الثقافة الغربية، والأميركية بوجه عام، كانت تعتبر «الآيديولوجية» من سمات الدول المتخلفة أو الديكتاتورية بوجه عام، والتي تحتاج إلى مجمع من الأفكار، التي تستخدم للحشد والتعبئة الداخلية وتبرير الواقع الصعب الذي تعيشه الدولة. الليبرالية والديمقراطية لم تكن تدخل ضمن هذا الإطار الجامع، لأنها تقوم على «التعددية»، وقبول الآخر، والتنوع الثقافي، ولأن السياسة فيها تقوم على لعبة قوامها التوافق، والبحث عن الحلول الوسط، عبر عملية تلعب فيها ثقافة مشتركة دوراً مهماً للتوصل لحل الخلافات، وإذا ما تعذر الأمر فإن التصويت الذي ينتج أغلبية وأقلية يحسم الأمر، فلا يكون هناك صراع، ولا امتشاق لسلاح.
الروح «الرياضية» هكذا مفترضة، وذائعة، وهي في النهاية التي تقود الجميع إلى طريق الصواب الذي يقيم قرارات سياسية واقتصادية واجتماعية صائبة. ولكن في الحياة الأميركية فإن الافتراض أمر، والواقع والحقيقة شيء آخر؛ فرغم كل شيء فقد عرفت الولايات المتحدة الآيديولوجية منذ الثورة الأميركية حتى الآن، وإن كانت حدتها تختلف من عصر إلى آخر. وفي البداية فإن الثوار الأميركيين عملياً انقسموا بين فريقين سياسيين، كانت لكل منهما آيديولوجية خاصة؛ وكانت لكل منهما وثيقة يستند إليها، فالأكثر إيماناً بالمساواة والحريات الشخصية استندوا بشدة إلى إعلان الاستقلال الأميركي الذي أقرّ بهذه المبادئ، أما الآخرون فقد استندوا إلى الدستور الذي أقرّ «العبودية» باعتبارها واحدة من الأركان الاقتصادية للدولة. وسرعان بعد إقامة الدولة ما انقسمت مرة أخرى حول الموقف من الثورة الفرنسية ومبادئها المنادية بالحرية والإخاء والمساواة، فكان هناك من رأى ذلك امتداداً للثورة الأميركية الأولى، وكان هناك من أصرّ على إقرار قانون «الفتنة والغرباء» الذي يعاقب كل من يتبنى المبادئ الفرنسية باعتبارها داعية إلى الفتنة والانقسام. وبالطبع عندما جاءت الحرب الأهلية الأميركية (1860 - 1865) فإنها عبرت عن انقسام حاد في المجتمع لم ينفع فيه توافق ولا حلول وسط، ولم تكن المسألة متعلقة فقط بالعبودية، وإنما بالاتحاد الأميركي ذاته، وحق الولايات أو أصحاب الأفكار المخالفة في اتخاذ ما يرونه ملائماً لها، بما فيه الانفصال عن الدولة الاتحادية...
وبالطبع يمكن وصف ما جرى في أميركا قبل الحرب الأهلية وبعدها بأنه انقسام تقليدي داخل المجتمعات «الديمقراطية» ما بين القوى «التقدمية» التي تريد التغيير، والقوى «المحافظة» التي تريد الحفاظ على الأمر الواقع. وفي الحقيقة فإن هذه القوى الأخيرة لعبت دوراً كبيراً في التلاعب بنتائج الحرب الأهلية التي أدت إلى 3 تعديلات دستورية منحت الأميركيين من أصول أفريقية عتقاً وحقوقاً للترشيح والتصويت في الانتخابات العامة؛ ومع ذلك نجح المحافظون من خلال قوانين «جيم كراو» القائمة على مبدأ «متساوون لكن منفصلون» في تكريس العبودية في أثواب جديدة. ولم تكن العبودية وحدها هي الخط الفاصل بين الآيديولوجيات التي لا تلتقي، وإنما حقوق النساء والأقليات الأخرى من كاثوليك ويهود وسكان البلاد الأصليين.
«الكساد العظيم» ومن بعده الحرب العالمية الثانية وضعا أساساً جديداً للعلاقات الآيديولوجية الأميركية، وتحت قيادة روزفلت بات تدخل الدولة ممكناً، والحقوق للأقليات ممكنة إن لم يكن في المضمون فقد كان في الشكل. وبشكل ما أصبح الانقسام قائماً بين المحافظين والتقدميين على أساس من وجود الحزبين الكبيرين الجمهوري الذي كان تقدمياً في الحرب الأهلية تحت قيادة إبراهام لينكولن ثم صار محافظاً مع القرن العشرين؛ أما الديمقراطيون فقد حملوا العباءة «التقدمية» في أعقاب الحرب. ولكن في الواقع لم تكن هناك آيديولوجيات صافية، وإنما كان هناك ما يسمح بوجود قاعدة مشتركة في السياستين الداخلية والخارجية، ولذا لم تكن هناك معضلة في تبادل السلطة بين الجمهوريين والديمقراطيين منذ روزفلت حتى جورج بوش الأب.
