الفرق بين زعيمين، واحد من المفترض أنه متمرس في السياسة، يريد تحقيق طموحاته التوسعية المتشددة على صهوة جواد الحروب، وآخر جديد في السياسة، وصل إلى رئاسة الحكومة في بلاده منذ أقل من سنتين، فأنهى حرباً طويلة بين بلاده إثيوبيا وآريتريا، أطلق السجناء السياسيين وفتح المجال واسعاً أمام الحريات السياسية، ساعد في انتقال السلطة في السودان، ويعمل على مصالحة الشمال مع الجنوب. وكذلك يعمل على نشر سياسة السلام والازدهار في كل القارة الأفريقية، إنه آبي أحمد الفائز بجائزة نوبل للسلام.
أما الرئيس التركي رجب طيب إردوغان فإنه عكس ذلك تماماً، من ليس معه فهو إرهابي، وهجومه الآن على شمال شرقي سوريا لم يؤد فقط إلى مجازر جماعية ضد الأكراد السوريين وبقية الإثنيات، بل إلى دق جرس النفير لإعادة إطلاق تنظيم «داعش».
أولاً وقبل كل شيء «داعش» لم يُهزم، لا في سوريا، ولا في العراق. لاحظنا أخيراً عودة ظهوره وإعادة تأمين موارده المالية، وتشكيل هيكل القيادة والسيطرة واللوجستيات والأماكن التي يهاجمها. كل ذلك يشير إلى أن التنظيم يستعد لمرحلة جديدة. إن خطر «داعش» قائم، وبينما يقيم بعض مقاتليه في غرب سوريا فإن تركيزهم يقع شرق وادي نهر الفرات. عندما تم شن الهجمات الأخيرة على الموصل في العراق لطرد «داعش» وكذلك في الرقة في سوريا، خرج التنظيم، وحمى غالبية قواته من المنطقتين، وحافظ على قوة صغيرة للبقاء والقتال حتى النهاية. يقول المفتش العام للبنتاغون إن عدد قوات «داعش» يتراوح ما بين 20 و30 ألفاً، والبعض يعتقد أنه قد يكون أقرب إلى 15 ألفاً.
في 16 سبتمبر (أيلول) الماضي، دعا زعيم «داعش» أبو بكر البغدادي المعتقلين في السجون العراقية والسورية إلى الخروج فعلياً من تلك السجون. أهمية هذه الدعوة، أنه عندما خرج تنظيم «داعش» من تنظيم «القاعدة» في العراق عام 2013، فعل ذلك من خلال شن حملة للخروج من السجون ومراكز الاحتجاز التي كان فيها في العراق. قامت قيادة «داعش» التي كانت خارج تلك السجون بالتنسيق مع أعضاء «داعش» الذين كانوا في الداخل وشنوا هجمات مذهلة، بما في ذلك كثير من السيارات المفخخة ضد السجون بطريقة منسقة، من أجل تجديد القوة القتالية للمعتقلين. أطلق «داعش» على هذه الحملة عبارة «كسر الجدران»، ثم نجح في أقل من عام في السيطرة على الموصل.
الآن يستعد «داعش» لحملة جديدة لإطلاق سراح مقاتليه من المخيمات السورية، والغزو التركي سيسهل ذلك. وهذا يعني أن «داعش» يريد فعلاً استعادة الأرض، إما للحكم أو للمساعدة في حرية التنقل وتأمين الملاذ الآمن، من أجل إعادة تشكيل قواته وإعادة إنشاء دولة الخلافة. قد لا يكون هذا هدفاً فورياً، ما يهم التنظيم الآن هو استعادة الوصول إلى الموالين له، من أجل أن يكونوا قادرين على المضي قدماً. من هنا خطورة الغزو التركي.
المعروف أن الأكراد هم الذين يتحملون مسؤولية المعتقلين الذين لا يخضعون لحراسة مشددة، وهذا يجعل الأكراد غير قادرين على منع «داعش» مما يحاول القيام به، وأشار تقرير المفتش العام للبنتاغون عن سوريا (صدر خلال الصيف) إلى قلق القيادة العسكرية الأميركية في المنطقة إزاء تطرف الأشخاص داخل مراكز الاحتجاز. وقال إن هذه المخيمات محمية فقط من الخارج، أي أن من فيها أحرار بتصرفاتهم ومعتقداتهم المتشددة.
