شهدت العلاقات الأمريكية-الروسية خلافات واضحة على المستوى الرئاسي تجلت في تصريحات للرئيس الأمريكي جو بايدن بحق نظيره الروسي فلاديمير بوتين. وهي التصريحات التي أثارت جدلًا حول خروجها عن الأعراف الدبلوماسية، وكذلك حول علاقتها بالسياسات الواقعية للدولتين، ومسارات العلاقة بينهما، وفي سياق متصل، بدأت العديد من وسائل الإعلام الروسية في التشكيك في صحة الرئيس الأمريكي "جو بايدن"، والادعاء بعدم صلاحيته لتولي زمام الأمور في واشنطن.
هجوم متبادل:
بدأت الأزمة الأخيرة بين واشنطن وموسكو على خلفية تصريحات أدلى بها الرئيس الأمريكي جو بايدن لتلفزيون "آي بي سي" في حوار أذيع 17 مارس الجاري، حيث رد الرئيس الأمريكي بالإيجاب على سؤال عما إذا كان يعتبر نظيره الروسي قاتلًا. كما أعلن بايدن أن بوتين سيواجه عواقب توجيه جهود سعت إلى التأثير في انتخابات الرئاسة الأمريكية في عام 2020 لصالح دونالد ترامب.
وقد رد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على تلك التصريحات في اليوم التالي قائلًا إن "القاتل هو من يصف الآخر بذلك". ودعا إلى إجراء محادثة ثنائية علنية ومباشرة عبر الإنترنت، يشاهدها الشعبان الأمريكي والروسي والشعوب الأخرى، في محاولة من الرئيس الروسي لإحراج نظيره الأمريكي، وإظهاره بمظهر المتخوف من الأحاديث المفتوحة وكشف الحقائق.
كما أعلنت وزارة الخارجية الروسية عن سحب سفيرها لدى الولايات المتحدة للتشاور، وبحث الخطوات المطلوبة، وتقييم آفاق العلاقات الثنائية، في خطوة نادرة الحدوث في الدبلوماسية الروسية. بينما أكدت وزارة الخارجية الأمريكية أنها لا تعتزم استدعاء سفيرها من موسكو.
وقد حاولت موسكو التشكيك في الحالة الصحية للرئيس "بايدن" والادعاء ضمنياً بأنه غير قادر على حكم الولايات المتحدة، حيث رد الرئيس الروسي بقوله: "أنا أعرفه جيدًا. بماذا سأرد عليه؟ كن بصحة جيدة. أتمنى له الصحة الجيدة. أقولها بدون سخرية ولا مزحة". في إشارة إلى سن بايدن الكبير وما إذا كان يجعله ينطق بأحاديث غير متزنة. كما سلطت وسائل الإعلام الروسية على تعثر بايدن 3 مرات أثناء صعوده الطائرة، والذي وظفته كحلقة جديدة في "سلسلة حوادث أثارت القلق بشأن الحالة الصحية للرئيس الأمريكي" إلى جانب وصف بايدن عن طريق الخطأ نائبته، كامالا هاريس، بالرئيسة.
دوافع التصعيد:
هناك عددٌ من العوامل التي يمكن عبرها تفسير التصعيد الأمريكي الأخير تجاه روسيا، والذي تجلى في تصريحات بايدن الأخيرة بحق بوتين، وكذلك العقوبات الأمريكية المفروضة على مسؤولين روس وكيانات روسية، ومن أبرز هذه العوامل:
1- حزم بايدن: بينما واجه الرئيس الأسبق دونالد ترامب انتقادات لعدم تعامله بحسم مع نظيره الروسي، والصمت على التورط الروسي في هجمات القرصنة، وكذلك واجه الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما انتقادات تتعلق بضعف مواقفه تجاه روسيا، والفشل في منعها في ملفات متشابكة مع موسكو، مثل ضم القرم والأزمة السورية؛ فإنه يسعى -على جانب آخر- إلى إبراز صورة مختلفة، محاولًا إبداء درجة كبيرة من الحزم تجاه نظيره الروسي. وقد أكد البيت الأبيض في بيان له عقب اتصال هاتفي جمع الرئيسين الأمريكي والروسي في يناير الماضي أن "الرئيس بايدن كان واضحًا في أن الولايات المتحدة ستتصرف بحزم للدفاع عن مصالحها الوطنية، ردًّا على أي أفعال من روسيا قد تضر بنا أو بحلفائنا". وقد أكد بايدن على عدم اعتراف واشنطن بالضم الروسي للقرم.
