رغم أن النتائج التي حققها تيار المحافظين الأصوليين في انتخابات الدورة الحادية عشرة لمجلس الشورى الإسلامي (البرلمان) التي أجريت في 21 فبراير 2020، توجه إشارات بأن النخبة الجديدة التي سوف تسيطر على أغلبية مقاعد البرلمان ستحرص على دعم التوجهات العامة للنظام الإيراني خلال المرحلة القادمة، لاسيما فيما يتعلق بانتهاج سياسة أكثر تشدداً إزاء الإجراءات العقابية الأمريكية والسياسات التي تتبناها الدول الأوروبية، إلا أن ذلك لا يعني أن إيران سوف تستبعد كليةً خيار التفاوض مع الولايات المتحدة الأمريكية، خلال المرحلة المقبلة. فالخيار مؤجل لكنه ما زال قائماً، وسيعتمد الاقتراب منه على متغيرات عديدة، مثل مدى قدرة النظام على مواصلة تحمل تبعات تلك الإجراءات، التي تتزامن مع اتساع نطاق الأزمات الداخلية والخارجية التي يواجهها، وآخرها انتشار فيروس "كورونا" على نطاق واسع داخل إيران.
اتجاه مستمر:
بات خيار التفاوض مع الولايات المتحدة الأمريكية مرفوضاً في الوقت الحالي داخل إيران، على نحو يبدو جلياً في ردود الفعل التي أثارتها تصريحات وزير الخارجية محمد جواد ظريف، في 25 يناير الماضي، وقال فيها أن "التفاوض مع واشنطن غير مستبعد حتى بعد اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني"، حيث شن المحافظون الأصوليون حملة ضده في وسائل الإعلام.
وجاءت نتائج الانتخابات البرلمانية التي أجريت في 21 فبراير 2020، لتشير إلى أن النظام سوف ينتهج سياسة أكثر تشدداً إزاء التعامل مع هذا الخيار، خلال المرحلة القادمة، حيث حصل المحافظون الأصوليون، بمختلف أطيافهم، على أكثر من 80% من المقاعد، ويتوقع أن يتمكنوا من السيطرة على رئاسة ولجان المجلس في دورته الجديدة.
وكان لافتاً في الفترة الأخيرة أن إيران حرصت على توسيع نطاق الخلافات مع الولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن أشار بعض مسئوليها إلى احتمال أن يكون لواشنطن دور في انتشار فيروس "كورونا" داخل إيران، حيث قال مساعد رئيس مجلس الشورى للشئون الدولية حسين أمير عبد اللهيان، في 28 فبراير الجاري، أن "الولايات المتحدة الأمريكية تدير حرباً بيولوجية ضد خصومها".
ومع ذلك، لا يمكن القول إن هذا الخيار بات مستبعداً تماماً، وأن التوتر والتصعيد سوف يصبحان باستمرار السمة الرئيسية للتفاعلات بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، وأن الجهود التي تبذلها بعض القوى من أجل التوسط لتقليص حدة هذا التصعيد لن تحقق نتائج تذكر في الفترة القادمة.
إذ أن ثمة اعتبارات عديدة قد تدفع النظام الإيراني، على المديين المتوسط والبعيد، إلى إعادة التفكير في هذا الخيار مجدداً، يتمثل أبرزها في:
1- تداعيات العقوبات: وصلت التأثيرات التي فرضتها العقوبات الأمريكية إلى ذروتها، حيث أدت إلى انخفاض الصادرات النفطية الإيرانية بشكل كبير، والتي بلغت، وفقاً لبعض التقديرات، أقل من 300 ألف برميل يومياً في يناير 2020. ويتوقع أن يستمر هذا الانخفاض خلال المرحلة القادمة على ضوء تصاعد حدة العقوبات التي تفرضها الإدارة الأمريكية عليها، حيث تسعى واشنطن إلى عرقلة أى محاولة من جانبها للالتفاف على تلك العقوبات. وهنا، فإن النظام قد يحاول، في المدى القريب، الاستناد إلى الاحتياطي النقدي الذي يصل إلى نحو 73 مليار دولار حسب بعض التقديرات، إلى جانب عوائد بعض الصادرات الأخرى غير النفطية فضلاً عن مساعيه المستمرة لمواصلة الصادرات النفطية، في سياق محاولاته استيعاب تداعيات العقوبات وعدم الاستجابة للمطالب الأمريكية بالوصول إلى اتفاق جديد بديل للاتفاق النووي الحالي. لكن هذه الأدوات في مجملها سوف يتراجع تأثيرها تدريجياً، سواء بسبب استمرار فرض العقوبات أو بسبب تراجع حجم الاحتياطي، بشكل لن يوفر خيارات عديدة أمام النظام في مرحلة لاحقة.
