عرض: باسم راشد – باحث في العلوم السياسية
"إذا أراد الاتحاد الأوروبي الحفاظ على شرعيته ونفوذه العالمي بعد خروج بريطانيا منه، وفي ضوء التحديات المتعددة التي تواجهه، فيجب عليه –وفوق كل شيء– أن يتوقف عن وضع المنطق الاقتصادي قبل الواقع السياسي في الوقت الذي يجب فيه أن يحدث العكس".
مثَّل هذا الطرح محور مقال "ماتياس ماتيجس" (الأستاذ المشارك في الاقتصاد السياسي الدولي في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز) بعنوان "السياسة قبل الاقتصاد.. الطريق الأمثل لإصلاح الاتحاد الأوروبي"، الذي نُشر في دورية الشؤون الخارجية بعدد مايو/يونيو ٢٠٢٠، والذي دعا خلاله قادة الاتحاد الأوروبي إلى إعادة الاعتبار والأولوية للسياسة قبل الاقتصاد كواحد من أهم مداخل إصلاح الاتحاد وتعزيز شرعيته ونفوذه إقليمياً وعالمياً.
عيوب السوق الموَّحدة
يؤكد "ماتيجس" أن الأزمات المتعددة التي واجهت الاتحاد الأوروبي خلال السنوات العشر الماضية، تعود جذورها إلى ثمانينيات وتسعينيات القرن المنصرم؛ ففي معظم فترات ما بعد الحرب، كان التكامل الأوروبي يتبع منطقاً بسيطاً يعتمد على قيام الدول بتحرير اقتصاداتها وتعزيز العلاقات التجارية والاستثمارية، وفي الوقت نفسه تحتفظ بالسيطرة الوطنية على أدوات السياسة الهامة كالشؤون النقدية والمالية، والسياسة الصناعية، والمشتريات العامة، وسياسة سوق العمل.
لكن ابتداءً من عام 1985، قلب رئيس المفوضية الأوروبية الجديد آنذاك جاك ديلور، هذا المنطق رأساً على عقب، عبر تأسيس الاتحاد الأوروبي سوقاً مشتركة حقيقية بإلغاء جميع الحواجز غير الجمركية أمام التجارة، كما وضع الأساس لعملة موحَّدة، حوَّلت السيطرة على السياسة النقدية وأسعار الصرف إلى مستوى منطقة اليورو. وبحلول منتصف التسعينيات، أفسحت هذه السياسة المجال لنموذج جديد وضع الترابط الاقتصادي والمالي أولاً والسيادة السياسية ثانياً.
بيد أن هذا النموذج الجديد كان مَعيباً بشدة؛ إذ فشل الاتحاد الأوروبي في إنشاء المؤسسات فوق الوطنية التي تجعل التضامن المالي أثناء الأزمات ممكناً، كما مكَّنت السوق الموحدة من حرية حركة رأس المال، لكنها افتقرت إلى المؤسسات المشتركة لتنظيم هذه التدفقات. وكان من المفترض أن تعني العملة الموحَّدة سياسة نقدية مشتركة، لكن لم يكن لديها سيطرة على الأمور المالية لتخفيف الآثار غير المتساوية للأزمات المحتملة. كما غيِّرت المعاهدات البارزة في عصر "ديلور" الأسواق الأوروبية جذرياً من خلال تكريس خيارات سياسية اقتصادية محددة في اتفاقيات فوق وطنية لا يمكن تغييرها إلا من خلال التصويت بالإجماع.
وفي الوقت ذاته، تجاوز تركيز الاتحاد الأوروبي على القواعد الاقتصادية والمالية الصارمة أولوياته السياسية، ولا سيما الحاجة إلى تطبيق المبادئ الديمقراطية الأساسية وسيادة القانون، وهو ما ظهر عند توسُّع الاتحاد ليشمل عشر دول شيوعية سابقة في وسط أوروبا وشرقها؛ حيث لم يهتم قادة الاتحاد كثيراً بإمكانية التراجع الديمقراطي كتهديد رئيسي في بعض الدول الأعضاء الجدد، مثل المجر وبولندا، لديه القدرة على تقويض النزاهة الديمقراطية للاتحاد بأكمله.
