على الرغم من غياب إحصاءات دقيقة سواء على المستوى الوطني أو الإقليمي بشأن معدلات الهجرة غير النظامية من دول الإقليم إلى أوروبا، توضح مسار الصعود أو الثبات أو الهبوط، إلا أن ما تنشره وسائل الإعلام في عدد من دول الإقليم من واقع منهج "الملاحظة المباشرة"، فضلاً عن تصريحات بعض وزراء الداخلية وزيارات عدد من وزراء الخارجية الأوروبيين لدول الإرسال، تشير في مجملها إلى تزايدها في عام 2020،، وهو ما تفسره عوامل عديدة، تتمثل في زيادة رغبة المهاجر "الاقتصادي" في البحث عن أوطان بديلة، والتأثيرات الحادة لانتشار كورونا على الأوضاع المعيشية والأحوال الاقتصادية، وتزايد نشاطات العصابات الإجرامية العاملة في مجال تهريب البشر، ودعم السياسات التركية لتدفقات الهجرة غير النظامية، وسماح بعض دول المقصد (قبرص) باستقبال المهاجرين غير النظاميين.
دوافع عديدة:
تصاعدت المخاطر التي يتعرض لها المهاجرون غير النظاميين، في دول الإقليم مجدداً، بحيث يكون القطاع الأكبر منهم ضحايا الغرق والإساءة والاستغلال، وهو ما تعكسه المشاهد الميدانية لقوارب الموت، وتضخم مراكز الإيواء، ودخول دهاليز العصابات المحترفة. ورغم الأدوار التي تقوم بها القوات البحرية التابعة للجيوش النظامية وحرس الحدود وخفر السواحل للتصدي لمحاولات الهجرة غير النظامية، التي يقوم بها أفراد أو جماعات من دول الإقليم للوصول إلى دول أوروبية، إلا أن ثمة تكرارية في معدلات حدوثها، وهو ما يمكن تفسيره انطلاقاً من مجموعة من العوامل المترابطة، والتي تتمثل في:
أوضاع متأزمة
1- البحث عن أوطان بديلة: وهو ما ظهر جلياً خلال هذا العام مع تزايد هجرة اللبنانيين الذين أتوا من الأحياء والقرى الفقيرة في طرابلس وعكار والمنية شمال لبنان، وكان مقصدهم بعض الدول الأوروبية مثل قبرص واليونان، وربما يتخذها البعض الآخر محطة عبور لدول أوروبية أخرى. ويهدف قطاع من اللبنانيين إلى تغيير نوعية حياتهم بعد تأزم أوضاعهم المعيشية. وتجدر الإشارة إلى أن قوات حفظ السلام الدولية (اليونيفيل) والقوات البحرية التابعة للجيش اللبناني عثرت على بعضهم في المياه الإقليمية اللبنانية، وفقاً لما أشارت إليه بعض وسائل الإعلام العربية في 22 سبتمبر الجاري.
كوفيد-19
2- التأثيرات الحادة لانتشار وباء كورونا: رغم انتشار وباء كوفيد-19 في الدول الأوروبية وإغلاق الموانئ لشهور، لكن ظلت الهجرة غير النظامية مستمرة. وفي سياق آخر، لم تقتصر انعكاسات كوفيد-19 على أوضاع الصحة العامة في دول الإقليم، بل ألحقت خسائر اقتصادية متعددة بالمشروعات الاقتصادية التي كانت تدر دخلاً على المواطنين البسطاء خاصة في الدول التي يعتمد دخلها القومي على النشاط السياحي، مثل لبنان وتونس، فضلاً عن تأثيرها بدرجة كبيرة على صغار العاملين في قطاع السياحة، لاسيما أن الأخير تضرر بسبب الإجراءات الاحترازية، ومن بينها إغلاق المنشآت السياحية.
