أخيراً تقدمت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي باستقالتها بعد ضغوط عديدة وقوية حاولت مقاومتها، لكنها لم تُفلح بحيث وصفتها مجلة «أتلانتيك» الأميركية بأنها «مُذِلة»، والواقع أن الاستقالات في عالم السياسة أنواع، فمنها استقالات «رجال الدولة» التي تضيف إليهم عزاً وكرامة، كاستقالة الرئيس الفرنسي شارل ديجول من منصبه في 29 أبريل 1969 بعد عدم موافقة 52.41% من الناخبين على برنامجه الإصلاحي الذي طرحه للاستفتاء، إذ اعتبره ديجول استفتاءً على الثقة به وأصدر بياناً شديد الإيجاز في الدقائق الأولى من يوم 29 أبريل الماضي نصه: «أُعلن توقفي عن ممارسة مهامي كرئيس للجمهورية ويصبح هذا القرار نافذاً اعتباراً من ظهر اليوم»، وأحدث القرار حينها صدمة، فقد كانت صورة ديجول أنه منقذ فرنسا في الحرب العالمية الثانية، والزعيم الذي عبر بها أزمة حرب التحرير الجزائرية ومؤسس الجمهورية الفرنسية الخامسة التي اتبعت سياسة استقلالية عن الولايات المتحدة، ومن ثم أصبح لفرنسا مكانتها الدولية المرموقة بسبب هذه السياسة، فأين هذه الممارسة الشامخة من رئيسة وزراء تُهزم في تصويت بمجلس العموم أربع مرات على خطتها للخروج من الاتحاد الأوروبي، والغريب أنها كادت أن تطرحها للمرة الخامسة، استناداً إلى تصور بلا أساس مؤداه أن معرفة أعضاء المجلس بنيتها تقديم استقالتها ستساعد على إقرار الاتفاق، وكأن اعتراض الأغلبية كان على شخصها وليس على فحوى الاتفاق.
ويجب أن يكون واضحاً كل الوضوح أن استقالتها لن تغير من الأمر كثيراً؛ لأن جوهر مشكلة «بريكست» هو الانقسام المروع الذي يميز هذه المسألة منذ بدايتها، وقد أشارت نتيجة الاستفتاء إلى شبه انقسام تام في المجتمع، فقد حصل أنصار الخروج على أغلبية لا تتجاوز 2%، وليس هذا بالتأكيد هو الوضع الأمثل لاتخاذ قرار استراتيجي بالبقاء في الاتحاد الأوروبي أو الخروج منه، وبعد ذلك لاحظنا أن الانقسام أصبح جغرافياً؛ بمعنى وجود رؤى متباينة بشأن بريكست كما في المواقف الأسكتلندية والأيرلندية، بل وامتد الانقسام «بين الأحزاب» إلى داخل الأحزاب، ويُلاحظ أن نتائج التصويت على المشروعات التي قدمها الأعضاء للخروج من المأزق كانت تشير إلى هزيمتها أحياناً بفارق ضئيل للغاية، مما يؤكد واقع الانقسام الذي يرى بعض المحللين أنه أخطر انقسام مر ببريطانيا منذ أزمة العدوان الثلاثي على مصر1956، وسوف يُختار رئيس جديد لحزب «المحافظين»، وسيتوقف عليه إمكان استعادة زمام المبادرة للحزب، وإنْ كان دور الحزب في حد ذاته لن يكون كافياً لعبور الأزمة نظراً لتعقدها؛ لأن الاتحاد الأوروبي لن يقدم أي تنازل جديد، وإلا كان معنى هذا أنه يساعد صراحة على عملية تفكيك الاتحاد.
لن يتحسن الاتفاق إذن من وجهة النظر البريطانية، لأن الاتحاد الأوروبي لن يسمح بذلك، وبالتالي سيكون أمام أنصار «بريكست خشن» بديل واحد وهو الخروج دون اتفاق وهو كارثة بحد ذاته على طرفي المعضلة، ولن تدعو حكومة محافظة لانتخابات مبكرة قد تخسرها، فهل يُطرح إجراء استفتاء جديد؟ يرفض أنصار بريكست إجراء هذا الاستفتاء على أساس أن الاحتمال قائم، بل وقوى، للتصويت مع معسكر البقاء، ولذلك يتذرعون بحجة أن الشعب قد قال كلمته، وهذا كلام سياسي، لأن كلمة الشعب لا يمكن أن تبقى على ما هي عليه مدى الحياة، وقد كان لبريطانيا أكثر من مراجعة لموقفها من عملية التكامل الأوروبي: ففي البداية رفضت الانضمام إلى اتفاقية روما عام1957 التي مثلت (الخطوة الأولى في عملية التكامل الأوروبي)، وعندما أعادت بريطانيا حساباتها وقررت طلب الانضمام اعترض الرئيس ديجول على انضمامها باعتبارها «حصان طروادة» للولايات المتحدة، ولم تتمكن بريطانيا من دخول الاتحاد إلا عام 1973 بعد أن غادر ديجول المسرح السياسي، غير أن بريطانيا ظلت تمثل «العضو المشاغب» في الاتحاد كما في الرفض الرسمي لارتباطها بمنطقة شنجن وبالعملة الأوروبية، وبعد أن كانت معارضة الاتحاد الأوروبي تأتى من اليسار البريطاني تبدل الحال بعد ذلك وأصبحت مرتبطة باليمين، وعلى الرغم من أن بريطانيا ليست أكثر الحالات وضوحاً لصعود اليمين المتطرف، فإنها كانت البادئة بخطوة تمزيق الاتحاد، ومع أن إجراء استفتاء جديد يبدو من وجهة نظري الحل الأمثل، فإن من شبه المؤكد أنه حتى لو كسب أنصار البقاء هذا الاستفتاء الجديد فإن الانقسام سيستمر.
*نقلا عن صحيفة الاتحاد