أطلق رئيس حزب المستقبل "أحمد داود أوغلو"، في 2 يناير الجاري، تحذيرات من مخاطر توجه الحزب الحاكم وشريكه في السلطة "الحركة القومية" نحو إدخال تعديلات على قانون الأحزاب السياسية تُكرس حكم الفرد. وتزامنت التحذيرات مع كشف استطلاعات الرأي التي أُجريت نهاية العام الماضي، عن تراجع حضور الائتلاف الحاكم إلى ما دون 40% لصالح أحزاب المعارضة، بما فيها الأحزاب الجديدة: حزب المستقبل، وحزب الديمقراطية والتقدم.
ويتعرض الحزب الحاكم لتآكل في رصيده التقليدي في الشارع التركي، وحتى أوساط التيارات المحافظة بفعل التباطؤ الاقتصادي، وتأميم المجال العام. في هذا السياق، يسعى "أردوغان" نحو إدخال تعديلات على قانون الأحزاب، من بينها إلغاء نسبة 50+1، خاصة أنه أصبح يعي صعوبة حصد الأغلبية في الجولة الأولى مع تراجع شعبيته، وانخراط نحو 23 حزبًا في الحياة السياسية التركية خلال عام واحد.
ملامح التعديلات المتوقعة:
يطرح حزب العدالة والتنمية، وشريكه الحركة القومية، مسألة تعديل قانون الأحزاب السياسية تحت مسمى تشريعي جديد "قانون الأخلاقيات في السياسة"، وتتضمن التعديلات المتوقعة عددًا من الإجراءات، يمكن بيانها على النحو التالي:
1- وقف عمليات نقل النواب: تستهدف التعديلات المقترحة وقف عمليات نقل النواب بين الأحزاب، خاصة في ظل تصاعد الاستقالات المتكررة من الحزب الحاكم، وانضمام المنشقين إلى الأحزاب الجديدة، منها المستقبل و "ديفا"، فضلًا عن حزب "حركة الوطن" الذي أطلقه "محرم أنجه" في سبتمبر الماضي، ومن قبله حزب "اتحاد الأناضول (ABP)"، لمؤسسه رجل الأعمال "بدري يالتشين" في يناير الماضي.
وتتصاعد مخاوف "أردوغان" من عملية نقل النواب مع إعلان رئيس حزب الشعب الجمهوري استعداده لتقديم المساعدة للأحزاب الحديثة حال عقد انتخابات مبكرة، ومدها بنواب برلمانيين من صفوف حزبه، ليتسنى لها تشكيل كتلة برلمانية. وبموجب القوانين الحالية في تركيا، يجب أن تكون الأحزاب السياسية قد عقدت مؤتمرًا عامًّا وشكلت هياكلها الإقليمية في نصف محافظات البلاد البالغ عددها 81 على الأقل. كما تنص المادة 36 من قانون الأحزاب السياسية على أنه من حق أي حزب سياسي أن يخوض الانتخابات بشرط أن يكون لديه على الأقل 20 نائبًا.
وفي حال فشل الأحزاب الحديثة في تلبية المعايير الأولى فإنها ستحتاج إلى دعم الكتل البرلمانية الأخرى لتلبية المعيار الثاني. لذا، فإن وقف عملية نقل النواب من خلال إجراء تشريعي، قد تعوق دخول الأحزاب الجديدة، والتي تحمل توجهات مضادة ضد الحزب الحاكم من المشاركة في الاستحقاق الانتخابي المقبل.
2- إلغاء حاجز العتبة الانتخابية: ستخفض التعديلات المقترحة على قانون الأحزاب السياسية الحد الأدنى للتمثيل في البرلمان من 10% إلى 5%، وكذلك إعادة رسم المناطق الانتخابية بما يسمى "نظام المنطقة الضيقة" في تركيا، وهو مزيج بين النظام الحالي ونظام المنطقة ذات العضو الواحد، وسيزيد التعديل عدد الدوائر الانتخابية إلى 146 دائرة بحد أقصى خمسة نواب يتم انتخابهم من كل واحدة، وسيصعب على الأحزاب الصغيرة والجديدة الفوز بمقاعد في البرلمان.
3- نسبة الفوز في الاقتراع الرئاسي: تقضي التعديلات المقترحة بإجراء الانتخابات الرئاسية ضمن جولة واحدة بدلًا من جولتين، وإلغاء النسبة الاعتيادية للفوز، والتي تتمثل بضرورة حصول المرشح الفائز على (50+1). ويقترح النظام بدلًا من الحصول على أكثر من نصف الأصوات أن تقر التعديلات فوز المرشح الحاصل على أكثر الأصوات بالجولة الأولى حتى ولو كانت أقل من 50%، وإلغاء الجولة الثانية.
ويسعى الائتلاف الحاكم منذ وقت لتوفير بيئة مواتية لطرح وتمرير هذه التعديلات، ويكشف عن ذلك تأييد الرئيس التركي لتصريحات سابقة لوزير العمل التركي "فاروق تشاليك" في أكتوبر 2019، والذي دعا إلى ضرورة إلغاء شرط "50+1" لنجاح المرشح في رئاسة الجمهورية ليكون 40% فقط، حتى تنتهي الانتخابات من جولة واحدة، على حد تعبيره.
وكان "أردوغان" قد علّق خلال حفل افتتاح السنة التشريعية الجديدة للبرلمان في أكتوبر 2019، على تصريحات وزير العمل السابق، قائلًا: "هناك مساعٍ لإعداد مسودة لتعديل القانون المتعلق بهذا الشرط، وتقديمه للبرلمان"، وأضاف: "هذه الحالة تحتاج إلى تعديل دستوري. لذلك سيتم مناقشته في البرلمان. ويمكننا أن نقدم مسودتنا إلى المجلس، ويمكننا تنفيذ ذلك من خلال التعاون بين الحكومة والمعارضة".
دوافع حاكمة:
لم يكن الجدل الدائر في التوقيت الحالي عن إدخال تعديلات على قانون الانتخابات في تركيا هو الأول من نوعه، ففي 16 مايو الماضي طرح رئيس حزب الحركة القومية شريك الحزب الحاكم مسألة تعديل قانون الانتخابات، قائلًا: "يجب إجراء تعديلات على قانون الانتخابات. يجب إعادة النظر مرة أخرى في اللائحة الداخلية للبرلمان التركي. يجب إعادة كتابتها. يجب تلبية التوقعات المتعلقة بالحصانة البرلمانية. يجب إصدار قانون القيم السياسية". والأرجح أن ثمة اعتبارات متنوعة تدفع السلطة نحو إدخال تعديلات جديدة على قانون الانتخابات، وهو ما يمكن بيانه على النحو الآتي:
1- تقليص هيمنة الأحزاب الجديدة: تسعى السلطة الحاكمة إلى تقليص زخم الأحزاب الجديدة عبر إجراءات تشريعية على قانون الانتخابات، خاصة بعد نجاحات حققتها في اختراق الشارع التركي، وفي الصدارة منها حزب المستقبل، وحزب الديمقراطية والتقدم "ديفا". ووفقًا لقانون الأحزاب السياسية في تركيا، فإنّه يجب تواجد أي حزب سياسي فيما لا يقل عن نصف المقاطعات الـ81، وأن يعقد مؤتمره العادي مع مندوبين منتخبين قبل موعد الانتخابات التي يعتزم المشاركة بها بستة أشهر على الأقل.
على صعيد ذي شأن، باتت قطاعات معتبرة في الداخل التركي ترى في قيادات الأحزاب الجديدة فرصة لتحسين أوضاع الاقتصاد المأزوم، وكذلك التحايل على حالة الانقسام السياسي التي باتت العنوان الأبرز في البلاد.
وكشفت استطلاعات الرأي التي أُجريت في الشهور الماضية عن صعود شعبية "داود أوغلو" و"علي باباجان" على حساب "أردوغان"، حيث أظهرت تراجعًا واضحًا في شعبيته، وهو الأمر الذي يدفعه بالتنسيق مع حليفه القومي نحو إجراء تعديلات على قانون الانتخابات، تضمن تقليص نفوذ خصومه من جهة، ومن جهة أخرى القفز على التراجع الحادث في شعبيته.
2- منافسين "أردوغان": مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية المقررة عام 2023، تشهد الساحة حضورًا لافتًا لمنافسين محتملين للرئيس "أردوغان"، وخاصة "أكرم داود أوغلو" رئيس بلدية إسطنبول، و"علي باباجان" رئيس حزب "ديفا"، وكلاهما يحظى بشعبية كبيرة، ناهيك عن تمتعهما بميزات خاصة، حيث يمتلكان قدرة خطابية عالية، ولديهما قدرة على الإقناع، فضلًا عن أنهما يجمعان بين المدنية السياسية والمحافظة الاجتماعية ولديهما عدد من الإنجازات الاقتصادية والسياسية، وفوق ذلك قدرتهما على خلق مساحة مشتركة بين مختلف التوجهات السياسية والاجتماعية التركية.
ووفقًا لمسح أجرته مؤسسة "سونار" لاستطلاعات الرأي في الفترة بين 1 نوفمبر و27 ديسمبر الماضي، وظهرت نتائجه مطلع يناير 2021؛ تم اختيار رئيس بلدية إسطنبول المعارض "أكرم إمام أوغلو" ليكون أنجح رئيس بلدية للمدن الكبرى في تركيا، حيث حصل على 56.4% من الأصوات من سكان إسطنبول. وكان انتصار "إمام أوغلو" برئاسة بلدية إسطنبول في يونيو 2019، قد أنهى حكم حزب العدالة والتنمية الحاكم الذي امتدّ 25 عامًا للعاصمة الاقتصادية التي تضم حوالي 16 مليون شخص. كما سبق أن توصلت دراسة حديثة أجراها مركز "أوراسيا" لأبحاث الرأي العام نهاية عام 2020 إلى أن "أكرم أوغلو" سوف يهزم الرئيس التركي الحالي "أردوغان" بهامش مريح إلى حدّ ما إذا تمّ عقد تنافس رئاسي بينهما في الظروف الراهنة.
في المقابل، يتوقع أن يخوض السياسي الكردي "صلاح الدين دميرطاش" مجددًا الانتخابات الرئاسية المقبلة 2023 من محبسه، بعد مشاركته في يونيو 2018 وحصده المركز الثالث. وتتمثل نقاط قوة "دميرطاش" في عدد من النقاط: أولها توظيف "ديمرطاش" مظلوميته ببراعة في الأوساط الدولية، فثمة تعاطف غربي كبير معه، وثانيها أن "دميرطاش" صاحب شخصية كاريزمية، يحظى بتأثير عميق لدى مناصريه، فضلًا عن استقطابه مؤيدين من خارج الكتلة الكردية. وبشكل عام تتصاعد مخاوف "أردوغان" بالنظر إلى تراجع شعبية العدالة والتنمية في الأوساط الكردية بعد عزل رؤساء البلديات الكردية الفائزين في الانتخابات المحلية الأخيرة في مارس 2019، إضافة إلى عزل عدد واسع من النواب الأكراد في البرلمان التركي، وإحالة بعضهم للمحاكمة بتهمة الإرهاب.
3- عرقلة العودة للنظام البرلماني: تستهدف التعديلات المتوقعة على النظام الانتخابي حماية النظام الرئاسي الذي وفّر بيئة خصبة لتمكين "أردوغان" من إحكام سيطرته على مفاصل الدولة، وتتصاعد المخاوف على النظام الرئاسي مع وعد رئيس حزب الشعب الجمهوري في 30 ديسمبر الماضي بأنّ تحالف الأمة المعارض "سيعلن قريبًا عن خارطة الطريق للعودة إلى النظام البرلماني، بدلًا من النظام الرئاسيّ الذي انتقلت إليه البلاد قبل عامين".
وفي سياق متصل، ومع احتمال إجراء انتخابات مبكرة، تعمل المعارضة التركية على تنظيم صفوفها لتسريع العودة نحو النظام البرلماني، مستغلة الاستياء الشعبي من تنامي حالة الاستقطاب السياسي، وأزمة الاقتصاد.
4- تحقيق انتصار سهل: تستهدف التعديلات أيضاً توفير بيئة آمنة لفوز "أردوغان" حال وجود مرشحٍ وحيد للمعارضة. ويعي "أردوغان" أن توافق المعارضة على مرشح واحد يعني حرمانه من الحصول على النسبة المقررة للفوز، خاصة مع تراجع شعبيته، وصعود حضور المرشحين المحتملين لمنافسته في الشارع التركي. لذا، فإن إدخال تعديلات على قانون الانتخابات، وبالذات تقليص النسبة المقررة للفوز، يبقى مهمًّا لتأمين بقاء "أردوغان" في صدارة المشهد.
5- انقسامات التحالف الحاكم: يعاني حزب العدالة والتنمية انشقاقات غير مسبوقة، آخرها في 25 نوفمبر الماضي مع استقالة "بولينت أرينج" من منصبه في المجلس الاستشاري الأعلى للرئاسة بعد انتقاد "أردوغان" مطالبته بالإفراج عن اثنين من أبرز المعارضين السياسيين المعتقلين في تركيا: "صلاح الدين ديمرطاش"، ورجل الأعمال "عثمان كافالا". كما كشفت وسائل إعلام تركية في 9 نوفمبر الماضي، عن استقالة "صادق البيرق" من حزب العدالة والتنمية، بعد الإطاحة بنجله "بيرات البيرق" من وزارة المالية.
في المقابل، يعاني الحزب الحاكم توترًا مكتومًا تحت السطح بين أجنحة متناقضة الأهداف والمصالح داخل حزب العدالة والتنمية، يعبر عنها "صويلو" و"بيرات البيراق" صهر الرئيس، والرجل الثاني في الحزب رغم استقالته من منصبه الحكومي، فثمة خصومة قوية تفرق بينهما، خاصة أن كلًا منهما يسعى للإمساك بمفاصل الحزب وأعصابه الحساسة تمهيدًا لخلافة "أردوغان". على جانب آخر، ثمة توترات مستترة داخل حزب الحركة القومية في ظل رفض عدد من أعضائه تماهي "بهجلي" في التأييد المطلق لأردوغان، كما تشير استطلاعات الرأي إلى عدم قدرة حزب الحركة القومية على تجاوز الحد النسبي لدخول البرلمان.
هنا، يمكن فهم مساعي الرئيس التركي نحو تعديل القوانين المنظمة للعملية الانتخابية، بما يضمن تعزيز موقعه وشريكه في الحكم "بهجلي"، وأيضًا تقليص حضور خصومه.
ختامًا، يمكن القول إن التعديلات المحتملة تسعى بالأساس إلى تقليص نفوذ المعارضة، وقطع الطريق على الأحزاب الجديدة للحاق بالاستحقاق الانتخابي المقبل، إضافة إلى ضمان استمرارية "أردوغان" على قمة السلطة. كما لا تنفصل التعديلات المتوقعة عن تزايد المخاوف من ظهور مرشحٍ وحيد للمعارضة، وتزايد زخم الأحزاب الجديدة التي ظهرت على الساحة التركية قريباً، وتجلى ذلك في انتهاء حزب المستقبل في فترة وجيزة من بناء تشكيلاته في 53 محافظة، وعقد مؤتمره العام الأول في 2 نوفمبر الماضي، بينما عقد حزب "ديفا" المؤتمر العادي الأول له في 29 ديسمبر الماضي.