2- التدخلات الروسية: حيث أصدرت المخابرات الأمريكية تقريرًا رُفعت عنه السرية لتقييم المحاولات الأجنبية للتأثير على انتخابات 2020. ووفقًا لهذا التقرير فإن الرئيس فلاديمير بوتين سمح بمحاولات للتأثير على الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2020 من أجل الحد من فرص جو بايدن، وتعزيز احتمالية فوز دونالد ترامب، وذلك عبر ترويج وكلاء مرتبطين بالكرملين مزاعمَ مضللة تسعى إلى تشويه سمعة بايدن، وذلك بالإضافة إلى الاتهامات الأمريكية لموسكو بالوقوف خلف حملات القرصنة الإلكترونية التي تعرضت لها واشنطن العام الماضي. وهو ما تعهّد الرئيس جو بايدن بمحاسبة موسكو عليه.
3- تسميم نافالني: تُعتبر حادثة تسميم المعارض الروسي أليكسي نافالني، أحد أبرز الاتهامات التي توجهها الولايات المتحدة ودول أوروبية إلى روسيا. وقد أعلنت واشنطن في 2 مارس الجاري عن عقوبات بحق سبعة مسؤولين روس بارزين و14 كيانًا على صلة بإنتاج مواد كيميائية، وذلك على خلفية تورطهم في قضية تسميم ومحاولة قتل أليكسي نافلني. وخلصت المخابرات الأمريكية إلى وقوف الحكومة الروسية وراء الحادث وتدبيرها له بهدف قتل نافالني. وربما تكون هذه الحادثة هي إحدى العمليات التي يصف على إثرها الرئيس الأمريكي نظيره الروسي بالقاتل.
4- التوجهات الديمقراطية: أكدت وثيقة استراتيجية الأمن القومي الجديدة لجو بايدن على الدور الأمريكي في الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان عالميًا. وسيمثل حكم جو بايدن عودة للقيم الليبرالية الديمقراطية بمفهومها الغربي كأحد محددات السياسة الخارجية الأمريكية تجاه دول العالم. وهو ما جعل الإدارة الأمريكية تشتبك مع نظيرتها الروسية على خلفية احتجاز الحكومة الروسية للمعارض الروسي نافالني، وتعاملها مع الاحتجاجات. حيث أدانت واشنطن في يناير الماضي اعتقال نافالني وتعامل السلطات الروسية مع المحتجين، داعية إلى إطلاق سراح جميع المحتجين، والإفراج الفوري غير المشروط عن نافالني. وتعهدت الولايات المتحدة آنذاك بالدفاع عن حقوق الإنسان في روسيا أو في أي مكان تتعرض فيه هذه الحقوق للتهديد.
وقد دعا وزير الخارجية الأمريكي الأسبوع الماضي إلى إنهاء "اضطهاد الأصوات المستقلة" في روسيا بعد اعتقال نحو 200 مشارك في منتدى للمعارضة في موسكو.
سيناريوهات التصعيد والتهدئة:
تطرح الأزمة الدبلوماسية الحالية بين الولايات المتحدة وروسيا تساؤلات عن مستقبل العلاقة بينهما. وفي الوقت الذي تحرص فيه موسكو على اتخاذ موقف من التصريحات الأمريكية؛ إلا أنه من غير المرجّح أن ينفجر عن هذه الأزمة تصعيد كبير بين البلدين، أو عسكرة الأزمة، وهو ما يمكن إيجازه في النقاط التالية:
1- علاقات مستمرة: رغم سحب السفير الروسي للتشاور، إلا أنه من غير المرجح أن يذهب التصعيد الكلامي بين الرئيسين الأمريكي والروسي إلى قطع العلاقات بينهما أو عسكرة الأزمة، حيث أكد بوتين في 18 مارس أن بلاده لن تقطع علاقاتها مع واشنطن، بل ستعمل مع الولايات المتحدة فيما يصبّ في مصلحة روسيا. كما أن تصريحات بوتين المقابِلة تشير إلى ردود سياسية لا تُنبئ بحدة مبالغ فيها أو عسكرة.
2- توظيف روسي: أتاحت تصريحات بايدن فرصةً للرئيس الروسي لتسليط الضوء من جديد على المواجهة الروسية مع الغرب في ظل العقوبات المفروضة والتصريحات الهجومية والتوترات الدبلوماسية. وهو ما يُسهم في تجاوز بوتين للمشكلات الداخلية وتوجيه الأنظار نحو انعكاسات حكم بايدن على موسكو. وتظهر استطلاعات رأي روسية تزايد ثقة الروس في سياسات بوتين الخارجية أكثر من نظيرتها الداخلية. كما أن الرئيس الروسي يعمل على نسج روابط بين المعارضين الروس من جهة والغرب والولايات المتحدة من جهة أخرى لتبرير إجراءاته بحقهم، ولحشد الرأي العام بجانبه ضد "الخطر الغربي" و"عملائه"، وهو ما تسهم تصريحات وإجراءات بايدن الأخيرة في تدعيمه، والتي سيسعى بوتين إلى استثمارها لتحقيق مكاسب سياسية داخلية، خاصةً في ظل اقتراب موعد الانتخابات النيابية الروسية المقرر إجراؤها سبتمبر المقبل.
