ثمة تغييرات سياسية مهمة في النخب الحاكمة في كل من إسرائيل وإيران، وجاء ذلك على أثر انتخابات تشريعية مبكرة شهدتها الأولى في مارس 2021، وأدت إلى تشكيل ائتلاف حكومي جديد برئاسة نفتالي بينيت، زعيم حزب "يمينا"، ووافق عليه الكنيست في 13 يونيو الجاري، بالإضافة إلى انتخابات رئاسية أُجريت في إيران يوم 18 يونيو الجاري وفاز فيها المحافظ المتشدد إبراهيم رئيسي.
وألقت هذه التطورات السياسية الداخلية في تل أبيب وطهران بظلالها على المشهد السياسي في البلدين، ويُتوقع أن يكون لها أثر على مسار الصراع غير التقليدي بين الطرفين، والذي اشتد خلال الأشهر الماضية، مُتخذاً أبعاداً جديدة.
تغييرات متزامنة:
شهد الداخل الإسرائيلي والإيراني على التوالي تغييرات سياسية على مستوى الحكومات، وجاءت نتائج الاستحقاقات الانتخابية في كل منهما متوافقة مع ما سبقها من تطورات، وذلك على النحو التالي:
1- تشكيل حكومة "بينيت – لابيد" في إسرائيل: شهدت تل أبيب قبيل الانتخابات التشريعية الأخيرة انسداداً في الأفق السياسي استمر لأشهر، في ظل عجز رئيس الوزراء السابق، بنيامين نتنياهو، عن جمع الفرقاء السياسيين وإعادة الأحزاب اليمينية المنشقة عنه، وعدم تحقيق حزبه "الليكود" أغلبية تضمن تشكيل الحكومة. في حين استطاع نفتالي بينيت، رئيس حزب "يمينا" المتشدد، تشكيل ائتلاف حكومي بعد حصوله على موافقة 60 عضواً في الكنيست مقابل 59 صوتاً للمعارضة، التي تضم أحزاباً يمينية ودينية، أبرزها الليكود، وشاس، وحزب الصهيونية الدينية، وحزب يهدوت هتوراة.
فيما تضم الحكومة الجديدة أحزاباً متنوعة الأطياف، أبرزها الحزب الوسطي "هناك مستقبل" بزعامة يائير لابيد، وأحزاب من يمين الوسط إلى اليسار، إلى جانب القائمة العربية الموحدة، ليتولى بذلك بنيت منصب رئيس الوزراء حتى سبتمبر 2023، على أن يخلفه في هذا المنصب يائير لابيد لمدة عامين آخرين.
2- فوز "رئيسي" في إيران: وصفت الانتخابات الرئاسية الأخيرة في إيران من جانب البعض بأنها كانت محسومة للمرشح الأكثر حظاً إبراهيم رئيسي، رئيس السلطة القضائية، الذي حصد 62% من أصوات الناخبين. وقد أُثير قبل هذه الانتخابات جدل واسع النطاق حول السياسات التي مارسها مجلس صيانة الدستور على قائمة المرشحين للرئاسة، واستبعاده أبرز الوجوه الإصلاحية، وعدداً من الشخصيات المحافظة، ليحصر المجلس السباق الرئاسي في 7 مرشحين فقط، وهو ما استتبع انتقادات لذلك ربما أثّرت بشكل ما على نسبة المشاركة السياسية التي بلغت 48.8% فقط. وفي ضوء نتائج تلك الانتخابات، سيتولى رئيسي منصبه رسمياً في أغسطس المقبل ليخلف بذلك الرئيس حسن روحاني، حيث ينتظر الأول العديد من التحديات الداخلية والخارجية، وعلى رأسها الأزمة الاقتصادية، وجائحة كورونا، والملف النووي، والتصعيد المتبادل مع إسرائيل.
اهتمام متبادل:
تبادل الجانبان الإيراني والإسرائيلي ردود الفعل حول ما آلت إليه نتائج الاستحقاقات الانتخابية وما تبعها في الدولتين، فسرعان ما أعلنت طهران عن ارتياحها لرحيل رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، بنيامين نتنياهو، وجاء ذلك على لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، سعيد خطيب زاده، يوم 13 يونيو الجاري بقوله: "رحل أعداء بلادنا"، لكنه في الوقت نفسه استبعد حدوث أي تغيير في سياسة إسرائيل الخارجية والأمنية تجاه إيران، أو في موقف طهران من "عدوها التقليدي" إسرائيل.
