أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يصدر العدد الثاني من مجلة "اتجاهات آسيوية"
  • أ. د. نيفين مسعد تكتب: (عام على "طوفان الأقصى".. ما تغيّر وما لم يتغيّر)
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (بين موسكو والغرب: مستقبل جورجيا بعد فوز الحزب الحاكم في الانتخابات البرلمانية)
  • د. أيمن سمير يكتب: (هندسة الرد: عشر رسائل للهجوم الإسرائيلي على إيران)
  • أ. د. حمدي عبدالرحمن يكتب: (من المال إلى القوة الناعمة: الاتجاهات الجديدة للسياسة الصينية تجاه إفريقيا)

معضلة طريق الحرير:

كيف تتحدى أوروبا طموحاتِ الصين التجارية؟

13 يناير، 2020


عرض: شيماء ميدان 

منذ عقدين تقريبًا، ادّعت الصين أن اقتصادها المتوسّع قد عاد بالنفع على أوروبا، وحفّز نموها، وتنامي صادراتها وعمالتها، لكنّ الواقع بدا عكس ذلك تمامًا. ففي الوقت الذي بدت فيه الشركات الفردية الأوروبية مستفيدة من نمو الاقتصاد الصيني، كبّدت التجارةُ غير المتوازنة مع بكين أوروبا -في الواقع- أكثر من 1.4 تريليون يورو في السنوات العشر المنصرمة، وقوّضت النفوذ السياسي الأوروبي، حتى إن مبادرة "الحزام والطريق" ستجعل وضع القارة في الغالب يزداد سوءًا.

وفي هذا السياق، كشف "جوناثان هولسلاج"، رئيس قسم الأبحاث بمعهد بروكسل للدراسات الصينية المعاصرة، في كتاب بعنوان: "فخ طريق الحرير: كيف تتحدى أوروبا طموحات الصين التجارية؟"، مدى خطورة تلك الشراكة غير المتكافئة على أوروبا. وأوضح أهداف الصين السياسية والتجارية من مبادرة "الحزام والطريق"، ومدى تأثير تلك المبادرة على صناعات أوروبية محددة، من بينها صناعة الطائرات والروبوتات، طارحًا -في الوقت ذاته- بعض الأفكار التي من شأنها أن تُعزز من هيمنة دول الاتحاد الأوروبي على السوق العالمية. 

ينطلق الكتاب من فرضية رئيسية مفادها أن الصين تستخدم أوروبا كسُلّم للصعود إلى القمة، مستندًا في ذلك إلى تصريحات مسئولين بارزين، ورؤساء شركات صينية رائدة، وإلى بيانات تجارية وردت في أكثر من 100 وثيقة سياسية صينية. ولهذا يشدّد المؤلف على إعادة موازنة الشراكة التجارية مع الصين، ولا سيما في الوقت الذي يدرس فيه الاتحاد الأوروبي مسألة تشديد الرقابة على أعمال الصين التجارية واستثماراتها.

أهداف صينية

يشير الكتاب إلى أن الصين صاغت مبادرة "الحزام والطريق" بغية تحقيق مجموعة من الأهداف الحيوية، تبدأ من تفعيل التنمية المتوازنة عبر ربط المناطق الداخلية الأكثر تأخرًا مثل إقليم شينجيانج بخريطة التجارة العالمية، وذلك بهدف تحويل بكين من "مصنع العالم" إلى "عقله المُفكِّر".

وبحسب الكتاب، لا تقوم المبادرة الصينية على مفهوم المساعدات والدعم، لكنها تؤسس على تبادل المنافع التجارية والاستثمارية، وفتح الأسواق، وتسهيل التجارة البينية، واستغلال الموارد الكلية، ولا سيما البشرية منها. وقد نمت بالفعل قدرة بكين التنافسية في المجالات التكنولوجية فائقة الحساسية، بدايةً من صناعة الرقائق والبرمجيات إلى صناعة السيارات الكهربائية. ويضيف الكتاب أن المبادرة قد مكّنت الصين من إحياء وجودها الاستراتيجي حول العالم، ومن الهيمنة على بعض البحار والمحيطات، والحصول على أهم أسرار التقدم التكنولوجي.