بشكل ما كان تولي بيل كلينتون الرئاسة الأميركية فترة فاصلة بين عصر كان التوافق الأميركي عالياً، ربما باستثناء فترة الحرب الفيتنامية ورئاسة نيكسون، وفي عصره توافق الحزبان على السيادة الأميركية على العالم. وبعدها بدأت عملية الانقسام الأميركي، ليس فقط بين حزبين، وإنما بين آيديولوجيتين، واحدة منهما تريد التدخل الأميركي في العالم بالقوة الخشنة، والأخرى بالقوة الناعمة؛ وواحدة تريد للدولة أن تتدخل في حياة الأفراد وفي الرعاية الصحية خاصة، وواحدة تريد لقوى السوق أن تعمل. وجاء الاعتداء الإرهابي على مركز التجارة العالمي والبنتاغون لكي يعمق من هذا الانقسام. وعندما قرر جورج بوش الابن أن يقوم بالهجوم على أفغانستان، والعراق من بعدها، فإنه كان يعبر عن آيديولوجية متكاملة للمحافظين الجدد الذي يرون أن يكون القرن الواحد والعشرون قرناً أميركياً، ومن ثم وجب على أميركا أن تغير النظم السياسية بالقوة، وأن تعيد بناء الأمم على الشاكلة الديمقراطية الأميركية. الغريب أنه ما أن اتخذ جورج بوش قرار الحرب حتى اصطف كثيرون من الحزب الديمقراطي حوله، لم يكن الحزب صادقاً مع آيديولوجيته بحيث يقاوم حرباً سوف تدفع أميركا ثمنها غالياً، لكنه بدأ في فعل ذلك بمجرد أن باتت الحرب خاسرة. وربما كان هذا التواطؤ ناجماً عن أن الديمقراطيين في عهد أوباما كانوا يريدون تغيير العالم بوسائل أخرى ناعمة، برزت في التغييرات التي جرت في أوروبا الشرقية، ثم بعد ذلك في مناصرة فوضى «الربيع العربي». وفي الحقيقة، لم يكن المحافظون والتقدميون على مسافة بعيدة، بعضهم من بعض، وكان على تحول جديد أن يزيد الرقعة اتساعاً بين الطرفين.
المؤكد أن ترمب عكس تحولاً جديداً، ليس فقط في مواجهة الديمقراطيين، وإنما أيضاً في مواجهة المحافظين (رونالد ريغان، وجورج، بوش الأب) أو المحافظين الجدد (جورج بوش الابن) وإنما في مواجهة المؤسسة الأميركية في شقيها المحافظ والتقدمي معاً. كان الرجل يمثل المحافظين البيض الذين لا يريدون لأميركا أن تتورط في العالم، ولا للمؤسسة الأميركية بشقيها أن تدخل في الأمور الشخصية للمواطنين، ولا أن تغير من التركيبة الديمغرافية للولايات المتحدة عن طريق الهجرة الواسعة. المرجح هو أن بايدن يحاول أن يعود بالفكر الأميركي إلى أيامه الطيبة الأولى عندما كان المحافظون والتقدميون في جبهة أميركية واحدة؛ فهو ينتمي إلى المدرسة الفكرية التي تشاركت في الإطاحة بنيكسون، وأحضرت سوياً دونالد ريغان إلى البيت الأبيض. هي المدرسة الواقعية البراغماتية التي غلبت على التاريخ الأميركي في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
المعضلة الكبرى أمام هذه الآيديولوجية الرابعة في التاريخ الأميركي المعاصر أنها معرضة للضغط من اليمين، ليس الماثل في الحزب الجمهوري وحده، وإنما في ترمب و«الترمبية» التي تستعد للانتخابات المقبلة في 2024 من الآن، بينما تتربص بسياسات بايدن وما تراه فيها من ميول «اشتراكية». وكذلك الحال، فهي معرضة للضغط من اليسار حيث القاعدة التقدمية لبيرني سوندورز وإليزابيث وارين وجماعتاهما؛ وقاعدة الأميركيين الأفارقة واللاتينيين الذين يريدون فتح أبواب الهجرة على مصراعيها من أجل تغيير التركيبة الديمغرافية الأميركية مرة واحدة وإلى الأبد. بايدن هكذا واقع بين المطرقة والسندان حيث الاختبار الكبير للبراغماتية والواقعية الجديدة.
*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط