على التغريد بما يشبه عمل وكالات الأنباء المحلية، ليتم تداول ما تنشره عبر الفضاء الإلكتروني أو تتناقله وسائل الإعلام التقليدية التي تعمل كمكبرات للأخبار التي تُبث بشكل شبه حصري من الداخل الأفغاني المضطرب.
3- استخدمت طالبان تكتيك "استقطاب مؤثري وسائل التواصل الاجتماعي المناصرين لها"، وأبرزهم قاري سعيد خوستي والذي لم يكتف بالتغريدات الإخبارية وإنما نشر تغريدات تساند الحركة باعتبارها ممثلاً للإرادة الوطنية، من وجهة نظره، ومغرداً بكثافة تحت وسم #westandwithtaliban وكذلك #نصر_من_الله_وفتح_قريب، لمؤازرة الحركة ودعمها. وقد نشرت هيئة الإذاعة البريطانية تقريراً تضمن تصريحات لخوستي قال فيه إنه يترأس مجموعة من المغردين وظيفتهم إدارة وسائل التواصل الاجتماعي لطالبان بالتركيز على تويتر، وإن الحركة تدفع ألف أفغاني (11.3 دولار أمريكي) مقابل حزمة الإنترنت لكل عضو بالفريق.
4- يتسق مع ذلك احتمالات استخدام طالبان لتكتيك "التضخيم الدعائي" لهاشتاج بعينه، وقد سبق أن كشف تحليل لمختبر البحث الجنائي الرقمي DFRLab لهاشتاج #الفتح أنه تمت إعادة نشر تغريداته بوتيرة سريعة من خلال 67 حساباً متصلاً بالحركة، منها 50 حساباً خلال الشهر السابق على الانتخابات في سبتمبر 2019 بغرض التأثير على الناخبين.
5- استخدمت طالبان "السوشيال ميديا" للتعبير عن الأحداث برؤيتها من دون الاضطرار للخضوع لوسائل الإعلام التي طالما اتهمتها بالكذب والتضليل، بدءاً من نشر البيانات، مثل إحصاءات العمليات والقتلى والجرحى، حتى الهويات البديلة التي استخدمتها لوصف قوات التحالف كـ "غزاة" و"أعداء" و"إرهابيين"، وكذلك القوات الحكومية كـ "توابع" و"دمى" و"أذلاء". وهذا ما سبق أن أشار إليه الباحث الأمريكي فينسينت بيرناديس في دراسة أجراها عام 2014 حول استخدام طالبان لتويتر.
6- استخدمت الحركة المواد المرئية الحية وابتعدت عن التعبيرات الجرافيكية بشكل كبير؛ نظراً لرغبتها في التأكيد على هدوء الأوضاع وتقديم صورة لأفغانستان المستقرة، من وجهة نظرها. وبثت طالبان صوراً ومقاطع تقديم المساعدات، وتشغيل المدارس، وانتظام الشوارع، وتسليم السيارات الموقوفة للمواطنين، وافتتاح مركز لذوي الاحتياجات الخاصة، وغيرها من المواد المصورة التي تمنح مصداقية للمحتوى المقدم، لاسيما عند اتهام الحكومة السابقة بالفساد، مثل مقطع الفيديو الذي انتشر للعثور على ملايين الدولارات وسبائك ذهبية في منزل أمر الله صالح، النائب الأول للرئيس السابق أشرف غني.
7- استخدمت طالبان الوسوم للتغريد تحت هدف أو موضوع واحد، وظل التغريد تحت وسمي #الفتح لنشر أخبار التقدم العسكري، و#جريمت لاتهام القوات النظامية بارتكاب العنف ضد المدنيين؛ من أكثر الوسوم المستخدمة على حسابات متحدثي الحركة، لاسيما في فترات المواجهات العسكرية التي سبقت انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان. فيما تم استخدام وسوم أخرى للتعبير عن الوحدة الوطنية عقب الانسحاب الأمريكي، مثل هاشتاج الهوية الوطنية الأفغانية (#افغانۍ_زموږ_ملي_هویت) للتشجيع على استخدام العملة الوطنية الأفغانية.
8- اتبعت حركة طالبان تكتيكات للتغلب على حظر منصاتها الرقمية، مثل استخدام مواقع بديلة مثل streamyard لبث الفيديو بدلاً من يوتيوب، وكذلك التراسل عبر تيليجرام، فضلاً عن استخدام موقع Just paste it وتطبيق تيليجرام لمشاركة النصوص الطويلة التي يصعب نشرها على تويتر، ولا يمكن الاكتفاء بوضعها على المواقع الإلكترونية للحركة التي يصعب الوصول إليها، فضلاً عن التحايل بإنشاء صفحات حديثة على فيس بوك لا تعلن انتماءها الصريح لطالبان، وتنشر محتوى محدوداً يُعاد نشره على تويتر، ومشاركة المحتوى من قنوات إخبارية مستقلة على يوتيوب مثل آسيا اليوم وشبكة تولو نيوز الشعبية.
محددات حاكمة:
اكتسبت حركة طالبان خبرة في استخدام تويتر، دفعت بعض الحقوقيين لاتهامها بتوظيف شركة علاقات عامة لإدارة حساباتها، إلا أن ذلك يُعد غير مرجح بالنظر إلى خصوصية الوضع السياسي، وكذلك التقدم الذي أثبتته كوادر طالبان في استخدام الوسائط التقنية. بيد أن مستقبل استثمار الحركة لشبكات التواصل الاجتماعي كمنافذ تفاعلية تعبر من خلالها عن سياساتها، يرتبط بمجموعة من المحددات؛ أولها الوضع السياسي للحركة، إذ إن نجاحها في اقتناص اعتراف دولي بها، سيرفع الحظر الذي تفرضه المنصات ضدها. كما سيكتسب التدوين بصفة رسمية مؤسسية تأثيراً أكبر من التدوين بحسابات شخصية حتى وإن كانت لقياديين، ما ينقلها من الخطاب الحركي إلى الخطاب المؤسسي الأكثر انسجاماً مع صورة الدولة لا التمرد.
أيضاً، فإن الاستراتيجية المقبلة لحركة طالبان تجاه الحرية على الإنترنت، ستحكم إلى حد بعيد وجودها الرقمي، إذ إن الفضاء الإلكتروني كما يمنحها صوتاً للتعبير عن نفسها، فهو يمنح معارضيها أصواتاً أيضاً. وكانت هناك بالفعل موجة من المعارضة الأفغانية عبر الإنترنت، حيث تمت مشاركة مقاطع فيديو للاحتجاجات في شوارع كابول والأوضاع في العاصمة، والتي لا تزال تنتشر في نطاق ضيق ولكن احتمالات توسعها يضع طالبان أمام اختبار حقيقي لقيم تبني سياسات النشر الرقمي والتي يأتي تمكين الأفراد والمساءلة وحرية التعبير في القلب منها.
ولا يمكن المبالغة في تقدير نشاط طالبان على شبكات التواصل الاجتماعي، لاسيما في ظل الحصار الذي تفرضه هذه الشبكات عليها، ولكن لا يمكن إغفال التحول النوعي في الخطاب الإعلامي للحركة عبر تلك الشبكات، والمزايا النوعية التي منحتها لها، والتي لا يمكن قصرها على المكاسب الدعائية الفورية لطالبان، ولكنها تلعب دوراً طويل الأمد في تعزيز قوتها الناعمة ودعم شرعيتها داخلياً وخارجياً، ودرء الدعاية السلبية التي تسببت فيها مشاهد الهروب على عجلات الطائرات في مطار كابول، وكذلك التغريدات المضادة من قِبل الهاربين/ الناجين. وهذا لن تنجح "السوشيال ميديا" وحدها في تحقيقه ما لم توافقه تطورات حقيقية تثبت قدرة طالبان على ضبط استقرار أفغانستان وتأسيس دولة معاصرة، ليس فقط بالانتصار في المعارك العسكرية، وإنما بتشكيل تصورات القوة والقدرة التي يلعب فيها الإعلام والتكنولوجيا دوراً كبيراً.