عرض: سارة عبدالعزيز - باحثة في العلوم السياسية
تعاني إيران منذ بداية فرض العقوبات الدولية والأمريكية عليها أوضاعًا داخلية واقتصادية صعبة، وفي حين مثّل الاتفاق النووي الذي تم توقيعه في عام 2015 انفراجة للدولة الإيرانية، فإن الانسحاب المفاجئ والأحادي الجانب للولايات المتحدة الأمريكية في عام 2018، وإعادة فرض العقوبات الأمريكية قد زاد الأمر سوءًا. وما لبثت الأوضاع أن انتقلت من سيئ لأسوأ في ظل الدفع الأمريكي بسياسة الضغوط القصوى، لتجد إيران نفسها في المقدمة مع بقية دول العالم أمام جائحة صحية عالمية، حيث جاءت جائحة (كوفيد-19) لتضيف إلى التحديات التي تواجه طهران.
وبناءً على ما سبق، يتناول المقال الحالي للكاتب كيفان هاريس، والذي يحمل عنوان "سياسة الوباء في إيران"، استعراض أهم العوامل المؤثرة على مستقبل الأوضاع في إيران في ظل استعداد التيارات السياسية للانتخابات الرئاسية في عام 2021، والتي تتراوح بين الأوضاع الاقتصادية الخانقة، بالإضافة إلى نزع المصداقية عن الإصلاحيين بقيادة الرئيس "حسن روحاني"، وترنح البلاد نتيجة لتأثيرات جائحة (كوفيد-19)، ومن ثم أصبحت الأوضاع أكثر صعوبة من أي وقت مضى.
الأوضاع الاقتصادية الخانقة
أدى انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي، واتباع سياسة الضغوط القصوى؛ إلى دفع الاقتصاد الإيراني بشتى السبل نحو التدهور، فالقيود المفروضة على صادرات النفط أدت إلى انهيار العملة الإيرانية، وسط محاولات البنك المركزي الإيراني وإدارة "روحاني" لتهدئة الألم التضخمي من خلال تقييد ودعم سوق العملات، الأمر الذي دفع صغار المنتجين والتجار في جميع أنحاء البلاد إلى رفع الأسعار، واكتناز الأصول، والمضاربة على أسعار السلع المختلفة.
ومع فرض المزيد من الإجراءات التقشفية على ميزانية الدولة المتعطشة للإيرادات، وعدم القدرة على الحصول على قروض من مؤسسات تخضع للتأثير الأمريكي مثل صندوق النقد الدولي؛ فقد واصلت مستويات المعيشة ومستويات الدخل في الانخفاض، وهو ما تزامن مع بداية انتشار الجائحة في إيران. كما أدت سيادة حالة من الركود العالمي إلى زيادة تراجع الطلب من الدول المجاورة على الصادرات الإيرانية غير النفطية من البلاستيك والمعادن والغاز الطبيعي.
وبشكل عام، فقد واجهت الدولة الإيرانية تحديًا في غاية الصعوبة خلال محاولتها إحداث قدر من التوازن بين الظروف الاقتصادية الصعبة والقدرة على اتخاذ التدابير الاحترازية لحماية الصحة العامة. ونتيجة لصعوبة الاختبار، فإنه يمكن القول بعدم قدرة القيادة السياسية الحالية على الوصول إلى نتائج مرضية، حيث يتحملون وطأة الانتقادات في الفترة التي تسبق الانتخابات الرئاسية في عام 2021، وهو ما يُضعف من فرص فوز "روحاني" في الانتخابات.
اهتزاز الشرعية السياسية
بالعودة إلى الانتخابات الرئاسية التي جرت في عام 2013، نجد أن "روحاني" قد فاز في تلك الانتخابات من خلال مزيج متنوع من المؤيدين من يسار الوسط ويمين الوسط، الذين يصعب دمجهم في قالب أيديولوجي واحد. إلا أن ما يجمعهم هو رفضهم لأي من المرشحين المحافظين الآخرين، خاصةً بعد الفترة المربكة لـ"محمود أحمدي نجاد". كما تم دعم "روحاني" -في النهاية- على مضض من جانب منظمات المجتمع المدني، وغيرها من المنظمات غير الحكومية. وفي المقابل، فقد تم تعبئة شبكات المعارضة من قبل احتجاجات "الحركة الخضراء"؛ إلا أن القاعدة الشعبية للتحالف الذي انتخب "روحاني" كانت أوسع بكثير من أي تجمع مضاد.