ومن جانبها، اهتمت الدوائر الإسرائيلية على اختلافها بفوز إبراهيم رئيسي في انتخابات الرئاسة الإيرانية، حيث وصفت الخارجية الإسرائيلية رئيسي بأنه "الزعيم الأكثر تطرفاً في إيران"، وأنه سيعمل على تسريع البرنامج النووي العسكري الإيراني. كما غرّد المتحدث باسم وزارة الخارجية الإسرائيلية، ليئور هايات، على موقع تويتر، يوم 19 يونيو الجاري، قائلاً: "إن انتخاب رئيسي ينبغي أن يثير قلقاً شديداً لدى المجتمع الدولي". كذلك ناقش اجتماع وزارة الدفاع الإسرائيلية، الذي عُقد في 17 يونيو الحالي، توجهات رئيسي وتأثيرها على مستقبل الملف النووي، وإدارة العلاقة الصراعية مع إسرائيل، ونشاطات إيران خارج حدودها.
أما الدوائر البحثية في تل أبيب، فقد استبعدت أن يشكل رئيسي تغيراً في السياسة الإيرانية الخارجية، حيث اعتبرت مسؤولة الملف الإيراني في المعهد الإسرائيلي للدراسات الاستراتيجية "INSS"، سيما شين، "أن المرشد الأعلي علي خامنئي هو المقرر للسياسة الخارجية والداخلية في إيران، وأن تسهيل وصول رئيسي إلى مقعد الرئاسة، إنما يهدف إلى تحضيره لخلافة خامنئي".
محددات التأثير:
مع صعود نخبة حاكمة جديدة في كل من إيران وإسرائيل، فإن ثمة تساؤلاً يطرح نفسه حول مصير العلاقات المتوترة بين البلدين، وهل ستتجه نحو التهدئة أم مزيد من التصعيد؟ وتأتي الإجابة على هذا التساؤل من خلال الإشارة إلى عدد من العوامل والمحددات الرئيسية التي تحكم طبيعة العلاقات بين طهران وتل أبيب، ومن أهمها الآتي:
1- وجود ثوابت سياسية: لا يخفى أن لكلا الطرفين، الإيراني والإسرائيلي، ثوابت سياسية واستراتيجية لا يتم المساس بها مهما اختلفت توجهات النخبة الحاكمة في البلدين. ففي إيران، يعد رئيس الجمهورية رئيساً للسلطة التنفيذية، وتنحصر مهامه في تنفيذ السياسات العليا للدولة، التي وُضعت خطوطها العريضة من قِبل المرشد الأعلى. وليس أدل على ذلك من العراقيل التي وضعت أمام الرئيس المنتهية ولايته، حسن روحاني، في العديد من الملفات الداخلية، ما أدى إلى تعثر خططه الاقتصادية والاجتماعية التي سبق أن أعلن عنها ضمن برنامجه الانتخابي. كما شهدت فترة رئاسة روحاني امتداداً للسياسات التوسعية خارج حدود إيران، فتزايد نشاط طهران في العراق وسوريا واليمن ولبنان.
وبالتالي فإن المساحة الممنوحة للرئيس الإيراني، ثابتة، وهي قد تضيق وتتسع حسب قربه من المرشد الأعلى والدوائر التابعة له، ومدى التزامه بتنفيذ الخطوط العريضة للسياسات الموضوعة مسبقاً، وبنهج يحافظ على هيبة النظام الإيراني، وشعاراته التي يروج لها في الداخل والخارج.
وفي إسرائيل، فإن العقيدة التي بُنيت على أساسها الدولة وشكلت مؤسساتها، هي عقيدة ثابتة قائمة على بسط النفوذ وتكوين "لوبيات" للحفاظ على المصالح الإسرائيلية، فضلاً عن إضعاف الخصوم، ومحاولة كسب ود المحايدين وأصحاب المصالح المحتملين.
2- استمرار الملفات الخلافية: تقوم العلاقات بين إيران وإسرائيل على "العدائية العلنية" التي تحملها تصريحات الطرفين، في ظل وجود عدد من القضايا الخلافية بينهما، وهي كالتالي:
أ- الملف النووي الإيراني: ترفض إسرائيل أي اتفاق دولي من شأنه إضفاء الشرعية على البرنامج النووي الإيراني، وتقود في هذا السياق جهوداً للضغط على الولايات المتحدة للاستمرار في الانسحاب من الاتفاق الذي وقعته مجموعة (5+1) مع طهران في عام 2015، وذلك قبل أن تنسحب إدارة الرئيس السابق، دونالد ترامب، من هذا الاتفاق في عام 2018.