من هنا خطورة الوضع. ويقول محدثي الأميركي، الذي لديه اطلاع كامل على الأوضاع هناك، إن عاصمة الخلافة موجودة «بمعنى ما» في مراكز الاحتجاز في الأراضي التي كان يسيطر عليها الأكراد السوريون داخل سوريا؛ حيث هناك 70 ألفاً من المعتقلين، أو في المخيمات المجاورة. وأطرح عليه أن الرئيس ترمب أمر بإجلاء بقية الجنود الأميركيين، فيجيب أن على أميركا الاحتفاظ بقوات في سوريا، لأنها «الغراء» الذي يحافظ على مساحة كبيرة من شمال شرقي سوريا مرتبط بعضها ببعض. إن القوات الأميركية توفر قدرات هائلة، في وقت يريد «داعش» إعادة بناء نفسه. هذه القدرات نحتاجها لوقت طويل في شمال شرقي سوريا.
مع تصعيد تركيا لعملياتها العسكرية للسيطرة على الأراضي في شمال شرقي سوريا، ولإقامة ممر بين سوريا وتركيا، ستكون مهمتها الأساسية طرد القوات الديمقراطية السورية من المنطقة.
تاريخياً، كانت أولوية الأكراد في الدفاع عن أرضهم ضد الأتراك تتقدم على دفاعهم عن أراضي الآخرين ضد «داعش»، والآن من دون الوجود الأميركي ستقوم القوات الديمقراطية السورية بإعادة الانتشار خارج المناطق، حيث «داعش» يشكل التهديد الأكبر، وتذهب إلى مناطق آمنة لعوائلها.
يعود محدثي إلى القول؛ تعتبر القوات الأميركية في شمال شرقي سوريا ضرورية لمنع الوكلاء الإيرانيين والوكلاء الروس ونظام الأسد من السيطرة فعلياً على الثروة الرئيسية هناك، أي حقول النفط في شرق سوريا، وهذا ما تتطلع إليه أيضاً تركيا من خلال غزوها الأخير، كما تفعل مع نفط قبرص اليونانية حيث بدأت هي أيضاً تحدي الحفر!
يضيف؛ وبمغادرة الولايات المتحدة لشمال شرقي سوريا، فإنها تقوّض الجهود المتضافرة التي فرضتها على النظام وعلى روسيا وعلى إيران عبر نظام العقوبات، من خلال منح هذه الأطراف إمكانية الوصول إلى آبار النفط والغاز التي تستطيع من خلالها إعادة بناء رفاهها الاقتصادي، كانت الفكرة أنه ليست للولايات المتحدة مصلحة جيوسياسية في شمال شرقي سوريا، باستثناء القضاء على «داعش»، لكن محدثي يقول؛ يجب أن نرى أن لها مصالح جيوسياسية تشمل «داعش» وإيران وسوريا، بالإضافة إلى تركيا والمنافسة بينها وبين روسيا. كان الوجود الأميركي في تلك المنطقة هو ما يقلل قدرة جميع الجهات الفاعلة الأخرى في المنطقة من تصعيد العنف، بعضها ضد بعض، بطريقة من المحتمل أن تزعزع الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط بأكمله.
الآن تحاول قوات «داعش» التأثير على القوة القبلية الموجودة في شرق سوريا، وخاصة القوات العربية؛ إذ يعيش العرب في معظم الأراضي، والأكراد في الجزء الشمالي من القطاع. لا يرى «داعش» نفسه يسيطر على المنطقة مرة أخرى هذه السنة أو السنة المقبلة، لكنه لم يستبعد النية، وعندما تتاح الفرصة سيبسط سيطرته على الأراضي بشكل رئيسي في سوريا، وأيضاً في العراق. كان يمكن ألا يحدث ذلك لو بقيت القوات الأميركية بغطائها الجوي، لكن الآن مع القوات الجوية التركية، ستتدخل القوات الجوية الروسية، وستتولى إيران الجزء الشرقي من سوريا. إذا غادرت أميركا بشكل نهائي، فإن الروس والإيرانيين سيفعلون ما يريدون.
إن سوريا دولة فاشلة، ولن تتغير إلى الأفضل في المستقبل المنظور، وسوف يعود «داعش» ويلتقي مع الإسلاميين المتشددين الذين دخلوا مع تركيا.
من ناحيتها، أكدت القوات السورية الديمقراطية أنها سمحت للقوات النظامية السورية بدخول أراضيها لوقف الهجوم التركي. إن هذا مسمار في نعش آمال الأكراد في الحفاظ على الحكم الذاتي في شبه دولتهم في شمال شرقي سوريا. تاريخ الشعب الكردي يؤكد أن العواطف معه لا تكفي. «وكلنا أكراد» لم تمنع من إسالة دمائه. مع الغزو التركي أيدٍ كثيرة تلطخت بدمائه، والفاجعة ستكبر وتتعمق.
*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط