يمكن أن يُنسب الأمر إلى المرشد الإيراني، أو إلى المتشدّدين، أو إلى الشروط المتوافق عليها بين جميع تيارات النظام، لكن النتيجة أن إيران فوّتت فرصة استجابة الوساطة الفرنسية التي ساندتها أيضاً بريطانيا وألمانيا، وهي الدول الثلاث التي تعوّل عليها طهران لكسر العقوبات الأميركية وتستخدمها للإيحاء بأنها تدير انقساماً بين الولايات المتحدة وأوروبا. ولم يكن واضحاً ما الذي قصده الرئيس حسن روحاني بقوله أن الأوروبيين نقلوا له استعداداً أميركياً لرفع العقوبات إذا حصل اللقاء بينه وبين الرئيس دونالد ترامب، لكنه مع ذلك رفض الفكرة. فهل أنه، أو المرشد، تمسّك برفع مسبق للعقوبات، أم أن إيران لم تكن معنيةً أساساً بلقاءٍ كهذا. الواضح أن براغماتيتها لم تعمل هذه المرّة، إذ غلّبت سياسة نيل كل شيء أو لا شيء، معتبرةً أن صراع الإرادات سيحقّق لها هدفها وهو إرغام ترامب على التراجع، مع علمها بأنه لن يفعل، وهو أكد ذلك من على المنير الأممي ثم في التغريدات، ولو أنها أجازت لروحاني بلقائه لامتحان وعده لما كانت لتضرّر أكثر أو أقلّ.
هنا أيضاً قد يُنسب الأمر إلى العقيدة الأيديولوجية، إلى مفهوم «المقاومة»، أو إلى مجرد العناد في العداء لأميركا، لكن النتيجة أن إيران لم تكسب شيئاً، حتى لو كانت تقديراتها المسبقة أن اجتماع ترامب - روحاني ليس مجدياً. لكنها ربما بدأت تخسر الأوروبيين، فهؤلاء لا يستطيعون الاستمرار في دورهم الحالي ما دامت طهران متصلّبة ولا تهتمّ بإنجاح وساطاتهم التي شكّلت، في نظرهم على الأقل، أفضل إطار دولي ممكن لتحريك الأزمة. أكثر من ذلك، حتى لو لم يتخلَّ الجانب الفرنسي عن مساعيه، فإنه خرج من هذه التجربة بانطباعين غير مريحين، الأول أن إيران توظّف الموقف الأوروبي في سجال غير مباشر مع أميركا، والثاني أن إيران لا تستبعد الخيارات الحربية، وإلا لما أفشلت البديل الذي عُرض عليها من دون أن تكون لديها بدائل سياسية أخرى. فحتى ما يتردّد عن «تقدّم» في المفاوضات السرّية لم يبدُ له أثر بعد.
ما ظهر فعلاً هو تلك الخيارات الحربية، وقد شكّل الاعتداء على المنشآت النفطية في السعودية ذروتها وبدايتها، وقد أرادته طهران رسالة إلى المجتمع الدولي، خصوصاً إلى الولايات المتحدة، عشية انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة. لذلك قال الرئيس إيمانويل ماكرون أن «المعطيات تغيّرت» بعد ضرب منشآت بقيق وخريص. صحيح أنه لم يعنِ وجوب الردّ على إيران، لكنه رأى أن التوازن في موقف فرنسا استوجب الانضمام إلى الموقفين البريطاني والألماني اللذين حمّلا إيران مسؤولية ذلك الاعتداء. فالتوسط بين الأميركيين والإيرانيين سعياً إلى «إنقاذ الاتفاق النووي» كان ولا يزال عند الأوروبيين مساهمةً في نزع فتيل الأزمة وليس العكس، ولذلك فهو لا يبرّر الإحجام عن إدانة عمل حربي خطير يستهدف الاقتصاد العالمي، بل إن السكوت عليه قد يبدو تزكية للاعتداء. لكن طهران لا تفصل بين «المعطيات» ولا تستجيب أي محاولة لتفكيك عناصر الأزمة، بل تريدها كلّها على الطاولة لتناور بها في أي مفاوضات، شرط الحصول على رفع مسبق للعقوبات.
مع ذلك أدركت طهران أن ضرب منشآت «أرامكو» والتعرّض لناقلات النفط وخفض التزاماتها النووية ورفض لقاء ترامب - روحاني من شأنها أن تقلب الموقف الأوروبي من الحياد المشروط إلى الخصومة المفتوحة، لذلك أقدم روحاني فور وصوله إلى نيويورك على سابقة، إذ رمى بورقة «إدخال تغييرات أو إضافات أو تعديلات» على الاتفاق النووي، وهو ما كان الأوروبيون ينصحون به طهران منذ أواخر عام 2017 لتفادي الانسحاب الأميركي من الاتفاق. لكن روحاني اشترط: «إذا رفعت أميركا العقوبات»، أي أنه لم يقدّم تنازلاً بل أراد فقط المناورة، ولم يدخل في التفاصيل. ورغم أن هذه الخطوة جاءت متأخرة، حاول الأوروبيون بيعها لدى الأميركيين الذين اشترطوا بدورهم أن رفع العقوبات لا يسبق التفاوض بل يأتي معه أو بعده.
أرادت المناورة الإيرانية حفز الأوروبيين على الضغط لانتزاع تنازل أميركي، ولما لم تنجح فقد استخلص المرشد أمام أعضاء «مجلس خبراء القيادة» أن «لا أمل» في الأوروبيين الذين «دخلوا في الظاهر كوسيط»، لكنهم «التزموا عملياً عقوبات أميركا، ولم يتخذوا أي إجراءٍ ومن غير المرجح أن يفعلوا شيئاً لإيران في المستقبل». المؤكّد أن الأوروبيين فقدوا أيضاً «الأمل» في إقناع إيران بالجنوح إلى الدبلوماسية والإقلاع عن خيارات المواجهة العسكرية.
*نقلا عن صحيفة الاتحاد