ومع ضعف التحالفات السياسية التي قدمت الدعم للمرشحين الليبراليين نسبيًّا بحيث أصبحت أكثر هشاشة وتقلبًا، فقد استخدام السياسيون المحافظون نقاشات طويلة الأمد حول المحسوبية البيروقراطية والشفافية المالية، والتي كانت تُستخدم ضدهم سابقًا كسلاح في اتهامات شاملة بالفساد ضد الطبقة السياسية بأكملها. وتحمس العديد من مسؤولي الدولة لدوافع مكافحة الفساد التي أدت إلى محاكمة شخصيات بارزة عبر الطيف السياسي بتهمة الاختلاس وتبديد الأصول العامة. فاعتبارًا من عام 2020، ووفقًا لرئيس القضاء الحالي "إبراهيم رئيسي"، حُكم على أكثر من ألف شخص بتهمة "الفساد المالي".
وعلى عكس المتوقع، فقد أدت عمليات التطهير في إيران إلى المساهمة في تعميق الغضب الشعبي، وذلك دون تحقيق أي انتصار استراتيجي. فبعد أشهر من إعادة انتخاب "روحاني"، اندلعت احتجاجات في الشوارع بمعظم المحافظات في ديسمبر 2017 بسبب تعدد المظالم الاقتصادية والقمع من قبل قوات الأمن الداخلي وشرطة مكافحة الشغب. وقد شكلت الاضطرابات في جميع أنحاء البلاد انتكاسة قوية في نوفمبر 2019، نتيجة رفع أسعار الوقود وسط الركود الناجم عن العقوبات، والاستجابة المالية الصارمة.
وقد شكّل ما سبق المناخ الذي انتشرت فيه جائحة (كوفيد-19) في إيران، وهو ما يفسر جزئيًا سبب حالة عدم الثقة المجتمعية في التصريحات الرسمية بشأن الفيروس، ومن ثم زيادة معدلات الانتشار بشكل غير المسبوق.
جائحة كوفيد-19
في حين يشغل بال الخبراء والمتخصصين في العلوم السياسية حاليًا محاولة تحديد أثر عدد من المتغيرات السياسية، مثل نوع النظام السياسي، أو الأيديولوجيا السائدة، أو المعايير الثقافية، لتفسير التباين الوطني في التعامل مع جائحة (كوفيد-19)، فإنه وفي الحالة الإيرانية التي تعد من أولى الدول التي شهدت انتقالًا مبكرًا للفيروس خارج شرق آسيا، حيث شهدت موجات متكررة من العدوى القاتلة في جميع أنحاء البلاد. فقد ساهمت العوامل السابقة مجتمعة في المضاعفة من تأثيرات الجائحة، بالإضافة إلى عوامل أخرى منها: الركود الاقتصادي طويل المدى، والداخل المنهك نتيجة للعقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة إلى عدم ثقة المجتمع في الالتزام بالتوجيهات التي فرضتها الحكومة، هذا إلى جانب عدم التطبيق الفعال لإجراءات الحد من السفر والتجمعات الاجتماعية داخل البلاد.
فبحلول نهاية سبتمبر 2020، بلغ عدد الوفيات نتيجة جائحة (كوفيد-19) أكثر من (26) ألف وفاة. ومن ثم، فإن نسبة الوفيات إلى عدد السكان التي بلغت حوالي (330) لكل مليون نسمة من السكان، تعد مرتفعة مقارنة بنظرائها الإقليميين مثل السعودية (144 لكل مليون)، وتركيا (104 لكل مليون)، ومصر (59 لكل مليون). وقد أعقب ذلك انخفاض مؤقت في عدد الحالات، وهو ما يمكن إرجاعه إلى محدودية إجراء اختبارات الكشف عن الفيروس، وكذلك ضعف القدرة الاستيعابية للمستشفيات.
وبشكل عام، يمكن توصيف سياسة التعامل مع الجائحة من جانب إيران بكونها جاءت عشوائية للغاية، بحيث لا يمكن التنبؤ بدرجة عالية من الثقة بحجم التداعيات التي تسببت فيها، والتي أنهكت الدولة المنهكة من الأساس.
كيف واجهت إيران الجائحة؟
تراوحت قدرة الدولة الإيرانية، في ظل القيود المفروضة عليها والتحديات التي تواجهها، في مواجهة جائحة صحية عالمية بحجم جائحة (كوفيد-19) بين النجاحات والإخفاقات، وهي التي وصفها الكاتب بمحاولة لشق طريق وسط بين قسوة الأوضاع الصحية والرغبة في البقاء الاقتصادي، ويمكن إبراز تلك النجاحات والإخفاقات على النحو التالي:
• بذلت وزارة الصحة والعاملون في النظام الطبي جهودًا واسعة الأثر لإزالة الوصمة عن المرض في المجال العام، وهو ما ساهم في تشجيع الأفراد على الإبلاغ عن الأعراض، والوعي بكيفية حدوث انتقال الفيروس، ومن ثم القدرة على تحجيم عملية الانتشار.
• على جانب آخر، أدى النقص الأولي في معدات الحماية، وأدوات التعقيم، ومجموعات الاختبار، والإمدادات الطبية، إلى تعزيز الاستفادة من القدرة الصناعية للبلاد والتي طال ركودها لإنتاج ما لا يمكن الحصول عليه محليًّا في الأسواق الدولية، بسبب العقوبات الأمريكية على المعاملات المالية. ومن ثم، تمت تعبئة تلك القدرات لتصب في صالح تغطية الطلب المحلي على المنتجات التي تواجه نقصًا على المستوى العالمي. هذا فضلًا عن ارتفاع أسعار تلك السلع نتيجة لنقص المعروض منها وحالة التهافت العالمي عليها.
• تم تفعيل بروتوكولات الإغلاق عبر الجهات المعنية، وفرض الحظر الجزئي والكلي في بعض المناطق، وإرسال الموظفين العموميين إلى منازلهم. كما تم الترويج للالتزام بارتداء الأقنعة الواقية.
أما عن أبرز الإخفاقات، فتتمثل فيما يلي:
• تأخر استجابة الحكومة في التعامل مع المناطق الموبوءة، وبصفة خاصة في المناطق الحدودية والمقاطعات النائية، حيث جاءت الاستجابة الحكومية عشوائية ومتأخرة.
•كما تم السماح بالسفر عبر البلاد، سواء لقضاء عطلة الربيع أو الحج، وذلك بشكل غير منظم وغير خاضع للالتزام الكامل بالضوابط الوقائية.
• وأخيرًا، سُمح للمدارس والجامعات بفتح أبوابها في سبتمبر، حيث بررت الحكومة قرارها باستئناف الدراسة بحقيقة أن ما يقدر بنحو (30%) من الطلاب غير متصلين بشبكة الإنترنت، مما يجعلهم غير قادرين على حضور الدروس عبر الإنترنت. ومع وصول الموجة الثالثة من الإصابات إلى ذروتها في خريف عام 2020، فرضت الحكومة أخيرًا قرارًا بضرورة الاستخدام العام للأقنعة في جميع أنحاء البلاد، كما هددت بفرض غرامة على سائقي سيارات الأجرة وأصحاب الأعمال الذين لم يمتثلوا لتوجيهات الالتزام بارتداء الأقنعة، وحظرت التجمعات العامة، بما في ذلك حفلات الزفاف.
أما على مستوى الاستجابة الاقتصادية، فيمكن القول إن الحكومة بذلت جهودًا على الرغم من محدوديتها، إلا أنها عملت كعازل ضد الآثار المركبة لحالة إغلاق الأعمال وخسارة الوظائف، ومن أهمها:
• إصدار وزارة التعاونيات والعمل والرعاية الاجتماعية تحويلًا نقديًّا لمرة واحدة من حوالي (43 دولارًا أمريكيًا) إلى (22) مليون أسرة عبر تطبيقات الهاتف المحمول، بالإضافة إلى تحويل شهري بقيمة (10-25) دولارًا لأفقر مليوني أسرة.
• كما عرضت الحكومة أيضًا برنامجًا كبيرًا من القروض للشركات التي احتفظت بعامل واحد على الأقل في كشوف رواتبها، وبحسب ما ورد من بيانات فقد استفاد أكثر من (5500) صاحب عمل من هذا البرنامج. وعلى الرغم من أن الحكومة وصفت هذه الإجراءات بأنها جاءت شاملة وواسعة النطاق؛ إلا أن التقييم الدقيق لمدى فعاليتها يحتاج إلى المزيد من الوقت.