وأعلنت إسرائيل رفضها المفاوضات مع طهران، مؤكدة أن الانخراط معها في اتفاق نووي هو "خطأ كبير"، وأنها لن تسمح باستكمال البرنامج النووي الإيراني، وهو ما أكده رئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينيت، خلال جلسة منح الثقة للحكومة في الكنيست، قبل أن يتخذ قراراً بإلغاء حظر مناقشة الاتفاق النووي مع المسؤولين الأمريكيين، والذي فرضه رئيس الحكومة السابق، نتنياهو؛ وذلك في محاولة من بينيت للاستفادة من الفرصة الأخيرة التي ستستمر لحوالي شهر قبل تنصيب رئيسي، للتأثير على الإدارة الأمريكية للعدول عن الانخراط في الاتفاق النووي مجدداً، أو على الأقل تحسين شروطه، في ظل توقع أن تكون المفاوضات مع حكومة رئيسي أصعب وأقل مرونة.
وفي المقابل، تعمل إيران حالياً على استكمال مفاوضات فيينا مع القوى الدولية المعنية، وبحضور أمريكي عبر وسطاء، للوصول إلى اتفاق يضم الولايات المتحدة، ويتوافق مع شروط طهران. فيما تشير التصريحات الإيرانية والغربية إلى أن أغلب البنود الخلافية بين الجانبين قد تم التوافق بشأنها، في الوقت الذي تسعى فيه كل الأطراف المعنية إلى إسراع التوصل لصيغة نهائية للاتفاق الجديد قبل انتقال السلطة للرئيس الإيراني الجديد، إبراهيم رئيسي، في أغسطس المقبل، والذي أكد بدوره في 21 يونيو الجاري دعمه مفاوضات فيينا، مع تحقيق المطالب الإيرانية، وعدم التفاوض على أي قضية خارج إطار الاتفاق النووي؛ وذلك في إشارة إلى رفض رئيسي تضمين أي اتفاق جديد البرنامج الصاروخي لإيران وتدخلاتها الإقليمية.
ب- الدعم الإيراني لحركة حماس: لا تدخر طهران فرصة للتأكيد على دعمها القضية الفلسطينية في مواجهة إسرائيل، وخصص النظام الإيراني يوماً لنُصرة القدس، يتم فيه رفع شعارات مُعادية لإسرائيل. وفي هذا الإطار، ربما تحولت حركة حماس إلى ورقة ضغط إيرانية على إسرائيل، وهو الأمر الذي لا تستطيع الأخيرة تجاهله.
3- القدرة على المناورة: في ظل استمرار الملفات الخلافية بين إيران وإسرائيل، وثبات الرؤى والسياسات الحاكمة لكلا البلدين، يبقى تعاملهما مع بعضهما مرهوناً بهامش المناورة المتاح لكل منهما. ففي الوقت الذي ربما أثبتت فيه إسرائيل قدرتها على اختراق الداخل الإيراني، والوصول إلى أجهزة تشغيل منشآتها النووية وبنيتها التحتية، وفقاً لبعض التقارير، تجد طهران نفسها مدفوعة إلى استخدام ورقة ضغطها في الجوار الإسرائيلي، بل وتوسيع هامش المناورة باستهداف المصالح الأمريكية والإسرائيلية في العديد من العواصم العربية التي تمتلك فيها وكلاء. ولكن يظل الطرفان الإيراني والإسرائيلي في غنى عن خلق جبهات مفتوحة لصراع مباشر في الوقت الحالي، ومن غير المتوقع أن يختلف هذا التوجه كلياً بصعود الوجوه السياسية الجديد لسدة الحكم في البلدين.
ختاماً، يمكن القول إن مصير الاتفاق النووي الإيراني مع مجموعة (5+1) الدولية على ضوء نتائج مفاوضات فيينا الجارية في هذا الشأن، يظل محدداً مهماً لسياسة إيران وإسرائيل تجاه بعضهما البعض، خاصة مع تولي حكومتين جديدتين المسؤولية في البلدين، وبالتالي سيكون الأمر إما العودة إلى "العلاقات العدائية المنضبطة" - إذا جاز التعبير-، أو الوصول إلى مستوى جديد من التوتر والتصعيد المتبادل.