شراكات تجارية

يذكر المؤلف أن التجارة مع الصين ظلت على رأس جدول الأعمال الأوروبي لفترة من الوقت. وقد كانت ألمانيا وفرنسا من أوائل الدول التي سعت لتوطيد علاقاتها مع بكين. وتتسابق الشركات والحكومات الأوروبية منذ عام 2008، أي منذ حل أزمة الديون الأوروبية، لجذب الاستثمارات الصينية؛ حيث سعت دول جنوب أوروبا للتقارب مع الصين بسبب قلة تضامن دول الشمال الغنية معها، والدول الشرقية رأت أن مد جسور التواصل مع الصينيين سيعزز موقفها تجاه دول الغرب. وبعدما صوّت البريطانيون على الخروج من الاتحاد الأوروبي، برزت الصين كمصدر بديل للندن لرأس المال الأوروبي. 

ويؤكد طريق الحرير الجديد التزام الحكومة الصينية بتقديم الدعم المالي والسياسي الشامل للشركات الأوروبية. ويذكر الكاتب أنه إذا كانت الولايات المتحدة قد استثمرت حوالي 130 مليار دولار في خطة مارشال بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية؛ فإن الصين تستثمر 1000 مليار دولار، أو تريليون دولار، ضمن خطة لتطوير التجارة، ووسائل النقل، وشبكة الاتصالات الخاصة بأوراسيا وإفريقيا.

وقد كُلّفت البنوك الصينية بدعم تلك المبادرة، وأُسندت إلى الشركات الصينية الكبرى المملوكة للدولة مهمة تنفيذ العديد من مشاريع البنية التحتية.

ولطالما أوضح مسئولون ورواد أعمال تجارية على مدى أكثر من عقدين أن صعود الصين سيصب في صالح أوروبا، وأنه كلما انفتح الاقتصاد الصيني على العالم ستتنامى أرباح الشركات الأجنبية، مؤكدين -في الوقت ذاته- أن زيادة تصدير المنتجات الأوروبية إلى السوق الاستهلاكية الصينية سيعزز نمو الاقتصاد الأوروبي إلى حد كبير.

مخاطر عدة

يشير الكتاب إلى أن مبادرة "الحزام والطريق" تنطوي على مخاطر عدة تتسم بها في العادة مشروعات البنية التحتية الكبيرة، والتي قد تتفاقم بسبب نقص الشفافية، وانفتاح المبادرة، وضعف العوامل الاقتصادية الأساسية ومستويات الحوكمة في العديد من البلدان المشاركة، وعجز بعض البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل على تحمل أعباء الدين على المدى المتوسط.

ويرى المؤلف أن الصين تشكّل تهديدًا اقتصاديًّا وسياسيًّا كبيرًا لأوروبا؛ حيث تحاول بكين من وقت لآخر إغراء دول أوروبية بعينها بخطط لتطوير البنى التحتية والموانئ، ما من شأنه أن يرفع من شأن دول دون أخرى، وأن يُحدث انقسامًا داخل القارة الأوروبية. 

وبدلًا من تعزيز نمو السوق العالمية، سعت بكين للنهوض بنفسها فقط على حساب الدول الأخرى، ما قوّض التقدم الأوروبي في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصّلات. فبحسب الكتاب، كشف صعود الصين نقاط الضعف الأساسية في اقتصادات أوروبا، وبيّن مدى عجز دولها عن تطوير تقنيات جديدة. فصناعة السيارات مثلًا تشبثت طويلًا بالديزل، وتحوّلت ببطء إلى الكهرباء، ومشاريع تحسين البنية التحتية تستغرق وقتًا أطول من اللازم لتنفيذها.

قلق أوروبي

في الوقت الذي بدا فيه السياسيون الأوروبيون قلقين بشأن عواقب صعود الصين على المدى الطويل، سعى العديد من خبراء مراكز الأبحاث والفكر لتوضيح أنه حتى لو حقق صعود الصين الكثير من الأرباح للشركات الأوروبية، فلا بد أن تواصل حكومات أوروبا متابعتها لمدى انتفاع المجتمع الأوروبي من مبادرة "الحزام والطريق". فقد سبق وأن حذرت بعض مركز الأبحاث الأوروبية من أن النفوذ الاقتصادي الصيني سيتبعه نفوذ سياسي، وأن الصينيين كثّفوا جهودهم للتأثير على النخبة السياسية والاقتصادية في أوروبا، وعلى الإعلام الأوروبي، والمجتمع المدني من أجل تعزيز مُثلها العليا الاستبدادية.