وفي سياق متصل، ذكر بيان لوزارة الداخلية الإيطالية في 30 يوليو الماضي أن الأزمة الصحية والاقتصادية الناجمة عن فيروس كورونا تسببت في حصول تدفق استثنائي للمهاجرين، وأن عدد الذين بلغوا السواحل الإيطالية "قد تضاعف في وقت قصير جداً"، حيث تعبر قوارب صغيرة البحر المتوسط قادمة من شمال أفريقيا دون أن يتم اعتراضها. في حين يشير اتجاه في الأدبيات إلى أن المهاجرين غير النظاميين هم أحد أكثر الفئات تضرراً من كورونا، ولعل وضع المهاجرين في اليمن والقرن الإفريقي يعبر عن ذلك.
شبكات الظل
3- تزايد نشاطات العصابات الإجرامية العاملة في مجال تهريب البشر: تشير الحوارات التي أجرتها بعض وسائل الإعلام مع العائدين من رحلات الهجرة غير النظامية من لبنان إلى بعض الدول الأوروبية بوضوح إلى محورية دور شبكات الإجرام المنظم في تسهيل رحلات الأفراد إلى الخارج. وكذلك الحال بالنسبة لعصابات التهريب العاملة في مجال تهريب التونسيين إلى إيطاليا، على جانبي الحدود.
ووفقاً لما أعلنت وزيرة الداخلية الإيطالية لوتشانا لامورغيزي في 17 أغسطس الماضي، فإن عدد المهاجرين الوافدين إلى إيطاليا ارتفع بنسبة تناهز 150 بالمئة خلال الأشهر الـ12 الأخيرة، معظمهم من تونس، وأضافت: "بين الأول من أغسطس 2019 و31 يوليو 2020، وصل 21618 مهاجر إلى السواحل الإيطالية، بزيادة قدرها 148,7 بالمئة مقارنة بعدد المهاجرين في العام الماضي (8691)"، ووفد نحو 41,6 بالمئة من المهاجرين من تونس، و40,5 بالمئة من ليبيا، في حين أن 12 بالمئة من بنجلادش و7 بالمئة من ساحل العاج.
كما تمكنت فرقة البحث والتدخل التابعة للمصلحة الولائية للشرطة القضائية لعين تموشنت في الجزائر، في 14 سبتمبر الجاري، بالتنسيق مع وحدة حرس السواحل بميناء بوزجار، من تفكيك شبكة وطنية متخصصة في تنظيم رحلات الهجرة غير الشرعية عن طريق الإبحار السري مقابل مبالغ مالية انطلاقاً من السواحل الغربية للبلاد، حيث يتم استدراجهم من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، والتي أسهمت في تزايد ظاهرة "الحراقة".
ابتزاز أنقرة
4- دعم السياسات التركية لتدفقات الهجرة غير النظامية: كانت تركيا تستقبل المهاجرين واللاجئين القادمين من بعض بؤر الصراع في ليبيا وسوريا، لكنها بدأت تسمح لبعض اللاجئين بالمغادرة إلى اليونان، منذ فبراير الماضي، والذين يضمون مهاجرين غير نظاميين. وهنا، صرح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أن بلاده لا تستطيع التعامل مع موجة جديدة من اللاجئين القادمين من سوريا، وأنه لا يستطيع تنفيذ اتفاق 2016، الذي أبرمه مع الاتحاد الأوروبي، حيث عاد اللاجئون السوريون الذين وصلوا إلى الجزر اليونانية إلى تركيا، في مقابل حصول الأخيرة على 6 مليارات يورو مساعدات من الاتحاد الأوروبي للمهاجرين واللاجئين.
فرص متاحة
5- سماح بعض دول المقصد باستقبال المهاجرين غير النظاميين: وهو ما ينطبق على قبرص، والتي تعد الدولة الأولى في الاتحاد الأوروبي من حيث عدد طالبي اللجوء قياساً إلى عدد السكان، وهو ما تشير إليه السياسات العملية، إذ سبق أن تم السماح بإنزال بعض المهاجرين اللبنانيين، حيث قال المتحدث باسم المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة في قبرص لوكالة الأنباء الفرنسية في 8 سبتمبر الجاري أن "أي شخص على متن قارب يطلب اللجوء يجب أن يُسمح له بالدخول، على الأقل بصورة مؤقتة لدرس طلبه".
