«مباريات الحروب أو War Games» هي نوع من أنواع التدريبات العسكرية التي تتم عادة في المدارس الحربية وفي التشكيلات المقاتلة، للتعامل مع واقع أو وقائع مشابهة لظروف القتال. وأحياناً ما يتم ذلك في ظل ظروف متشابهة مع التصورات الموضوعة للحرب. أذكر أنه خلال شهري مايو (أيار) وأغسطس (آب) 1973 شاهدت مباشرة أثناء تجنيدي في القوات المسلحة المصرية هذه المباراة الحربية الشاملة للتدريب على عبور قناة السويس، وهو ما اقترب كثيراً من الحرب الفعلية بعد ذلك في أكتوبر (تشرين الأول) من ذات العام. وفي العدد 30 من دورية «اتجاهات الأحداث» التي تصدر عن مركز المستقبل للدراسات المتقدمة، نشر د. محمد عبد السلام مقالاً تحت عنوان «War Games هل يمكن أن تقع (حرب كبرى) في الشرق الأوسط؟». المقال بدأ بوجود فرضيات كثيرة خلال السنوات الأخيرة عن احتمالات وقوع حرب، بين الولايات المتحدة وروسيا، نتيجة تماسهما العسكري على مسرح عمليات سوريا والعراق؛ وما بين إسرائيل وإيران، نتيجة مدّ هذه الأخيرة لـ«حزب الله» اللبناني بالصواريخ ووجودها العسكري المباشر في سوريا؛ ومؤخراً بين الولايات المتحدة وإيران؛ وغيرها من تصورات وتوقعات لحروب. في الواقع، هذه الحروب لم تقع، وإنما كانت هناك مجموعات من استخدام القوة العسكرية بشكل محدود، أو تشجيع عمليات عسكرية تحدث بالوكالة، حتى حلت «مباريات الحروب» مكان «الحروب الكبرى» القائمة على تشكيلات عسكرية كبيرة، واستخدام متكامل للفروع الأساسية للقوات المسلحة في البر والبحر والجو. أصبحت هذه المباريات بديلاً للحروب في الضغط والتأثير، نتيجة ألا أحد يريد حرباً شاملة نظراً لثمنها المرتفع مادياً وعسكرياً، وربما لأن تجربة حروب العالم ومنطقة الشرق الأوسط في هذا العصر تشهد على أن الحروب التي عرفت بداياتها لم يكن لها نهاية، أو أنها تستمر لفترات طويلة تتغير فيها تعريفات النصر والهزيمة، ولا ترك الحرب إلا مرارات وركاماً يستمر أجيالاً حتى يذوي. أفغانستان والعراق وسوريا وأوكرانيا شهادات على حروب وأزمات مزمنة.
المقال فيه ما هو أكثر، ولكن ما يهمنا في الواقع هو العودة إلى حكمة «كلاوزوفيتز» التي قالت إن الحروب هي امتداد للسياسة بوسائل أخرى؛ ومن ثم فإن هذه الوسائل الأخرى ممتدة من استخدامات المخابرات والوسائل السرية لإلحاق الأذى بطرف آخر، إلى المناورات العسكرية التي توحي بالحزم والاستعداد للتضحية، إلى «الحرب الكبرى» التي يتم فيها استخدام التعبئة العامة لقوة الدولة ونشر واستخدام قواتها المسلحة في كامل تشكيلاتها، وما بين هذا وذاك هناك كثير من درجات استخدام القوة، وما حدث خلال هذا العام وحده من قبل إيران والولايات المتحدة منذ الإعلان الأميركي عن الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني حتى الآن. استخدام القوة العسكرية لتحقيق أهداف سياسية جرى منذ تلك اللحظة، عندما قامت الولايات المتحدة بنشر قوات إضافية لزيادة الضغط على إيران، مضافاً إلى الضغط الاقتصادي الممثل في فرض العقوبات عليها ودفعها للتوقف عن إنتاج النفط الذي هو عماد الاقتصاد الإيراني (72 في المئة من موارد النقد الأجنبي للدولة). وفي الحقيقة، إن الولايات المتحدة نجحت في تحقيق تراجع ملموس في إنتاج النفط الإيراني، الذي هبط من أكثر من مليوني برميل في اليوم إلى نحو 100 ألف برميل، وهو الذي يعني عملياً «الصفر» الذي أرادت واشنطن الوصول إليه، ويؤدي إلى اختناق الاقتصاد الإيراني. وفضلاً عن مشاركة أساطيل أخرى مع الولايات المتحدة في حماية الملاحة في الخليج، فإن الاقتراب الكثيف من الموانئ والمنافذ البحرية الإيرانية هو إشارة لا تستطيع إيران تجاهلها. ويبدو أن «لقاء القدس» الذي أشرنا له في مقال سابق بين الولايات المتحدة وروسيا أعطى إشارة خضراء لإسرائيل لكي تطارد القوات الحليفة لإيران في سوريا والعراق، مثل «حزب الله» وقوات «الحشد الشعبي» مؤخراً.
إيران من ناحيتها استخدمت الضغط العسكري المباشر، سواء أكان ذلك بتفجيرات لناقلات، أو التحرش بها، أو الاعتداء غير مباشر على مضخات نفطية أو مطارات مدنية من خلال جماعة الحوثيين، مع تصعيد تكنولوجي بضرب طائرتين مسيرتين أميركيتين من خلال صواريخ متخصصة. النوعية الأخرى من استخدام الضغط العسكري المباشر كانت في المجال النووي حيث بدأت خطوات تدريجية لزيادة نسبة تخصيب اليورانيوم، وهو ما أعطاها مرونة عالية للتحرك بنسب منخفضة تكفي للإزعاج، دون أن تدعو إلى حرب فورية أو قصفة إسرائيلية على المحطات النووية. النوعية الثالثة من الاستخدام الإيراني كانت الاستخدام النشيط للجماعات التابعة والمتحالفة معها، سواء أكان «الحشد الشعبي» في العراق أو «حزب الله» في لبنان وسوريا أو الحوثيين في اليمن. والاستخدام هنا سياسي بقدر ما هو عسكري، فهذه التنظيمات أكثر منها جماعات مسلحة، فهي منافسة على السلطة السياسية في بلادها، ولها آيديولوجيا شمولية لتغيير خريطة المنطقة في اتجاهات راديكالية. وربما ضمن هذا الإطار يمكن حساب التقارب الجاري بين إيران ومنظمة «حماس» في فلسطين.
هذه التطورات العسكرية كلها تشمل «مباريات حرب» من ناحية، لأنها تركز على أهداف عسكرية، سواء أكانت افتراضية أم واقعية؛ ولكنها من ناحية أخرى استخدام للعنف المسلح لتحقيق أهداف سياسية. الهدف السياسي للولايات المتحدة هو نقض الاتفاق النووي، وتقييد قدرات إيران على الهيمنة الإقليمية، سواء على نظم مثل سوريا أو تنظيمات. والهدف السياسي لإيران هو الاستمرار في فصل الاتفاق النووي عن السلوك السياسي الإقليمي، التناقض بين الهدفين لا يزال سارياً ومتصاعداً، فهناك سباق تسلح ونشر للقوات واستخدامها بوسائل متنوعة. مثل ذلك يمكنه الدفع إلى مائدة التفاوض؛ والولايات المتحدة حاولت أن تدفع في هذا الاتجاه، عندما حاولت إغراء إيران بالتعاون في مصلحة مشتركة في أفغانستان، ولكن إيران حتى الآن مستمرة في التصعيد، عندما جعلت هدفها من التفاعل مع الولايات المتحدة ليس عقد اتفاق نووي جديد، وإنما عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق، الذي لا يزال جارياً مع الأوروبيين. الإشارة الوحيدة من جانب إيران أنها طالبت بعقد معاهدة عدم الاعتداء مع دول الخليج، في الوقت الذي كانت تمارس فيه الاعتداء عليهم!
هل تصلح «مباريات الحروب» في القيام بمهام الحروب نفسها. عرفناه كثيراً أثناء الحرب الباردة بين الغرب والشرق، فقد كان هناك سباق التسلح، والسباق إلى القمر، والتعبئة والمناورات، وحروب الأطراف الثالثة التي تقوم بها دول بالوكالة، أو تنظيمات بالإشارة.
ولكن الحرب الباردة انتهت بانهيار الاتحاد السوفياتي، وكانت المظلة التي منعت التحول من البارد إلى الساخن في الحرب هي الكثافة التي جرى بها تطوير الأسلحة النووية، إلى الدرجة التي جعلت للطرفين الأميركي والسوفياتي مصلحة في الحد من هذه الأسلحة، وخفضها من حيث العدد والمجال، وليس من حيث التأثير، وظلت الحرب الباردة قائمة على توازن الرعب النووي. الشرق الأوسط فيه اختلاط بين الحرب الباردة، وبعض أساليب الحرب الساخنة، وهي المباراة الحربية الجارية التي ربما لا تكفي الأعصاب المتوترة في المنطقة.
*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط