عرض: هدير أبو زيد - معيدة العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية
تقليدياً، تتعلق الديمقراطية في النموذج الغربي بتمكين أصوات المواطنين لاتخاذ قرار جماعي يكشف عن تفضيلاتهم للحكومة، كاختيار من يجب أن يتولى السلطة وكيف ينبغي استخدامها، في المقابل يميل المنظِّرون الديمقراطيون إلى إدراك الصمت – فشل أو رفض المواطنين في المشاركة السياسية - كدليل على أوجه القصور في الديمقراطية.
في هذا السياق، يجادل "شون دبليو دي جراي Sean WD Gray"، المُحاضر في الدراسات الاجتماعية بجامعة هارفارد، الحاصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة كولومبيا البريطانية بكندا، في مقالته المعنونة: "نحو ديمقراطية نظرية الصمت"، بأن المنظِّرين الديمقراطيين في الدول الغربية فشلوا في إدراك معنى "الصمت"، حينما فسروه على أنه يشير إما للرضا أو اللامبالاة، وعليه يجب تجاهل صمت الناخبين.
في المقابل، حاول الكاتب التأكيد على إمكانية التعامل مع الصمت، كشكل من أشكال التواصل السياسي، وذلك بتحديد ماهية ومضمون مفهوم الصمت في السياسة، بتقسيمه إلى نوعين "الصمت الضعيف" و"الصمت الاتصالي"، وكذلك الشروط التي ينبغي توافرها لاعتبار الصمت خياراً فعَّالاً داخل الأنظمة الديمقراطية، وأخيراً الآثار التي يُمكن أن تترتب على خيارات الصمت المختلفة.
الصمت الضعيف/ العاجز:
يُميز الكاتب بين نوعين من الصمت الضعيف الذي يفتقد لآليات التمكين السياسي، النوع الأول: الإسكات المباشر، وفيه يكون الصمت الضعيف نتيجة لمعوقات المشاركة في التصويت، حيث يتم إسكات المواطنين بالاستبعاد السياسي، وعدم المساواة المادية بينهم، فالسمة المميزة للإسكات المباشر هنا هي إنكار حقوق الإنسان الأساسية، بما في ذلك الحق في تكوين الجمعيات والتحدث عنها والتصويت، فضلاً عن العجز في القدرات والموارد - الوقت والمال والمهارات والمعلومات - فالأفراد الذين لديهم عدد أقل من الموارد يكونون أقل قدرة على تحمل تكاليف الانخراط في السياسة، وأقل احتمالاً للانضمام إلى الأحزاب السياسية أو النقابات أو المنظمات المدنية ولديهم فرص أقل للتعبير عن الرأي، خاصة خارج الانتخابات. وبما أن خيارات التصويت أصبحت صعبة أو مكلفة أو غير متوفرة، إذن يصبح الصمت هو الخيار الوحيد لدى المواطنين، ما يعني أن عدم التمكين يُنتج الصمت بشكلٍ مباشر.
أما النوع الثاني فهو الإسكات غير المباشر ويعني وجود العوائق في المشاركة التصويتية، وهو أكثر دقة مقارنةً بالإسكات المباشر، ويصعب اكتشافه لأنه تتم ممارسته في وضع تكون فيه المؤسسات والحقوق والموارد الأساسية متوفرة للمواطنين للمساهمة في عملية صنع القرار الجماعي. أضف لذلك، أن الإسكات غير المباشر ينبع من العوامل الاجتماعية التي تقوِّض سلطة ومصداقية بعض الأشخاص، لأنه يعتمد على الصور النمطية والأحكام المسبقة التي تستبعد المواطنين من المشاركة نتيجة لهويات معينة، كالجنس أو العرق أو الطبقة أو التوجه الجنسي، وهو ما يؤدي إلى انخفاض معدلات المشاركة بين المهمشين، وبالتالي انتشار الصمت السياسي.