عودة السياسة
أشار "ماتيجس" إلى أنه نتيجةً لما سبق، ظهرت أزمات منطقة اليورو المتكررة نتيجة الافتقار إلى اتحاد مالي ومصرفي على مستوى الاتحاد الأوروبي؛ ما أدى إلى اختلالات خطيرة في الاقتصاد الكلي بين الدول الدائنة والدول المدينة. لكن ما حوَّل مشكلة مالية يونانية يمكن التحكم فيها نسبياً في عام 2010 إلى أزمة ديون سيادية كاملة ومعدية هو هاجس الاتحاد بقواعد مالية صارمة وقدرة تنافسية على حساب المرونة على المستوى الوطني، وعجز الدولة الوطنية عن مواجهة الأزمة.
لكن إذا كانت السياسة الوطنية عاجزة في مواجهة أزمة الديون الأوروبية، فإنها عادت إلى الانتقام خلال أزمة الهجرة التي أعقبت عام 2015، خاصةً مع تزايد العبء على دول الدخول الرئيسية، ورفض بعض الدول نظام المحاصصة الألماني، بحجة أنه ينتهك سيادتها الوطنية، وانعكس انتقام الدولة الوطنية مرة أخرى في استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد في عام 2016.
كما ظهر الفشل السياسي للاتحاد أيضاً في انجراف دولتين من أعضائه نحو الاستبداد؛ هما: المجر وبولندا اللتان برغم أنهما لا تزالان تحتفظان بمؤسسات ديمقراطية رسمية، لا تفي أي منهما بالمعايير الدنيا للديمقراطية الليبرالية. فالانتخابات في البلدين حرة لكن غير نزيهة، وقد أزالت الأحزاب الحاكمة الضوابط والتوازنات المتعلقة بالسلطة التنفيذية، كما لم يعد القضاء في كلتا الدولتين مستقلاً.
وقد أطلق الاتحاد الأوروبي آلية للعقوبات ضد الدولتين تسمى إجراء المادة 7، يمكن أن تُجرِّد دولة عضواً من حقوق التصويت في المجلس الأوروبي، مع عقوبات أخرى. وتتطلب العملية إجماع كل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي (باستثناء الدولة المسيئة)، وقد وعدت كل من هاتين الدولتين الأخرى باستخدام حق النقض ضد أي عقوبات تُفرض عليها.
يؤكد "ماتيجس" أنه في العقود الماضية كان هناك توافق ودعم بين الفاعلين الرئيسيين في الاتحاد حول بعض السياسات والأفكار، لكن ذلك لم يعد موجوداً اليوم؛ فالرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" حدد رؤية طامحة لمزيد من التكامل المالي بين الدول الأعضاء. أما ألمانيا فيمكن القول إنها مرتاحة تماماً للوضع المؤسسي الراهن وغير راغبة في إجراء تغييرات جذرية. فيما تحلم إيطاليا بالعودة إلى الوقت الذي كان يمكن للدولة فيه استخدام أدوات تخفيض قيمة العملة والتحفيز المالي لتحفيز النمو الاقتصادي الوطني.
لذا سيتطلب التغلب على مشكلة الاتحاد الأوروبي الحالية من القادة الأوروبيين تقديم تنازلات حول مجموعة واسعة من المبادئ السياسية والاقتصادية. وبما أنه سيكون من الصعب الحفاظ على التزام ألمانيا بالنظام الحالي، نظراً إلى المعارضة المتزايدة في عدد من الدول الأعضاء، فإن أي حل وسط كهذا سيحتاج إلى تحقيق توازن بين الرغبة الإيطالية في مرونة أكبر في السياسة المحلية وبين الحلم الفرنسي بمزيد من التضامن بين الدول الأوروبية.
البحث عن توافق جديد
يؤكد "ماتيجس" أن هذا التوافق الجديد بين الدول الأعضاء سيتم على مستويين: المستوى الاقتصادي، والمستوى السياسي؛ فعلى المستوى الاقتصادي، يتطلب إصلاح الاتحاد تفسيراً فضفاضاً للقواعد المالية الحالية للاتحاد الأوروبي وبعض الانحرافات المؤقتة عن بعض مبادئ السوق الموحدة. وفي هذا الصدد قدَّم الكاتب بعض المقترحات على النحو التالي:
أولاً– إعطاء الحكومات الوطنية القدرة على أن تقرر بنفسها كيفية استخدام عائداتها الضريبية وإجراء مقايضات الميزانية، ودعم القطاعات المتأثرة مؤقتاً. وستسمح هذه المرونة مرة أخرى للناخبين بأن تكون لهم كلمة حقيقية في السياسة الاقتصادية، لمواجهة ما يسمى العجز الديمقراطي الذي عانى الاتحاد منه منذ بداية أزمة منطقة اليورو.
ثانياً– تطوير آليات أكثر وطنية لتقاسم المخاطر الاقتصادية، ولو كان القيام بذلك يتعارض مع العقيدة الاقتصادية. ففي أعقاب أزمة الديون، أنشأت دول منطقة اليورو اتحاداً مصرفياً يسمح للبنك المركزي الأوروبي بمراقبة البنوك الخاصة المتعثرة لإنقاذها، وحالياً يجب على أوروبا أن تضيف إلى هذا الاتحاد المصرفي ركيزة إضافية تتمثل في خطة تأمين على الودائع على مستوى منطقة اليورو، بهدف تخفيف العبء على أي دولة عضو إذا واجه أحد بنوكها أزمات.
ثالثاً– دفع الدول الأعضاء إلى تجميع بعض ديونها السيادية من خلال ما تسمى السندات الأوروبية؛ الأمر الذي سيجعل العودة المفاجئة لأسعار الفائدة المرتفعة أقل احتمالاً بكثير، ويعطي الحكومات الوطنية مساحة أكبر للحركة؛ ما يقلل خطر هروب رأس المال في أي أزمة مستقبلية.
رابعاً– إعادة النظر في دور البنك المركزي الأوروبي؛ فبدلاً من أن يقتصر على ضمان استقرار الأسعار، يجب أن يُسمح له بالقيام بأدوار أخرى تشمل العمالة الكاملة والازدهار الاقتصادي الشامل.
أما على المستوى السياسي فيؤكد "ماتيجس" أنه يجب على الاتحاد الأوروبي ألا يتنازل عن التزامه بالمبادئ الديمقراطية الليبرالية، والفصل بين السلطات، وسيادة القانون. ويتم ذلك من خلال وضع قواعد واضحة وصارمة ضد الدول التي تنحرف عن المبادئ الديمقراطية، مثل ربط الأموال التي يعطيها الاتحاد للدول المتخلفة اقتصادياً بشرط السلوك الديمقراطي الجيد. بالإضافة إلى ذلك، يجب على الأحزاب في البرلمان الأوروبي وضع قواعد واضحة لطرد أي ممثلين من الحكومات الوطنية الذين يقوضون ديمقراطية بلادهم.
وبالنسبة إلى أزمة الهجرة، ففيها شقان وفقًا للكاتب: الأول يرتبط بالهجرة الداخلية بين الدول الأوروبية التي ينبغي وضع قواعد لتحجيمها ولو كان ذلك صعبًا مع عدم الإخلال بمبدأ حرية حركة الأشخاص. أما الشق الثاني فيرتبط بالهجرة من خارج الاتحاد الأوروبي. وهنا يمكن للاتحاد تخصيص المزيد من الأموال لدوريات الحدود، والابتعاد عن لائحة دبلن القديمة نحو آلية توزيع أكثر عدالة لطالبي اللجوء.