ووفقاً لوزارة الداخلية القبرصية، فقد ارتفعت طلبات اللجوء في قبرص من 2.253 طلباً في عام 2015 إلى 13.648 في عام 2019. غير أن قبرص لم تعد قادرة خلال الفترة المقبلة على استقبال أعداد إضافية من المهاجرين الاقتصاديين لاعتبار محدد هو أن مراكز إيواء هؤلاء المهاجرين في الجزيرة باتت ممتلئة.
سياسات المواجهة:
تعددت السياسات التي تتخذ من قبل دول الإرسال ودول الاستقبال والمنظمات الدولية المعنية بالحد من الهجرة غير النظامية القادمة من دول الإقليم إلى دول أوروبا، على النحو التالي:
1- إيجاد صيغ لتعزيز التعاون الثنائي بين دول الإرسال والاستقبال: أرسلت الحكومة القبرصية، في 10 سبتمبر الجاري، وفداً إلى لبنان للتباحث بشأن قوارب الهجرة غير النظامية التي تحمل عدداً من المهاجرين اللبنانيين أو السوريين إلى نيقوسيا خلال الفترة الأخيرة، إذ تقع قبرص على بعد 160 كيلومتراً فقط من الساحل اللبناني، وترتبط الدولتان باتفاقية تنص على "إعادة إرسال" المهاجرين الاقتصاديين غير الشرعيين إلى البلد الذي انطلقوا منه.
2- دعم دول الاستقبال للجهود التنموية لدول الإرسال: فالجهود الأمنية ليست كافية للحد من الهجرة غير النظامية، الأمر الذي يتطلب دعم جهود التنمية في البلدان الأصلية والتشجيع على الهجرة النظامية، وهو ما اتضح جلياً خلال زيارة وزير خارجية إيطاليا لويجي دي مايو إلى تونس في 17 أغسطس الماضي، ورافقته وزيرة الداخلية لوتشانا لامورغيزي والمفوض الأوروبي المكلف بسياسة الجوار والتوسع أوليفر فارليي، إلى جانب المفوضة الأوروبية للشئون الداخلية إيلفا يوهانسون.
وفي هذا السياق، قال دي مايو من تونس إن "بلاده لن تسمح ببقاء مهاجرين غير قانونيين على أراضيها". كما شدد المسئولون الإيطاليون على "دعمهم السياسي والاقتصادي" لتونس وعزمهم على مساندة جهود البلاد للتنمية من خلال التشجيع على الاستثمار وإيجاد فرص عمل خصوصاً في المناطق الداخلية. في حين أعلن المفوض الأوروبي المكلف بسياسة الجوار والتوسع أوليفر فارليي في تغريدة على حسابه في موقع تويتر مساعدات مالية لتونس لإدارة حدودها ودعم جهودها للتصدي للهجرة غير القانونية بقيمة عشرة ملايين يورو.
لذا، أكد الرئيس التونسي قيس سعيد خلال لقائه بالوفد، وفق بيان للرئاسة التونسية، أن "قضية الهجرة غير النظامية هي مسألة إنسانية بالأساس لذلك لابد من معالجة أسبابها"، مضيفاً أن "الهجرة ليست الحل بل إن الحل يكمن في تعاون مختلف الدول من أجل إيجاد حلول تضمن بقاء هؤلاء المهاجرين في بلدانهم وهي مسئولية جماعية".
3- تشكيل قوات مختلطة من دول أوروبية لمواجهة قنوات مهربي المهاجرين: وهو ما اتبعته كل من إيطاليا وفرنسا، لمكافحة العبور الحدودي لسكان من مهاجرين غير نظاميين من منطقة فينتيميليا على الجانب الإيطالي إلى منطقة مانتون على الجانب الفرنسي، وفقاً لما أعلن وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان في روما بعد محادثات مع نظيرته الإيطالية لوتشانا لامورغيزي في 29 يوليو الماضي. وهنا تجدر الإشارة إلى وجود دوريات مشتركة بين شرطة الحدود في البلدين ولا يزال النقاش متواصلاً بشأن الإطار القانوني والموقع الميداني الذي ستتخذه هذه القوة التي ستصبح جاهزة للعمل في غضون أسابيع قليلة.