الصمت الاتصالي/ التواصلي:
على العكس من الصمت الذي لا يتمتع فيه الشخص بالقدرات والموارد، ومن ثم عدم القدرة على التصويت والتعبير، هناك الصمت التواصلي الذي يتمتع فيه الفرد بالموارد المادية والمعنوية كافة، التي تمكنه من التصويت والمشاركة، لكنه يختار الصمت لإرسال رسالة معينة. في هذا الإطار، تحدث الكاتب عن أربعة أنواع من الصمت التواصلي:
أولاً: الصمت التواصلي العاطفي الذي يهدف إلى تغيير سلوك الجمهور عن طريق استخدام الصمت، كوسيلة للتعبير عن مواقف عاطفية، كالغضب أو الاستياء أو لمعاقبة الآخرين، وهو ما يستخدمه بعض السياسيين من خلال رفضهم الإجابة على العديد من أسئلة المراسلين خلال التغطيات الإعلامية، ومن ثم يُصبح الصمت وسيلة لمنع المراسلين من طرح تلك الأسئلة في المستقبل.
ثانياً: الصمت التواصلي البياني أو الإيضاحي الذي يعتمد على الاستنتاجات، وبالتالي يكون اختيار الأشخاص للصمت مجرد تصريح غير مُعلن عن تفضيلهم الشخصي أو رأيهم أو طلباتهم، حيث يتم الاستدلال على الموافقة أو الرفض أو حتى اللامبالاة، على سبيل المثال، من صمت المواطنين غير المصوتين.
ومع ذلك قد يؤدي هذا النوع من الصمت للعديد من المشاكل نظراً لاعتماده على الاستنتاجات التي من الممكن أن تكون مُضللة أو خاطئة، وهو ما تجلى في نجاح الرئيس الأمريكي الأسبق "ريتشارد نيكسون" في إقناع الرأي العام الأمريكي بأن صمت الغالبية العظمى من الأمريكيين يعني موافقتهم على سياساته الخاصة بفيتنام، ومن هنا جاء قرار الاستمرار بالحرب على الرغم من وجود "أقلية صاخبة" من المعارضين.
لهذا السبب، يؤكد الكاتب ضرورة أن تكون هناك بعض الوسائل المؤسسية للمواطنين لتوضيح وتفسير صمتهم بشكلٍ صحيح من دون تجاوز حقهم الديمقراطي في الصمت، فهناك بالفعل نقاشات جادة حول أفضل الطرق لكيفية تعامل الأنظمة الانتخابية مع الامتناع الصامت عن التصويت.
ثالثاً: الصمت التواصلي عن طريق الامتثال أو الانصياع الذي يتجلى في الصمت الجماعي؛ أي اتباع الشخص سلوك الآخرين نفسه إذا اتبعوا الصمت، وهو ما حدث خلال التصويت عام 1836 عندما منع مجلس النواب الأمريكي أعضاءه من مناقشة أي شيء يتعلق بموضوع العبودية، من خلال وضع سلسلة من "قواعد منع النشر".
رابعاً وأخيراً، الصمت التواصلي المنظم، وهو ما يتجلى في الالتزام المتبادل باحترام المعايير الشخصية للكياسة واللباقة والتأدب، كاستخدام الصمت للتعبير عن حُسن الاستماع، كشكل من أشكال آداب السلوك الاجتماعي، باختصار يمكن تعريف الصمت المنظم بأنه نوع من المجاملات المتبادلة التي تهدف إلى الحفاظ على الحوار، مما يُعزز من فُرص التفاعل الناجح، كما يضمن وجود فرص متساوية للتحدث، الأمر الذي يُمكن أن تستفيد منه النظم الديمقراطية، لاسيما في مؤسساتها التشريعية التي تعتمد على النقاشات والمداولات.
المواطنة الصامتة:
حاول الكاتب تحديد السمات المؤسسية للديمقراطية التي قد تسمح بأن يُصبح الصمت خياراً للمواطنين، فعلى الرغم من ارتباط الديمقراطية بآليات مثل التصويت في الانتخابات والتعبير اللفظي عن التفضيلات والآراء والمناقشة والتداول وفقاً للعديد من المنظِّرين الديمقراطيين الغربيين، إلا أن إمكانية ممارسة التصويت بحُرية في الديمقراطية يعتمد أيضاً على إمكانية الامتناع عن التصويت، باختصار يفترض تمكين التصويت مسبقاً تمكين الصمت أيضاً.
