سعت الدول الأوروبية خلال الفترة الماضية، لاسيما منذ الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي في مايو 2018، إلى تبني خطوات متوازنة كان الهدف منها في الأساس هو الحفاظ على الاتفاق النووي ومنع انهياره، لاسيما بعد أن بدأت إيران في تقليص التزاماتها فيه رداً على العقوبات الأمريكية، لاسيما ما يتعلق برفع مستوى تخصيب اليورانيوم وزيادة كميته وتوسيع نطاق عمليات التخصيب لتشمل مفاعل فوردو إلى جانب مفاعل ناتانز.
لكن هذه السياسة لم تحظ بقبول طرفى التصعيد: طهران وواشنطن. إذ ما زالت الأولى توجه اتهامات للدول الأوروبية بالتقاعس عن تنفيذ التزاماتها في الاتفاق النووي، كان آخرها في 5 أكتوبر الجاري عندما قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية سعيد خطيب زاده أن "أوروبا أكدت عجزها على تنفيذ التزاماتها بالاتفاق النووي على مدى عام ونصف منذ خروج الولايات المتحدة منه".
في حين ترى إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن السياسة الأوروبية توجه رسائل خاطئة لطهران تدفعها إلى الإمعان في السياسة المتشددة التي تتبناها في الوقت الحالي، وتقلص من تأثير الضغوط والعقوبات الأمريكية. وفي هذا السياق، قال وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، في 20 سبتمبر الفائت، أن "الأوروبيين لم يقوموا بأي جهد لمنع تجارة الـسلحة مع إيران، عبر رفضهم دعم قرار واشنطن إعادة فرض العقوبات الدولية على طهران".
ويمثل هذا الملف تحديداً المحور الأساسي للخلافات الأمريكية- الأوروبية في التعامل مع إيران خلال الفترة الحالية. إذ لم تؤيد الدول الأوروبية مشروع القرار الذي تقدمت به الولايات المتحدة الأمريكية في مجلس الأمن في 15 أغسطس الماضي، وسعت من خلاله إلى تمديد الحظر المفروض على إيران في مجال الأسلحة الثقيلة، والذي لم تدعمه سوف جمهورية الدومينيكان فقط، كما رفضت قيام واشنطن، في 20 سبتمبر الفائت، بتفعيل آلية "الزناد" أو العودة التلقائية للعقوبات الدولية التي كانت مفروضة على إيران قبل الوصول للاتفاق النووي ورفعت بمقتضى القرار 2231.
اللافت في هذا السياق، هو أنه بالتوازي مع رفض أوروبا تمديد الحظر الأممي المفروض على إيران في مجال الأسلحة الثقيلة، كان هناك إصرار من جانبها على استمرار العمل بحظر توريد الأسلحة الذي يفرضه الاتحاد الأوروبي حتى عام 2023.
اعتبارات عديدة:
يمكن تفسير إصرار أوروبا على اتباع هذه السياسة، التي اعتبرت اتجاهات عديدة أنها تتسم بالتناقض، في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- الالتزام بالاتفاق النووي: تحاول أوروبا عبر هذه السياسة تأكيد أنها ما زالت ملتزمة باستمرار العمل بالاتفاق النووي، خاصة فيما يتعلق برفع الحظر المفروض على الأسلحة الثقيلة، وهو ما قضى به الاتفاق بعد مرور 5 سنوات على الوصول إليه، وهى رسالة تحاول الدول الأوروبية توجيهها إلى إيران تحديداً، ومفادها أن الالتزام بالاتفاق هو الشرط الأساسي لمواصلة تطبيقه، وذلك في إطار محاولاتها إقناع طهران بالعدول عن خطواتها التصعيدية المتتالية التي خفضت من خلالها التزاماتها في الاتفاق.
لكن هذه المحاولات لم تحقق نجاحاً يذكر في دفع إيران إلى تغيير موقفها، لاسيما أن الأخيرة ترى أن الدول الأوروبية تقاعست بدورها عن الالتزام بما قضى به الاتفاق، رغم معارضة الأخيرة للإجراءات الأمريكية، حيث أشارت إلى أن آلية "انستكس" لم تنفذ إلا عملية مالية واحدة فقط على سبيل المثال.