4- إطلاق النمسا منصة جديدة للتعاون الدولي في مجال الهجرة غير النظامية: خاصة عبر طرق البحر المتوسط، وهو ما جاء على لسان وزير الداخلية النمساوي كارل نيهمر خلال أعمال المؤتمر الوزاري الأوروبي الذي استضافته فيينا في 23 يوليو الماضي، بمشاركة وزير الداخلية الألماني هورست سيهوفر إلى جانب وزراء أوروبيين آخرين من الدانمارك واليونان وسلوفينيا وجمهورية التشيك وبولندا وسلوفاكيا وكرواتيا، إضافة إلى وفود دولية من المكتب الأوروبي لدعم اللجوء ووكالة الحدود وخفر السواحل الأوروبية والمركز الدولي لتطوير سياسات الهجرة وسفيري سويسرا والمجر في فيينا.
5- استمرار قيام المنظمة الدولية للهجرة بالبرامج التوعوية بمخاطر الهجرة غير النظامية: دشن مكتب المنظمة الدولية للهجرة بمصر مرحلة جديدة من التوعية بمخاطر تلك الهجرة، خلال ورشة عمل في 26 فبراير الماضي، حيث تنسق المنظمة الدولية للهجرة مع عدة جهات، منها وزارات الخارجية والقوى العاملة والهجرة واللجنة الوطنية التنسيقية لمكافحة ومنع الهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر ودعمت وزارة الهجرة بتنفيذ مبادرة "مركب النجاة"، والتي تهدف إلى توفير فرص عمل مناسبة للشباب بالقرى والمحافظات الأكثر تصديراً للهجرة غير الشرعية.
6- إطلاق خطة مساعدة مالية لمهاجرين في منطقة محددة: على نحو ما عبرت عنه خطة المنظمة الدولية للهجرة وشركاء من 27 منظمة إنسانية وتنموية وحكومات، في 5 أغسطس الفائت، بحيث يتم توفير 84 مليون دولار لتقديم المساعدة لآلاف المهاجرين الأفارقة والمجتمعات المضيفة لهم، المتأثرين بجائحة كوفيد-19، ممن تقطعت بهم السبل، وأولئك المحاصرين في ممر الهجرة الخطير، المعروف باسم الطريق الشرقي، في دول القرن الإفريقي واليمن.
7- زيادة قدرات البحث والإنقاذ في منطقة البحر المتوسط: دعا فنسنت كوشيتيل المبعوث الخاص للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشئون اللاجئين إلى توفير سفن تابعة لمنظمات غير حكومية، من أجل زيادة عمليات الإنقاذ التي تؤدي إلى النزول في موانئ آمنة خارج ليبيا، وهو ما جاء في أعقاب مقتل ثلاثة مهاجرين سودانيين في ليبيا بعد أن اعترضهم حرس السواحل الليبي مع مهاجرين آخرين في البحر في 28 يوليو الماضي.
مسارات متعددة:
ختاماً، يتضح مما سبق أن التحدي المتعلق بالهجرة غير النظامية يتطلب العمل من مختلف الأطراف، دول الإرسال ودول الاستقبال والمنظمات المعنية والمهاجرين، بحيث تتوافر السياقات المُحفزة للبقاء في دول الإرسال، أو على الأقل الحد من دوافع الطرد، مع توفير المسارات الدافعة للهجرة النظامية، وكذلك التمهيد لما يمكن تسميته بالعودة الآمنة وإعادة الاندماج والتأهيل داخل دولهم، في سياق مشروعات وطنية. ويظل التحدي الأكبر مرهوناً بالعمل على تفكيك شبكات الإجرام المنظم التي تعمل بشتى السبل على تسهيل الهجرة غير النظامية.