وتنتقد بعض التقارير الأوروبية الاتحاد الأوروبي كمنظمة ودوله لأنها لم تضع نهجًا استراتيجيًّا شاملًا يقلق من خسائر التعاون مع الصين في إطار مبادرة "الحزام والطريق" التي تُكسب بكين نفوذًا أكبر في أوروبا.

واستعرض الكتاب بعض أهم خطايا الصين، مثل: عدم موازنة الفوائض التجارية الثنائية، والمعاملة غير العادلة للمستثمرين والشركات الأجنبية، وممارستها السرقة الإلكترونية. ونوّه إلى أن بكين تضحّي بالمكاسب قصيرة المدى لتعزز من مكانتها بين دول العالم على المدى البعيد، ولتصبح أكثر قدرة على المنافسة في أسواق التصدير.

ورغم أن اقتصادات دول الاتحاد الأوروبي شهدت بعض النمو على مدى السنوات المنصرمة، ما زال صناع القرار يشعرون بالقلق ليس بسبب عجز أوروبا عن تطوير قطاعها التكنولوجي لمنافسة الولايات المتحدة فحسب، بل لاستغلال الصين لها أيضًا. فبكين -على حد قول الكاتب- تستغل التكنولوجيا، وتشوّه المنافسة والتجارة، وتمارس أعمال التجسس الحكومي، مقوّضةً أمن واستقرار العالم الصناعي. وبفعلها ذلك، أضحت التجارة العالمية تقوم على التنافس الصفري (أي فوز طرف واحد وخسارة الطرف الآخر كل شيء) بدلًا من الربح المتبادل، ما قوّض التقدم الأوروبي في مجالات عديدة.

استراتيجية جديدة

يرى "هولسلاج" أن الطرق التقليدية التي اتّبعها الاتحاد الأوروبي لإشراك الصين في الاقتصاد العالمي، من خلال دمجها في منظمة التجارة العالمية وتشجيع الاستثمار المتبادل معها، قد أثبتت فشلها، لأن بكين لا تهتم أساسًا بالصالح العام. وعلى حد قوله، أضحى من الضروري تقييم مدى فعالية الشراكة الاقتصادية الأوروبية-الصينية لأن جيل القادة الصينيين الجديد، الذي يتزعمه الرئيس الصيني "شي جين بينغ" أبدى رغبته في الحفاظ على الاحتكار السياسي للحزب الشيوعي، وفي مواصلة تطوير الاشتراكية كبديل للديمقراطية والليبرالية الغربية.

وعليه، حضّ المؤلف صناع القرار على التخلي عن الطرق التقليدية لتحرير التجارة، وعلى وضع استراتيجية جديدة للنهوض بالاقتصاد العالمي؛ استراتيجية تمارس من خلالها الحكومات "فن الحكم الاقتصادي"، أي استخدام السياسة التجارية لتحقيق غايات السياسة الخارجية.

وأردف "هولسلاج" قائلًا: "لتقييم مدى انتفاع المجتمع الأوروبي ككل من المبادرة الصينية، علينا أن نحصر المكاسب والخسائر، وأن نستكشف أرباح وخسائر الشركات، وأن نراقب مسار النمو الاقتصادي". 

وفي الختام، حض المؤلف الدول الأوروبية على الاتحاد، وعلى تطوير الأدوات اللازمة لتحقيق التقدم في كافة المجالات، وعلى وضع معايير تجارية أكثر قوة، وإعادة موازنة علاقتها مع الصين. وتمنى أن ينقل طريق الحرير الجديد أوروبا نقلة نوعية في المجال التجاري، وأن يصبح "صُنع في أوروبا" هو شعار المستقبل بدلًا من "صُنع في الصين".

بيانات الكتاب: 

Jonathan Holslag, “The Silk Road Trap: How China’s Trade Ambitions Challenge Europe”, (Cambridge: Polity, 2019).