2- حدود التصعيد: كشفت تفاعلات إيران مع الضغوط الخارجية، لاسيما الأمريكية، التي تعرضت لها على مدى العقود الأربعة الماضية، عن أنها دائماً ما تسعى إلى فتح قنوات تواصل، مباشرة وغير مباشرة، مع واشنطن، لوضع حد للتصعيد القائم بين الطرفين وعدم تطويره إلى مراحل قد يصعب احتواءه خلالها. وقد بدا ذلك جلياً خلال العقد الأول، في ثمانينيات القرن الماضي، عندما وصلت طهران إلى تفاهمات مع واشنطن، رغم نشوب مواجهات عسكرية محدودة بين الطرفين خلال فترة الحرب العراقية-الإيرانية.
بل إن المباحثات السرية التي أجريت بين الطرفين وسبقت عقد مفاوضات جديدة بين إيران ومجموعة "5+1" والتي انتهت بالإعلان عن الوصول للاتفاق النووي في 14 يوليو 2015، بدأت خلال عهد الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد، وتحديداً في عام 2009، وهى الفترة التي تبنت فيها إيران سياسة خارجية متشددة، لاسيما تجاه الملفات الخلافية العالقة مع الولايات المتحدة الأمريكية.
هنا، يمكن القول إن سيطرة المحافظين الأصوليين على معظم مؤسسات صنع القرار، لاسيما في حالة ما إذا فازوا في انتخابات رئاسة الجمهورية التي سوف تجري في منتصف عام 2021 خاصة في ظل غياب مرشح التيار المعتدل الذي يمكن أن يخلف الرئيس حسن روحاني في منصبه، لا تضعف من احتمالات الوصول إلى صفقة مع واشنطن في الفترة القادمة.
3- استمرار ضغوط الشارع: وجهت نسبة المشاركة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة رسائل عديدة إلى النظام. إذ أنها وصلت، حسب بيان وزارة الداخلية الإيرانية، إلى 42.5%، وهى النسبة الأقل على مدار العقود الأربعة الماضية. وهنا، فإن القيادة العليا في النظام فضلاً عن المؤسسات النافذة فيه تدرك أن ذلك يعود، في قسم رئيسي منه، إلى أن السياسة التي يتبناها النظام، على المستويين الداخلي والخارجي، لم تعد تحظى بتأييد واسع من جانب الشارع، بدليل استمرار الاحتجاجات المتتالية سواء بسبب ارتفاع أسعار السلع، أو بسبب إسقاط الطائرة المدنية الأوكرانية أو غيرها.
وربما تكون نسبة المشاركة في العاصمة طهران هى الأهم بالنسبة للنظام، باعتبار أن طهران هى معقل الطبقة الوسطى التي كانت محور التحولات السياسية التي شهدتها إيران على مدار تاريخها خاصة أنها تضم نخبة التجار المتحالفة معه. إذ أن انخفاض تلك النسبة إلى 25% يوحي بأن مستوى الاستياء وصل إلى ذروته وأن المواطنين اختاروا تبني موقف عقابي ضد النظام بالعزوف عن المشاركة.
ومن دون شك، فإن إقصاء نحو نصف المرشحين للانتخابات عبر مجلس صيانة الدستور، كان له دور في انخفاض نسبة المشاركة، إلا أن ذلك لا ينفي أن الأزمات الداخلية التي تعاني منها إيران حالياً، وبدت انعكاساتها واضحة في انتشار فيروس "كورونا"، كان لها تأثير أيضاً، خاصة أن قطاعاً من الشارع يرى أن السبب فيها يعود إلى سياسات النظام.
من هنا، ربما يعتبر النظام أن استمرار هذه الأزمات قد يؤثر على شرعيته ويكرس الشرخ الحالي في العلاقات مع الشارع، بما قد يدفعه، لاحقاً، إلى محاولة توسيع هامش الخيارات المتاحة، عبر عدم استبعاد التفاوض مع واشنطن.
4- الترتيبات الداخلية: قد تكون إيران مقبلة على إعادة صياغة الترتيبات الداخلية في المرحلة القادمة، خاصة فيما يتعلق بملف خلافة المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي. ومن هنا، فإن النظام ربما يكون حريصاً على وضع سقف للتصعيد الحالي مع واشنطن، باعتبار أن الملفات الداخلية قد يكون لها أولوية في الفترة القادمة، لاسيما أن غياب قاسم سليماني قائد "فيلق القدس" عن المشهد ربما يكون له تأثير في هذا الصدد، في ظل النفوذ الواسع الذي كان يمتلكه في الداخل، رغم أنه كان مسئولاً في المقام الأول عن أدوار النظام في الخارج.
وعلى ضوء ذلك، ربما يمكن القول إنه رغم ردود الفعل الرافضة لتصريحات وزير الخارجية محمد جواد ظريف، إلا أن ذلك لا يعني في مجمله أن التصعيد أصبح هو الخيار الوحيد في التفاعلات بين طهران وواشنطن، فالجمع بين الأضداد دائماً ما كان سمة رئيسية في سياسة إيران الخارجية.