استعادة النفوذ العالمي
في عالم عدائي متعدد الأقطاب شديد التنافس، أصبح الاتحاد الأوروبي أكثر أهميةً من أي وقت مضى للدول الأعضاء الصغيرة نسبياً. وكي يستعيد الاتحاد الأوروبي نفوذه الدولي كقوة عالمية، يقترح "ماتيجس" بعض مجالات النفوذ التي يمكن للاتحاد العمل من خلالها، وهي كالتالي:
أولاً– العلاقات النقدية الدولية: إذ إن لليورو القدرة على منافسة قوة الدولار. ولكن لتحقيق ذلك، تحتاج منطقة اليورو إلى سوق عملة أكثر سيولة. ويمكن أن يكون إضافة نظام تأمين على الودائع على مستوى منطقة اليورو وسندات اليورو خطوة نحو هذا الهدف. لكن سيظل الدور الدولي الأكبر لليورو هو السماح للاتحاد الأوروبي بإعطاء وزن مالي لمطالبه، والضغط على القوى المتنافسة مثل روسيا بأسلوب أكثر فاعليةً، تماماً كما فعلت الولايات المتحدة مع إيران.
ثانياً– التجارة الدولية: إذ إن السوق الداخلية الهائلة للاتحاد الأوروبي تجعل التجارة واحدة من المجالات القليلة التي يمكن للاتحاد أن يتفاوض فيها على قدم المساواة مع القوى العظمى، مثل الولايات المتحدة والصين، بل ويستخدمها كورقة مساومة لإجبار الدول الأخرى على تعزيز المصالح الأوروبية الأساسية، مثل الحد من انبعاثات الكربون وحماية حقوق الإنسان، كما أن التزام الاتحاد الأوروبي بالتعددية سيجعل العديد من الدول الأصغر بجانبه في أي نزاعات تجارية عالمية جديدة.
ثالثاً– تعزيز المنافسة في مجال الخدمات الصناعية والرقمية: خاصة في مواجهة الشركات الأمريكية والصينية العملاقة، مثل أبل وجوجل وعلي بابا وهواوي؛ إذ تمتلك أوروبا بالفعل شركة واحدة "إيرباص" وهي مجموعة فرنسية ألمانية–إسبانية متعددة الجنسيات تهيمن على السوق العالمية للطائرات التجارية في احتكار مع شركة بوينج الأمريكية. ولكن مع وجود خمس شركات فقط في الاتحاد الأوروبي من بين أكبر 40 شركة عالمية، لا يزال هناك الكثير من العمل لتعزيز المنافسة في هذا المجال. ويسعى بعض القادة الأوروبيين الحاليين إلى هذا الأمر، بما في ذلك إصلاح قواعد الاندماج في الاتحاد الأوروبي.
في ختام مقاله، يؤكد الكاتب أن أكبر عقبة قد تواجه هذه الخطوات هي المقاومة السياسية من ألمانيا، لكن المرحلة الحالية التي يمر بها الاتحاد تتطلب من المستشارة الألمانية "أنجيلا ميركل" أن تستخدم رأسمالها السياسي المتبقي لإثبات أن المزيد من القوة في أسفل الاتحاد الأوروبي سيعني المزيد من القوة الاقتصادية في القمة، كما أن التضامن في القمة سيعني مزيداً من الاستقرار السياسي في الأسفل. وربما يساهم وجود رئيسة المفوضية الأوروبية وزيرة الدفاع الألمانية السابقة "أورسولا فون دير لين" في إقناع زملائها الألمان بالحاجة إلى إصلاح جذري للاتحاد. كما يجب أن تكون أولوية المبدأ التوجيهي للاتحاد الأوروبي، السياسة مرة أخرى وليس الاقتصاد؛ من أجل مستقبل أفضل لدُوله في ظل العديد من التحديات الإقليمية والعالمية.
المصدر:
Matthias Matthijs, The Right Way to Fix the EU: Put Politics Before Economics, Foreign Affairs, May/June 2020, Vol. 99 Issue 3, p160-170.