وبمعنى آخر، فإن الدول الأوروبية تحاول الإشارة إلى أن استمرار الحظر "الأوروبي" الخاص بتوريد الأسلحة على إيران لا يتناقض مع الاتفاق النووي، وقد أكد الاتحاد الأوروبي، في 16 يناير 2016، موعد رفع العقوبات الدولية المفروضة على إيران بعد الوصول للاتفاق النووي، على أن القيود التقييدية المفروضة على إيران في بعض المجالات، مثل الأسلحة، والتي استمر العمل بها بعد هذا التاريخ، ليست قسماً من الاتفاق النووي، حيث تتعلق بأسباب أخرى مثل انتهاكات حقوق الإنسان في إيران ودعم الإرهاب والتدخل في الصراع السوري.
2- تأثير الضغوط الأمريكية: ترى الدول الأوروبية أنه لا يوجد ما يؤشر إلى أن بعض الدول سوف تلتزم بتطبيق الإجراءات العقابية التي اتخذتها الولايات المتحدة الأمريكية ضد إيران لاسيما في مجال إبرام صفقات عسكرية، باعتبار أن تفعيل آلية "سناب باك" يشمل حظراً على الأسلحة، حيث ترى أن المواقف التي تبنتها روسيا والصين إزاء هذا القرار تحديداً توحي بأنها قد تقدم على إبرام صفقات عسكرية دون النظر إلى تداعيات ذلك على علاقاتها مع واشنطن.
ومع ذلك، ووفقاً للرؤية الأوروبية، فإن ثمة متغيرين مهمين قد يضعا حدوداً لمستوى ونوعية الصفقات التي قد تبرمها إيران في الفترة القادمة: الأول، يتمثل في الضغوط والأزمة الاقتصادية التي تواجهها إيران بسبب العقوبات الأمريكية، التي ساهمت في استنزاف قدراتها المالية بشكل كبير. وبعبارة أخرى، فإن إيران، طبقاً لتلك الرؤية، ليست لديها السيولة المالية الكافية لإبرام صفقات عسكرية نوعية مع روسيا أو الصين.
والثاني، يتعلق بمصالح روسيا والصين في الشرق الأوسط. وهنا، فإن هذا المتغير قد يكون أكثر تأثيراً في حالة الصين، التي تسعى إلى تطوير علاقاتها الاقتصادية مع بعض دول المنطقة، وتعزيز الاستثمارات والمشروعات المتبادلة، وهو ما يعني أنها قد تضع في اعتبارها تأثير إبرام أية صفقات عسكرية نوعية مع إيران على هذه العلاقات.
3- الاستحقاقات المؤجلة: تشير تصريحات المسئولين الأوروبين إلى أن الاستحقاق الأهم من الأسلحة الثقيلة، يتمثل في الحظر المفروض على الصواريخ الباليستية، الذي من المتوقع، وفقاً للاتفاق النووي، رفعه في عام 2023، بعد مرور 8 سنوات على الوصول للاتفاق، باعتبار أن هذه الصواريخ هى القادرة على تهديد المصالح الأمريكية والأوروبية بشكل مباشر. وهنا، فإن تلك الدول ترى أنه كان من الضروري عدم التصعيد مع طهران في الفترة الحالية بسبب الحظر على الأسلحة الثقيلة، انتظاراً لما سوف تؤول إليه الأوضاع قبل اقتراب موعد رفع الحظر المفروض على الصواريخ الباليستية.
وربما يمكن القول إن تلك الدول تستعد لهذا الاستحقاق من الآن، والذي يمثل، على عكس الحظر الحالي، محوراً للتوافق مع الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تشترك الرؤيتان الأوروبية والأمريكية في أن هذه الصواريخ خطر ليس على الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط وإنما على الأمن والمصالح الغربية بامتياز، كما أنها تتوافقان على أن الاتفاق النووي يمنع أية أنشطة خاصة بهذه النوعية من الصواريخ، بما يتناقض مع مزاعم إيران التي تقوم على أن ما جاء في الاتفاق لا ينطبق على مواصفات الصواريخ التي تمتلكها، باعتبار أنها، وفقاً لادعاءاتها، غير مصممة لحمل أسلحة نووية.
ختاماً، يمكن القول إن الدول الأوروبية تواجه مأزق الخيارات المحدودة في التعامل مع التصعيد الإيراني- الأمريكي المتواصل، خاصة أن حرصها على تأجيل الأزمة مع إيران لحين اقتراب موعد البت في رفع الحظر المفروض على الصواريخ الباليستية، يصطدم في المقام الأول بتداعيات التصعيد الحالي بين واشنطن وطهران، والذي قد يساهم في تبكير هذه الأزمة، باعتبار أن استمرار العمل بالاتفاق النووي حتى عام 2023 بات مشكوكاً فيه إلى حد كبير.