بين إدلب وشرقي الفرات في سوريا من جهة، والتدخل في ليبيا من جهة أخرى، انتقلت العلاقة الدافئة المتعمّقة بين روسيا وتركيا إلى تناقضات ملموسة وتشنّجات متضخّمة. لا تزال القاعدة أن كلا الطرفين بحاجة إلى الآخر، وأنهما محكومان دائماً بالتفاهم. لكن ما تريده روسيا في سوريا تحصل عليه، ولا يعوّقها في ذلك سوى الولايات المتحدة. أما تركيا فما كانت لتنال ما حققته في سوريا إلا بموافقة أميركية وروسية، وبطبيعة الحال يلعب موقعها الجيو-استراتيجي دوراً في تنافس الدولتين على اجتذابها وتسجيل النقاط عبرها. وإذا كانت المتاخمة الحدودية وضرورات الأمن القومي وإشكالات المسألة الكردية زوّدت أنقرة بترسانة ذرائع للتدخّل في سوريا وانتزاع نفوذ ومصالح، فإن ليبيا قد تكون شأناً آخر. ففيما تسعى تركيا إلى تدشين سياسة مستقلة ومتفلّتة من الدولتين الكبريين، تريد أيضاً تمرير أجندتها الإقليمية المتّسقة مع التيار الإسلامي – الإخواني، وهذا إشكالي في حد ذاته.
تبقى «الاستقلالية» نظرية ونسبية، فأي دور تركي في ليبيا لا بدّ أن يمرّ بموافقة «أطلسية» غير متوفّرة حالياً، بل يبدو رجب طيب أردوغان هنا متجاوزاً الحلف ومتحدّياً له. أما الموافقة الأميركية فلا تزال غامضة وغير علنية، لكن المراقبين يرون في إقدام «حكومة طرابلس» على الطلب «رسمياً» من أنقرة إرسال قوات تركية دلالةً إلى عدم ممانعة أميركية. ومع الرفض الروسي الواضح للتدخّل التركي في ليبيا تجازف أنقرة بفقد بعض الامتيازات في سوريا، وربما يشكّل التصعيد في إدلب مؤشراً، كذلك الحدّ من مكاسب «المنطقة الآمنة» شرقي الفرات إذ لا ينفك أردوغان يشكو من أن التعهدات بـ «إجلاء الإرهابيين» (ويقصد بهم الأكراد) لم تنفّذ بعد من جانب الأميركيين أو الروس، علماً بأن هذا كان هدفه الرئيس من اجتياح المنطقة.
تنظر عواصم عربية وغربية بقلق إلى الموقف الأميركي الذي يحصر اهتمامه بمواجهة التدخّل الروسي في ليبيا، ولا يطرح أي مبادرة من شأنها إعطاء زخم لعملية سياسية عبر الوساطة الأممية، ذاك أن الانطباع السائد حالياً هو أن التدخل التركي وحده قد يُفسد هذه العملية، وإذا ترافق مع صراع بين الدولتين الكبريين، فإنه يصبح وصفةً لتعطيل أي حل. كانت العواصم المعنية تراهن على بلورة ضغط دولي يدفع الطرفين الليبيين إلى التفاوض على حلّ سياسي استناداً إلى أن أياً منهما لا يملك مقوّمات حسم عسكري لمصلحته، إذ لا يتوفّر له العدد والعدّة من الجند والأسلحة والسيطرة. في الوقت نفسه تعفّن الوضع «الحكومي» القائم في طرابلس وانكشف، فما يهمّ الميليشيات هو أن تبقى وأن تواصل حكومة فايز السراج تغطيتها سياسياً وتمويلياً، وهذا ما فعلته الحكومة طوال ثلاثة أعوام لكن شروط الميليشيات أفشلت مهمتها الأساسية كمسهّل لبناء عملية سياسية.
في الأثناء كان الجيش الوطني ينظّف نواحي عدّة في شرق ليبيا من بؤر الإرهاب التي ارتبط معظمها مباشرةً بميليشيات طرابلس، حتى أن هذه حاولت نجدتها في وقائع معروفة سواء في بنغازي أو درنة، بل دعمت أكثر من محاولة للسيطرة على حقول النفط وموانئ تصديره. وإذا كانت هناك دول ساندت الجيش الوطني فلأنها وجدت فيه نواة بناء دولة في ليبيا، أما الدول التي آزرت الميليشيات فأصبح واضحاً أنها معنيّة فقط بمصالحها، فلا دولة تُرتجى مع ميليشيات.
الفارق بين الموقفين الأميركي والروسي بالنسبة إلى ليبيا أن موسكو لا تحبذ لعب ورقة الإسلام السياسي أيّاً تكن الاعتبارات، أما واشنطن، فلا تحجم عن التجربة إما للعبث بموازين القوى أو لاستخدام الورقة كسباً للوقت ريثما تتضح لديها مصالح لتبني عليها سياسة. فهل آن الأوان لخطوة كهذه؟ سيجعل التدخّل التركي من السنة 2020 سنة احتدام الصراع الدولي والإقليمي على ليبيا، والأكيد أنه لن يمرّ كما تشتهي أنقرة، وستكتشف واشنطن سريعاً أنها تخطئ في عدم ضبطه، فلا الدول الإقليمية ستقف مكتّفة الأيدي إزاءه، ولا القوى الدولية خصوصاً روسيا ستتقبّله كأمر واقع. ثمة مخاطر كثيرة مستقبلية في ترك تركيا تحدّد نظام ليبيا وهويتها.
*نقلا عن صحيفة الاتحاد