3- الخطر الروسي: يتعامل جو بايدن مع روسيا والصين بوصفهما دولًا استبدادية بنفوذ دولي، وهو ما يُمثل خطرًا على المصالح الأمريكية من جهة، وعلى القيم الأمريكية الليبرالية من جهة أخرى. ولذلك فإن الخطاب الأمريكي على المستوى الرئاسي سيكون واضح النقد، بل وحادًا أحيانًا، خاصةً فيما يتقاطع مع القيم الغربية التي يرى بايدن في التمسك بها جسرًا لعودة الدور الأمريكي في العالم، وهو ما ستعتبره موسكو تدخلًا في شؤونها الداخلية. كما أن الإدارة الأمريكية ترى في الأدوار الإقليمية الروسية خطرًا من المهم احتواؤه.
4- ملفات مشتركة: رغم أن البعض يرى في الأزمة الحالية وتدهور العلاقات الروسية-الأمريكية تهديدًا للتعاون الناشئ حول الملفات المشتركة، حيث كان من المنتظر أن تتشاور واشنطن وموسكو حول ملفات منها: الملف النووي الإيراني، وأزمة المناخ، والأزمة السورية، عقب نجاح تمديد معاهدة "ستارت الجديدة" مطلع هذا العام؛ إلا أن الإدارة الأمريكية الجديدة تنتهج سياسة مفادها إمكانية العمل المشترك مع روسيا في الملفات التي تحقق مصالح مشتركة للبلدين، شريطة ألا يكون ذلك مقرونًا بالصمت الأمريكي على ما تعتبره واشنطن أعمالًا روسية مسيئة، وهو أمر من المرجّح أن تتقبله روسيا ببراجماتية، شريطة أن يكون عند حدود معينة لا تتضمن إساءات كبيرة كوصف فلاديمير بوتين بالقاتل أو ما شابه ذلك، خاصة أن موسكو مددت معاهدة "ستارت الجديدة" في ظل استمرار العقوبات الخاصة بأزمة القرم.
5- مستقبل العلاقات: سترسم هذه الشهور الأولى من رئاسة جو بايدن، والأزمة الدبلوماسية الحالية، ملامح العلاقات بين واشنطن وموسكو خلال السنوات الأربع القادمة على الأقل. وسترسم روسيا سياستها الخارجية في ضوء هذه الملامح والتي استنتجت موسكو منها أن بايدن لن يسعى إلى تحسين العلاقات. وبشكل عام فإن العلاقات بين موسكو وواشنطن سيشوبها توتر حذر، حيث يرى بايدن في تزايد النفوذ الروسي خطرًا يهدد المصالح والقيم الأمريكية يجب احتواؤه والحد من نفوذه؛ إلا أن ذلك لن يمنع الوصول إلى تفاهمات مشتركة كما حدث في تمديد معاهدة "ستارت الجديدة".
إجمالًا، تمثل سنوات حكم جو بايدن مرحلة جديدة في العلاقات الأمريكية-الروسية تختلف عن العلاقات خلال فترة حكم دونالد ترامب، وتحاول أن تتجنب مثالب فترة حكم باراك أوباما. وستعمل الإدارة الأمريكية على توظيف البعد الديمقراطي وقيم حقوق الإنسان في سياستها تجاه روسيا، بل إنها ستكون أحد محددات تلك السياسة. إلا أن الطرفين سيحاولان قدر الإمكان إبعاد هذه الخلافات عن محاولات العمل المشترك في الملفات العالقة التي تحقق مصالح مشتركة لكليهما.
ومن غير المرجّح أن ينتج عن الأزمة الحالية تصعيد كبير بين البلدين، في ظل محاولات من المؤسسات السياسية البيرقراطية للاحتواء، إلا أن هذا التوتر والعداء الحذر سيكون عنوانًا للعلاقات بين موسكو وواشنطن خلال حكم بايدن وحزبه الديمقراطي الذي يرى في السياسات الروسية تهديدًا للمصالح والقيم الأمريكية، مما سيدفع نحو مزيد من العقوبات والانتقادات الحادة، في الوقت الذي ستعمل فيه المؤسسات البيروقراطية على الوصول إلى تفاهمات في الملفات التي تتضمن مصالح مشتركة.