ومع كل موجة متتالية من الوباء، وهي تلك الموجات الثلاث التي بلغت ذروتها في مارس ويوليو وسبتمبر؛ زادت الانتقادات السياسية ضد إدارة "روحاني" من شخصيات بارزة. فقد أشاد "مصطفى معين"، وهو طبيب ووزير سابق للعلوم من المعسكر الإصلاحي، بالدور الذي لعبه العاملون الصحيون في البلاد، إلا أنه أعرب عن أسفه لعدم وجود خطة حكومية لحمايتهم، وندرة المعدات الطبية المناسبة. فقد أشارت التقديرات إلى وفاة ما لا يقل عن (180) من العاملين الصحيين بسبب الجائحة في إيران.
كما ادعى رئيس بلدية طهران السابق وضابط الحرس الثوري "محمد باقر قاليباف"، رئيس البرلمان المحافظ حاليًا، على تويتر في أبريل أنه حذر الحكومة من أنها كانت متفائلة للغاية بشأن سيطرتها على الوضع الصحي في البلاد. وفي يونيو، أعرب المرشد الأعلى لإيران "آية الله علي خامنئي" عن أسفه لأن الوضع في مواجهة الجائحة أدى إلى تآكل المكانة الوطنية للدولة.
وعلى المستوى الشعبي، أصبح الفهم العام للتدابير الصحية وطرق الوقاية من فيروس كورونا منتشرًا في إيران، وذلك على الرغم من حالة الضجر العامة بسبب الإرهاق المتزايد من فرض القيود العامة والإحباط من السياسات الحكومية. فوفقًا لاستطلاع رأي أجرته جمعية استطلاع الطلاب الإيرانيين (ISPA)، زعم (70%) من المشاركين أنهم فقدوا مصدر دخلهم بعد الشهر الأول من انتشار الجائحة. وفي استطلاع رأي لاحق أعرب (12%) من المستجيبين عن اعتقادهم أن سبب الوباء هو غضب إلهي، بينما اعتبر (15٪) أنه مؤامرة ضد إيران من قبل دول أخرى، و(17٪) عن نقص النظافة بين السكان، و(26٪) إلى ضعف الحكومة.
وبشكل عام، أوضحت نتائج استطلاعات الرأي أن أولئك الذين نسبوا انتشار المرض إما إلى الإهمال الشخصي أو إهمال الدولة كانوا أكثر عرضة للقلق بشأن الإصابة بالفيروس، وعلى استعداد لتنفيذ توجيهات الصحة العامة.
مستقبل الانتخابات الرئاسية 2021
أما عن مستقبل الانتخابات الرئاسية في ظل التحديات السابقة، فيوضح الكاتب أن جميع الاحتمالات لا تزال مفتوحة، خاصة في ظل حالة التنافس السائدة بين الشرائح الممزقة، سواء من جانب التيارات السياسية التي دعمت "روحاني" أو عارضته. فيتمثل الاحتمال الأول في أن يقوم الائتلاف المحافظ، الذي تم تشكيله حديثًا من السياسات المجزأة في العقد الماضي، بطرح مرشح تنافسي لائق يخوض حملة إنعاش اقتصادي ويدعو إلى تكريم أرواح الشهداء الذين حاربوا الوباء بجدية.
أما الاحتمال الثاني، فهو تصاعد فرص مرشح إصلاحي معتدل، إلا أنه بعيد الصلة عن "روحاني"، بحيث يمكنه إعادة تغليف الوعود السابقة من خلال إلقاء اللوم على الحرس القديم، وتأييد الكوادر التي حشدت ضد مواجهة فيروس كورونا. ويمكن لكلٍّ منهما الحصول على دعم من مراكز سلطة الدولة لحماية أجنحته، وسيؤمن كلٌّ منهم الوعود بأن أمريكا بعد "ترامب" من المرجح أن تتفاوض معه أكثر من خصمه.
وفي المجمل، فإن كلا السيناريوهين قد لا يتحقق، حيث إن التنبؤ بالانتخابات في إيران، حتى قبل أشهر قليلة من انطلاقها، هي مسألة في غاية الصعوبة. فالسياسة الإيرانية أصبحت أكثر اضطرابًا، ولا يمكن التنبؤ بها في ظل عظم حجم الضغوط التي تتعرض لها.
المصدر:
Kevan Harris, "Pandemic Politics in Iran", Current History, Vol. (119), no. (821) (2020), PP. 338–342.