في هذا السياق، استشهد الكاتب بمجموعة من البيانات البارزة حول القيمة المُميزة للحق في الصمت، كأحكام المحكمة العليا الأمريكية، حيث أكد التعديلان الأول والخامس على الحق في التزام الصمت، فضلاً عن الدراسات القانونية التي تعتبر هذا الحق ضرورة أساسية ونتيجة طبيعية لمجموعات الحقوق والحريات الأساسية التي تحمي من الهيمنة، كالحق في الكلام والفكر والمشاركة والحق في الإجراءات القانونية الواجبة.
بهذه الطريقة، يُصبح الحق في الصمت هو أحد الشروط المهمة التي تجعل خيارات التصويت ذات قيمة حقيقية. بعبارة أخرى، أصبح الحق في الصمت شرطاً بنيوياً للتعبير عن الرأي في الديمقراطيات، ناهيك عما يحققه من فوائد في المؤسسات الديمقراطية وهو ما حدث مع ميك مولفاني عضو الكونجرس الأمريكي الذي التزم الصمت حينما طُلب منه التصويت على موضوع إعادة الانتخاب. في المقابل، لم يلجأ زميله الجمهوري جون بوينر للصمت كخيار، بل قرر أن يختار من بين البدائل العامة للتصويت والتي تتأرجح بين التصويت بنعم أو لا أو الامتناع رسمياً عن التصويت، وهو ما جعله يتعرض للعديد من المشاكل.
على الجانب الآخر، شكَّلت ممارسة هذا الخيار المتمثل في الصمت من مولفاني فرصة جيدة، فهي لم تقطع علاقته الرسمية بزملائه، ولم تُجبره على ذكر أسباب معارضته، ومن ثم أصبحت إمكانية المصالحة من وراء الكواليس مفتوحة، باختصار كان الاحتجاج الصامت الذي اتبعه مولفاني تكتيكاً استراتيجياً ساعده على توسيع خياراته.
الصمت الاحتجاجي
أشار الكاتب لعدد من النماذج التي أثبتت نجاح الصمت كوسيلة للمقاومة، حتى مع غياب الحقوق والحماية الكاملة، ومن أبرزها الوقفة الاحتجاجية الصامتة لــ "إردم جوندوز" الذي سار في يونيو 2013 في منتصف ساحة اسطنبول من دون أن يتكلم، احتجاجاً على حملة القمع التي تمت ضد الاحتجاجات العامة ضد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وهو ما أدى لانضمام مئات الأشخاص في صمت مماثل وانتشارهم في جميع أنحاء تركيا، وبناءً عليه لم تستطع الحكومة إدانة إردم جوندوز الذي استمر في استخدام الصمت كوسيلة لمواصلة المُعارضة رغم تهديد الحكومة.
كما ظهرت المقاومة الصامتة بشكلٍ بارز في النضالات من أجل المساواة والحقوق المدنية في الولايات المتحدة، وهو ما تجلى – على سبيل المثال- في دور الحزب الوطني للمرأة الذي كافح من أجل الاقتراع العام عن طريق ما اسموه بـــ "الحراس الصامتين" وهي مجموعة من السيدات عبَّروا عن "عدم تصويت المرأة" بالوقوف خارج البيت الأبيض ستة أيام في الأسبوع لمدة ثلاث سنوات كاملة من 1917 حتى 1919. بالمثل نجحت الرابطة الوطنية للملونين في عام 1917، في تنظيم "مسيرة الاحتجاج الصامت" التي ضمت أكثر من 10000 شخص في نيويورك للضغط على الرئيس وودرو ويلسون للوفاء بوعوده بسن قوانين اتحادية لمكافحة الإعدام خارج نطاق القانون.
ختاماً، يؤكد الكاتب أهمية التعامل مع الصمت، كشكل من أشكال المشاركة السياسية عن طريق الربط بين الاستخدامات التواصلية للصمت في السياسة لتغيير أنماط المشاركة، والتفكير بعناية في كيفية تفسير الأدوار التي يلعبها الصمت في الأنظمة الديمقراطية بشكل عام.
المصدر:
Sean WD Gray, “Towards a Democratic Theory of Silence”, Political Studies Association, September 6, 2021, Available at: https://doi.org/10.1177/00323217211043433 , pp.1-20